من التصدّي المسلَّح إلى المقاومة السياسية

ذُقنا مرارة الاستعمار الأجنبي كباقي أقطار أمَّـتنا يوم أضحَت خاضعة للاحتلال كُرهاً، ورَفَضنا الوجود العسكري والثقافي والسياسي والاقتصادي للآخر على أرضنا. وطيلة الفترة التي قضاها الاستعمار الفرنسي ونظيره الإسپاني بالمغرب (1912-1956) لم تهدأ الثَّـائِرة ضِدّهما، ولا نامت إرادات الأحرار في التصدّي لجبروتهما؛ فشهِد الشمال اندلاع انتفاضة الشريف محمد أمزيان؛ تَلتها الثورة الخطابية المجيدة (1919-1926)، التي كبَّدَت العدو خسائر فادحة، وألْجَأت نادي المستعمرِين القُدامى للتّحالف والدَّوس على المواثيق الدولية وأخلاقيات الحروب، فشنّوا هجوما عدوانيا على المنطقة الخليفية، كانت نواتجه استسلام البطل المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي[1]؛ والذي سيواصل معركة التحرير في جولة جديدة انطلاقا من القاهرة سنوات (1947-1956)، وسيترأس المغرب في شخص الأمير؛ جيش تحرير المغرب العربي؛ كأفق واسع لمعركة التحرير ضد الوجود الاستعماري في المنطقة المغاربية. وفي الأطلس المتوسط، كما الجنوب الشرقي، قادت القبائل الأمازيغية نضالات عظيمة ضدّ حملات العدوان الفرنسي. وفي الصحراء الشاسعة قاد الشرفاء من آل “ماء العينين” كبرى المعارك ضد الاحتلال الغاشم منذ 1914، ولم يبرُد وهَج المعركة إلا بَعد أنْ انسحبت آخر الطوابير العسكرية والأمنية الإسپانية من الصحراء أواخر 1978.

وقَبل توقُّف مشروع الانتقال من “القبيلة” إلى “الوطن” مع الحركة الخطابية؛ تَشَكَّلت أنوية الحركة الوطنية في فاس وسلا وتطوان ومراكش والدار البيضاء (1929-1930) مُتمِّمة مشروع التحرير، ومنتقِلة بالحُلم الخطابيِّ مِن “الوطن” إلى “الدولة”، مستَعمِلة مختلف وسائل المفاوضات والدفاع المدني والقانوني عن الأرض، ومنطلقة من الإصلاحات كمقدِّمة للاستقلال؛ فلما أحسّت الحركة الوطنية من الاستعمار الرغبة في التوطّن واستدامة الوجود؛ وتبيّنَت من نوايا حربائية المواقف الدولية؛ انتقلت إلى إستراتيجية الاستقلال كمقدِّمة للإصلاحات، وأَعْلَنت عن خيار المقاومة؛ فخاض جيش التحرير ومناضلي العمل الفدائي معارك ضارية في الشمال والجنوب والشرق والوسط والصحراء ما بين (1953-1959)، ولم يضَع جيش تحرير الجنوب السلاح إلى ما بعد سنوات من الاستقلال. وهاته المقاوَمات في إحدى تجلّياتها، مُطالَبَةٌ ميدانية ٌوسياسيةٌ بالاستقلال، كان مَدار صراعها ضد الاحتلال، لإخراجه من الأرض، وتحرير الإنسان، وتحقيق الاستقلال للوطن.

بيان 11 يناير 1944؛ الاستقلال حَقّ؛ لا مَـكرُمة  

مَطْلب المغاربة بالاستقلال بدأ مبكِّرا جدا، بحيث ما كادت تنصرم 18 سنة مِن عُمر الحماية، حتى أقدَمَ السيد عبد السلام بنونة معية أهالي منطقة الحماية الإسبانية بوثيقة مطالِبة بالإصلاحات اتخذ لها عنوان “عريضة مَطالب الأمّة” مؤرّخة بتاريخ 1930، وما كادت تنصرم ثلاثون سنةً عن معاهدة الاستعمار المباشِر؛ حتى كان حزب الإصلاح الوطني[2] بشمال المغرب على لسان الزعيم عبد الخالق الطريس يُصرِّح في جريدة “الحرية”[3] بضرورة المقاومة المسلّحة للحصول على الاستقلال. وسنة بعد ذلك؛ سيتقدّم حزبا (الإصلاح الوطني) و(الوحدة المغربية) بوثيقة المطالبة بالاستقلال، لتَليها الخطوة الأشهر في تاريخ النضال الوطني؛ تقديمُ حزب الاستقلال وشخصيات حرّة لوثيقة المطالبة بالاستقلال يوم 11 يناير 1944.

نحتفي في عامنا (2023م) هذا بالذكرى 79 لتقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال، التي تُجدِّد فينا فخْر الانتماء إلى الوطن والوطنية المغربية، والاعتزاز برجالاتنا ونساءنا وأبطالنا وعلماءنا وتاريخنا ومَجدِنا وأيام بواعِث نهضتنا، والإكبار في مَن سَبقونا كفاحَهم وصُمودَهم وفِدائيتهم ونشاطَهم وإنتاجَهم واستِماتتهم ووطَنِيتهم، وكذا اختلافهم وتنوّع أطروحاتهم. وهي الذكرى التي نتلقّفها مناسبةً سانحةً للتذكير بوجود أربَع وَثائق وطنية من الأهمية بمكان:

  • وثيقة المنطقة الخَليفية بالشمال التي تقدّم بها حزب الإصلاح الوطني وحزب الوحدة المغربية يوم 14 فبراير 1943؛
  • ميثاق لجنة تحرير المغرب العربي؛
  • مذكِّرة 23 شتنبر 1947 التي تقدّم بها حزب الشورى والاستقلال؛
  • مشروع دستور حزب الإصلاح الوطني الذي أنجزه يوم فاتح ماي 1954[4]؛

وهي الوثائق التي تَرتّب عن عدم ذكرها وتخليدها؛ تجاهُلٌ على مُستوى الإعلام والتلفزة والكُتب المدرسية والمحطات الاحتفائية لرُموز الشّمال الكبير (طنجة – وجدة)، وقادته السياسيين، وطلائعه الـمثقَّفَة، وعلمائه الكبار (محمد داود، محمد بن تاويت، أحمد الغنمية، العربي بن علي اللوه، عبد الرحمن الميري..)، ومنظمات حقوق الإنسان المبكِّرة (تاريخيا) فيه، ونشاط العمل الخيري والإحساني، وأدوار الشمال الريادية صِحافيا وفنيا وثقافيا[5]، وإسهامات مجتمعه المدني في دَعم القضايا الإنسانية العادلة (وعلى رأسها فلسطين)، وتأخُّرٌ في إنصاف ذاكرة الريف ورموزها وتراثها وبطولاتها.

واشتهرت عريضة 11 يناير 1944 _ المُصاغة بخط مغربي جميل، من إبداع المقاوم الأستاذ عثمان جوريو[6] _ مِن بين أخواتها، وذاع صيتها، وقرر الملك الحسن الثاني لاحقاً الاحتفاء بيوم 11 يناير من كل سنة عيدا وطنيا لكل المغاربة، مانعا الطريق على حزب الاستقلال لكي لا ينفرد بالحدث والذكرى.

طالَب قادة الحركة الوطنية بالإصلاحات، إلى أنْ بانَ لهم تهافُت هذا المَطْلَب، وحدوث تحولات في موازين القوى، واندلاع الحرب العالمية الثانية وصدور ميثاق الأطلسي؛ فأعلنوا مَطلب الاستقلال شعارا لهم وبرنامجاً وأولوية وحَقّا مشروعا، ووُعِد المغرب إبان الحرب العالمية بنيل استقلاله، إن هو كافح إلى جانب الحلفاء.

ناوَر الاستعمار 12 سنة أخرى دون تَمكين المغاربة من حقّهم والاستجابة لمضامين مطالب وثيقة 11 يناير 1944؛ وطالت مدة المفاوضات وتعدّدت التقديرات، فلا الاستعمار أظهر سياسةَ التعاطي الإيجابي مع التحولات والمطالَبات، ولا المغاربة _ بتأطير من خلايا المقاومة وقيادة الحركة الوطنية وخُطَب العلماء ودَعم محمد الخامس _ قبِلوا بواقع الحال ولا رَضُوا بهيمنة الاحتلال، فواصلوا تشبُّـثَهم بمطلب “الاستقلال” وفق شروط بيان 11 يناير والوثائق الأخرى، ثم أطْلَقوا العمليات الفدائية، فتأسيس جيش التحرير في الشمال والجنوب، واندلاع ثورة الملك والشعب.

إنّ مَطلب الاستقلال الذي كان حضوره مبكّرا جدا في أجندة المقاومين المغاربة، ومِن بعدهم الوطنيين والأحزاب، ثم الفدائيين وجيش التحرير؛ واستماتة هؤلاء جميعا من أجل تحقيقه؛ هو ما أفضى بالمغرب إلى أن يكون البلد العربي الذي قضى أقلَّ مرحلة عمرية احتلالية، إذ احتُلَّ عمليا سنة 1912، واستقلّ عمليا سنة 1956، وتدريجيا فيما يتعلّق بمناطقه الصحراوية.

الموقعون على وثيقة المطالبة بالإستقال

بلغ عدد الشخصيات الموقعة على وثيقة 11 يناير 1944 للمطالبة بالإستقلال 66 شخصية، ويمكن تصنيفهم من حيث التشكيلة المهنية والثقافية كما يلي:

– 20 من رجال التعليم؛

– 17 من التجار المتوسطين والصغار؛

– 13 موظفا في أسلاك الدولة؛

– 05 صحفيين وإعلاميين؛

– 04 من المحامين؛

– 02 من العلماء؛

– طبيب واحد؛

– واحد يعمل في الجندية.

نضالٌ مُستمِر.. من أجل مغرب حُرٍّ ومُستقر

تُــحَفِّز فينا ذكرياتنا الوطنية الرغبة في أن نكونَ _ مؤسسات تعليمية ومتاحف وإعلام وجمعيات وأُسَر _ صِلة الوصل مع عهود النضال المشترَك والجيل الحالي، وذلك بتخليد كل تلك المناسبات وقتما حلَّت ذكراها، وإعداد منشورات ووثائقيات تعريفية بها، وتنظيم ندوات ومحاضرات رقمية وحضورية، واعتماد أسماء قدماء المقاومين في تسمية المدارس، والأزقة والشوارع، وتنظيم أوراش ومسابقات في الهواء الطّلق تحتفي برموز الكفاح الوطني، وفي اقتناء الكتب التاريخية ومُدارستها مع الأبناء في المنازل ليكونوا على علم بتاريخهم..، وبغيرها من الفعّاليات التي تستثمر في وسائل تكنولوجيا الاتصالات المعاصِرة.

والمطلوب مِن كل جيل أنْ يكون في مستوى الأحداث التاريخية، يَصنعها، يُديرها، يؤثِّر فيها، يَبصم حضوره بأعمال ومبادرات وتضحيات، يُرسِّخ لقيمٍ تظَل خالِدة ولو انقرض ذاك الجيل. فما كان لأحداث قراءة اللطيف وتأسيس الحركة الوطنية وتقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال والمسيرة الخضراء أن تكون أحداثا تاريخيا لو لم يكن الأفراد حينها في مُستوى اللحظة، مُسايرين روحَ العصر، ناهضين بأعباء المسؤولية النِّضالية والدينية والوطنية.

والتاريخ حافل بالدروس، وهو ديوان العِــبــر، والخزّان الأعظَم للقِيم، تلك القيم التي ناضل بها ومن أجلها الأوّلون، ويستأنف على نهجها اللاحقون، والقادمون. فعلى الجيل الحالي أن يتعلَّق بمنظومة القيم وحُزمة الخصائص التي ميّزت مسار الكفاح الوطني، كالوفاء، والعطاء، والتضحية، والتخطيط، والذكاء في التعامل مع الظرفيات الداخلية والخارجية، وقيمة الوطنية، والرّوح الإيجابية، والتّـعاون على ما يَنفع البلاد، وروح الجماعة والنضال.

بهذا وغيره؛ نستمر أحرارا مستقلين، في مغرب حر آمن مستقل، ظافر وناهض.

المراجع
[1] المساري محمد العربي، محمد بن عبد الكريم الخطابي؛ من القبيلة إلى الوطن، منشورات المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 2014.
[2] الصفار: لحسن، حزب الإصلاح الوطني؛ دراسة تحليلية، منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، الطبعة الثانية، 2017
[3] المساري محمد العربي، ثقوب في الذاكرة؛ أربع وثائق وطنية، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، الطبعة الأولى 2014.
[4] المساري محمد العربي، ثقوب في الذاكرة؛ أربع وثائق وطنية، مرجع سابق.
[5] القبل) محمد ومنجب) المعطي، إشراف وتنسيق أعمال ندوة 5-6 أبريل 2008، شمال المغرب إبان فترة الحماية وبداية عهد الاستقلال، منشورات المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب، الطبعة الأولى 2014، الرباط.
[6] جوريو وفاء، عثمان جوريو؛ شخصيات في رائد، منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، الطبعة الأولى 2018، الرباط.