مقدمة

يبرز اسم عبد الخالق الطريس في سجّل التاريخ المعاصر كشخصية مغربية فريدة، أبانت عن مواهب متعددة، وتضحيات كبيرة من أجل الوطن شهد له بها القاصي والداني، فاكتسب في مسار كفاحه ضد الاستعمار الإسباني والفرنسي للمغرب شهرة تجاوزت شمال المغرب إلى كلّ زوايا البلد، بل تعدّت أرض الوطن لتخترق الأفاق مشرقا ومغربا.

نشأته وتعليمه

ولد عبد الخالق الطريس بالمدينة العتيقة تطوان يوم السبت 7 ماي 1910م، ونشأ في بيت شريف ذي حسب ونسب، فتلقى تكوينا قرآنيا بداية، ثم كان ممن حظي بتعليم عصري بمدرسة حرة أنشأها الوطنيون وهي المدرسة الأهلية، إلا أن هذه الوجهة لم تمنع ولعه بحضور الدروس في المساجد والزوايا[1].

ولمّا كانت مدينته عاصمة إدارية للاستعمار الإسباني أمسى لزاما على الشاب الذي يشقّ مساره العلمي أن يكتسب لغة هذه الإدارة (الإسبانية)، فبدأ بدراستها ابتداء من سنة 1926م، وبعد ذلك بسنة كان قد جمع ما يحتاجه الطالب في مرحلته الأساس ليلتحق بجامع القرويين لمدة سنة، ثم ارتأى أن يتوجه شرقا إلى مصر حيث توجد نهضة علمية ذات طابع قومي وإسلامي تجديدي، فدرس بالأزهر الشريف سنة 1929م، وبكلية الآداب بجامعة فؤاد الأول[2].

هذا المسارمنح الطريس مميزات فكرية جعلته من بين النخبة المثقّفة التي بلورت مشروعا ثقافيا وسياسيا يخالف التصور العتيق الذي كان سائدا قبل الحماية، وفي نفس الوقت لا يتوافق مع التصور الغربي الهادف إلى تجريد المغاربة من أصولهم وفصلهم عن ثوابتهم التي بها تتحدّد هويّتهم كمغاربة.

الطريس ناشطا مدنيا وثقافيا

عاد عبد الخالق الطريس من رحلة طلب العلم بالمشرق وهو متشبع بفكر النهضة الإسلامية الحديثة والقومية العربية، فأقدم على بثّ هذه الأفكار في أذهان الشبيبة التطوانية بواسطة نادي “عصبة الفكر” الذي نظم أمسيات لدراسة كتب الفلسفة وأقام ندوات في دار الطريّس التي كان يطلق عليها دار الأمّة، وكان الطريس بمثابة الأستاذ المقرّر نظرا لحداثة عهده بدراسة الفلسفة في كليّة الآداب بالجامعة المصرية[3]، كما أسس جمعية ثقافية أطلق عليها “جمعية الطالب المغربية” بتاريخ 23 مارس 1932م[1]، فكانت هيئة حاضنة لثلّة من الشباب؛ تدرّبوا وتكوّنوا على العمل المنظم وتشرّبوا ثقافة الوطنية فأمسى جزء منهم عماد “حزب الإصلاح الوطني” الذي تأسس فيما بعد[4].

وهكذا كانت معظم أنشطة الطريس تنصب بداية على مجال الثقافة وصناعة الوعي، لإدراكه أن فعل المقاومة يلزمه عمل كبير من الناحية الفكرية حتى يجد بيئة حاضنة مؤمنة بهدف الاستقلال ومدركة لمخاطر الاستعمار والتجزئة، فأقدم على تأسيس “جريدة الحياة” سنة 1934م، وترأّس تحريرها بين شهري مارس وأكتوبر من سنة 1934م[5]، كما نشط في تسويد صفحات معظم الصحف التي صدرت بمنطقة الشمال خلال الثلاثينيات والأربعينيات، بل إن كتاباته تعدّت الصحف المغربية إلى الصحف المصرية حيث نشر عددا من المقالات عن الظهير البربري تحت اسم مستعار: ط. خ. ع. أثناء إقامته بالقاهرة[6]، فضلا عن هذا ساهم في إحداث عيد الكتاب العربي على غرار عيد الكتاب الإسباني وقد تقدم باقتراحه إلى المقيم العام يوم 24 أبريل 1935م[7]، كما أشرف على تأسيس المعهد الحر في نفس السنة بمدينة تطوان، وهي مؤسسة كانت تستقبل الطلبة المتخرجين من المدارس الابتدائية لاستكمال مرحلة الإعدادي بعدما كان الطلبة يضطرون إلى التوجه شرقا نحو مصر وفلسطين لاستكمال دراستهم.

الطريس كرمز من رموز مقاومة الاستعمار

عمل الطريس كمدير عام للأوقاف الإسلامية بين أكتوبر 1934م وشتنبر 1935م، حيث كان هذا القطاع إلى جانب العدالة من مهام السلطة المحلية المتمثلة في الحكومة الخليفية[8]، ثم عاد ليشغل منصب وزير الأوقاف لأشهر (من 19 دجنبر 1936 إلى 27 مارس 1937م) بعد انقلاب فرانكو.

قاوم الشماليون الاستعمار الإسباني بالسلاح تحت قيادة محمد بن عبد الكريم الخطابي، وفي خضم المعارك التي خاضها المجاهدون ضد المستعمر بدأت تظهر بوادر حركة مقاومة تنزع إلى العمل السياسي وتتخذه وسيلة من أجل تحقيق هدف الاستقلال، وكان عبد السلام بنونة عرّاب هذه الحركة، ثم بعد وفاته سنة 1935م، انتقلت زعامة الحراك السياسي ضد الاستعمار إلى الشاب عبد الخالق الطريس الذي عمل مع رفاقه على توسيع آفاق الحركة الوطنية بالشمال[9].

إن أعظم إنجاز ساهم في تحقيقه الطريس هو تأسيس “حزب الإصلاح الوطني”، حيث كان من أبرز أعضاء لجنته التحضيرية، ثم تزعم الحزب بعد إعلان تأسيسه بشكل رسمي يوم 3 شوال 1355 الموافق ل 18 دجنبر 1936م، واستمرّ على رأس سدة الزعامة إلى أن تحققت غاية الاستقلال وقرّرت اللجنة التنفيذية للحزب إدماجه مع “حزب الاستقلال” يوم 18 مارس 1956م[10].

خلال هذه السنوات قدّم ألوانا وأشكالا من التضحيات المادية والمعنوية في سبيل طرد المستعمر وتوحيد البلاد، سواء بالتبرع المالي أو بالكتابة الصحفية أو برفع المذكرات لمختلف الجهات الداخلية والخارجية، كما ألقى في ذلك خطبا ومحاضرات بالمغرب والمشرق، وساهم في رصّ صف الوحدة الوطنية بتشكيل الجبهة القومية التي رفعت مذكرة إلى قناصل الدول الغربية في طنجة يوم 14 فبراير 1943م، طالبت فيها لأول مرة منذ فرض الحماية بإسقاط الحماية والاعتراف باستقلال المغرب[11]، كما كان أحد الزعماء الأربعة الذين وقّعوا الميثاق الوطني يوم 9 أبريل 1951م، بين الأحزاب الوطنية الكبرى (حزب الإصلاح الوطني وحزب الاستقلال وحزب الشورى والاستقلال وحزب الوحدة المغربية).

الطريس والإدارة الاستعمارية الإسبانية

نشأ الطريس في مدينة تطوان عاصمة الإدارة الاستعمارية، ثم تابع وهو يافع أحداث حرب الريف (1921م-1926م)، والمعارك التي كانت تدور بين قبائل جبالة وجيش الاستعمار، وتردّدت على مسامعه ومشاهداته أخبار الاستغلال الاستعماري البشع لموارد البلد، وقوانينه العنصرية التي تحطّ من مكانة الأهالي -المغاربة- مقابل إنزال المعمّرين منزلة أعلى، فحقّ لهذه النشأة أن تبثّ العداوة في فؤاد أي شاب مغربي لهذه الإدارة، غير أن عملية التحديث المادي والإداري التي أجراها المستعمر وإن بشكل محدود جعلت مواقف الطريس أميل إلى الوسطية في أساليب المقاومة.

بدأ الاحتكاك الفعلي لطريس بالإدارة الاستعمارية مع عودته من رحلة طلب العلم بالمشرق، فحاول إلى جانب إخوانه أن يستغلّ وجود الجمهوريين في السلطة (بين 1931م و1936م)، لكن التجربة أثبتت له أن أفكار كلّ المسؤولين الإسبان تتغذى من الذهنية الاستعمارية ولا فرق فيهم بين عسكري وجمهوري وملكي.

ومع الوثبة الأولى لعملية الانقلاب التي قادها فرانكو، كان موقف عبد الخالق الطريس واضحا من مساعي الإدارة الاستعمارية الإسبانية إرسال الجنود المغاربة للمشاركة إلى جانب فرانكو في الحرب الأهلية، معبّرا عن رفضه إقحام المغاربة في قضية داخلية لإسبانيا، فكان ثمن هذا الموقف سيكون قاسيا بمحاكمته محاكمة عسكرية في سياق إسباني دموي، إلا أن تدخلات خليفة السلطان الحسن بن المهدي أفضت إلى الحكم على الطريس بالإقامة الجبرية.

رغم مواقفه الصارمة تجاه الاستعمار الإسباني حظي الطريس بعلاقات جيّدة مع السياسيين والمثقفين الإسبان، لذلك كانت حدّة علاقته بالمسؤولين تتغيّر من إدارة إلى أخرى، ولعلّ أسوأها إدارة الجنرال باريلا (Varela) الذي حكم على الطريس بالنفي بعد منعه من العودة إلى تطوان فبراير 1948م، واستمرّ الطريس منفيا بطنجة إلى فبراير 1952م.

ستساهم عوامل مختلفة في تيسير مفاوضات الطرّيس مع الإسبان منها وفاة الجنرال باريلا 24 مارس 1951م، وتعيين الجنرال فالينيو (Valiño) بعد أسبوع، هذا الأخير سيبدأ مهمّته بإظهار نوع من التفاهم مع الحركة الوطنية بالشمال كسياسة لتهدئة الأوضاع، لكن الطريس كان على بيّنة من المخطط الإسباني، كما كان مستوعبا بأن عرض فالينيو المتمثل في تنصيبه -الطريس- كوزير للشؤون الاجتماعية في الحكومة الخليفية من مفاتيح تقرّب إدارة من الحركة الوطنية، فقبل ذلك لأن العرض تزامن مع نفي السلطان محمد بن يوسف 1953م، وكانت الحركة الوطنية الشمالية في أمس الحاجة إلى توفير ساحة آمنة للمقاومين الفارّين من المنطقة السلطانية وإمداد البقيّة بالسلاح والمساعدات.

ما إن عاد السلطان من المنفى حتى قدّم الطريس استقالته من منصب وزارة الشؤون الاجتماعية في الحكومة الخليفية يوم 9 يناير 1956م، حتى لا يساهم في تماطل الإسبان عن الانجلاء من أرض الوطن، وهنا تبرز مرّة أخرى تلك الروح الوحدوية لهذا الرجل في سلوكه كما برزت على مدى حياته الوطنية والسياسية[12]، كما ساهم في اتخاذ قرار اندماج حزب الاصلاح في حزب الاستقلال (16 مارس 1956م)،مضحيّا بزعامته من أجل إحالة مبدأ الوحدة إلى مؤسسات واقعية، لقد كان هذا القرار تكريسا لمبدأ المواطنة فجنّب المغرب وجود أحزاب تقوم على أساس مناطقي ذي نزعة أشبه ما تكون بالقبلية.

مسؤوليات الطريس في المغرب المستقل

بعد اعتراف إسبانيا باستقلال المغرب يوم 7 أبريل 1956م، أمسى المغرب على أعتاب تحولات كبيرة، أعمقها تلك التي مسّت مكانة زعماء الحركة الوطنية، حيث انقلب التعاون إلى صراع، وتجلّت صعوبة تصفية الاستعمار وتدبير تضارب المصالح بين مختلف الجهات الداخلية والخارجية، في خضم هذه الحوادث اختار الطريس طريقا واضحا، وهو التنازل عن مكانة زعامة الشمال والانخراط في عملية بناء الدولة واستكمال الوحدة الترابية من موقع مسؤوليات مختلفة أهمها: سفير للمغرب بإسبانيا، ثم بمصر ولبنان وسوريا، وفي فاتح شتنبر 1960م، أصبح وزيرا للعدل، وأثناء شغله لهذا المنصب تولى سلطات رئيس الدولة حينما خرج الملك وولي العهد في مهمات دبلوماسية خارج المغرب (شتنبر-أكتوبر 1960م)، كما انتخب ممثلا برلمانيا لمدينة تطوان في أول برلمان سنة 1963م[2].

وفاته

سلّم الطريس الروح لبارئها يوم 27 ماي 1970، بمدينة طنجة ودفن في مسقط رأسه تطوان، مخلّفا وراءه ذكرا محمودا وأثرا مرصودا، ونموذجا يحتذى في البذل من أجل الوطن، والالتحام بقضايا الناس، فظفر بحبهم وتقديرهم، فليس من الغريب أن يجري على ألسنة العامة من معاصريه الثناء عليه وقليل ما يحظى أهل السياسة بهذه المكانة في مجتمعاتهم، رغم الخيبة التي عمّت في الشمال بعد الاستقلال من جرّاء إهمال الكثير من نخبه التي قدّمت الغالي والنفيس في مسيرة التحرير، إلا أن ذاكرة أهل الشمال والمغاربة عموما تسجّل اسم عبد الخالق الطريس كزعيم للمقاومة في مرحلة الاستعمار أكثر منه سياسي ودبلوماسي بعد الاستقلال.

المراجع
[1] محمد ابن عزوز حكيم، أطلس زعيم الوحدة عبد الخالق الطريس، مؤسسة عبد الخالق الطريس، الطبعة الأولى، تطوان،سنة 2008م، ج1، ص 53 و54.
[2] محمد ابن عزوز حكيم، "عبد الخالق الطريس"، معلمة المغرب، ج17، ص 5733.
[3]  ب.م، الأستاذ ابن الأبار، سلسلة رجالات المعهد الحرّ، مطبعة المهدية، تطوان، 1975م، ص 18.
[4] أحمد الحبشي، "سيرة عبد الخالق الطريس مدخلا لتاريخ مقاومة الحماية الإسبانية بمطنقة شمال المغرب (قراءة في مذكرة تاريخية)"، المجلة العربية للدراسات التاريخية، العدد الثاني، 2021، ص 425.
[5] مادة: جريدة الحياة، معلمة المغرب، ج10، ص 3643.
[6] محمد ابن عزوز حكيم، معلمة المغرب، ج17، مرجع سابق، ص 5733.
[7] محمد ابن عزوز حكيم، معلمة المغرب، ج17، مرجع سابق، ص 5734.
[8] محمد ابن عزوز حكيم، معلمة المغرب، ج17، مرجع سابق، ص 5733 و5734.
[9] أحمد زياد، عبد الخالق الطريس كما عرفته، ص 29.
[10] محمد الفلاح العلوي، "مسار حزب الإصلاح الوطني"، مجلة الأمل، العدد 10-11، 1997، ص 59.
[11] محمد حسن الوزاني، مذكرات حياة وجهاد التاريخ السياسي للحركة الوطنية التحريرية المغربية، مؤسسة محمد حسن الوزاني، ج6، 1986، ص 80.
[12] أحمد زياد، عبد الخالق الطريس كما عرفته، مرجع سابق، ص 43.
14 محمد ابن عزوز حكيم، معلمة المغرب، ج17، مرجع سابق، ص 5735.