مقدمة

تعتبر مدينة طنجة – أو عروس الشمال كما يحلو للبعض وصفها أو عاصمة البوغاز كما يحلو للبعض الآخر- من المدن المغربية العريقة، فهي من بين أقدم الحواضر المعروفة بالمغرب، وهي وليدة مسار تشكل تاريخي طويل، يجد جذوره العميقة في عدد من الحضارات والثقافات التي مرت من المدينة ومن المغرب بصفة عامة. وبالنظر إلى هذا التاريخ الطويل والغني، فقد نال البحث في معاني كلمة “طنجة” نصيبا مهما من المحاولات التي حاولت تحديد معنى إسم “طنجة” وأسباب تسميتها بهذا الإسم. وهذه المحاولات امتزج فيها ما هو أسطوري بما هو تاريخي وعلمي وطبونيمي (Toponymie) ، فاقترحت أصول ومعاني عديدة لهذا الإسم. وتبقى المحاولة التي قام بها المؤرخ أحمد التوفيق من المحاولات الجادة والفريدة التي قدمت تفسيرا طبونيميا لمعنى طنجة وذلك بالرجوع إلى اللغة الأمازيغية، أي لغة ساكنة المنطقة (الأمازيغ) أيام تأسيس المدينة، وهي المحاولة التي سنفصلها في هذه المادة.

فقد اشتهر اسم “طنجة” منذ القدم، حيث ذكره، بصيغ مختلفة العديد من الرحالة والكتاب القرطاجيين والإغريق والرومان، والمسلمون، منهم حانون وبلينوس الشيخن وبطليموس الجغرافي، وليون الإفريقي (حسن الوزان)، ومارمول كاربخال، وأبو عبيد الله البكري…[1]

جدل التأسيس بين العلم والأسطورة

لقد ربطت عدد من الكتابات القديمة، وخاصة منها الإغريقية واللاتينية، تأسيس مدينة طنجة بقصة الطوفان، وما وقع بعده من صراع بين العملاق “أطلس”، رمز القوة البحرية عند “الإيجيين”، وبين العملاق “أنطي”، وأن طنجة حسب ما ذكره بونيفيوس ميلا في القرن الأول الميلادي، إسم أرملة أنطي الذي لقي مصرعه على يد أطلس. ويقال أن “سوفاك” هو من بناها تذكارا لأمه، وهو ولدها من العملاق الذي قتل زوجها أنطي.[2]

كما يمكن للقارئ أن يقف على أسطورة أخرى حول قصة تأسيس طنجة وكذا إسمها، ويتعلق الأمر بربطها بقيام هرقل (ميدكارت الفينيقي) بشق المضيق (مضيق جبل طارق) بعد أن تشكَّى الأفارقة من هجومات الجيران الشماليين.[3]

وهناك رواية أخرى تربط تأسيس مدينة طنجة بملك اسمه “شداد بن عاد” الذي كانت له السيادة على العالم، وأنه أراد أن يبني مدينة شبيهة بالفردوس الأرضي. كما أن عددا من المؤرخين يرجعون تأسيس طنجة إلى الرومان. وهناك مصادر أخرى تذكر أن أصل مدينة طنجة هو قرية أمازيغية صغيرة تدعى تِنْكَه، وذلك قبل أن تصبح مركزا تجاريا فنيقيا. ويبدو أن هذا الرأي هو الأقرب إلى الصواب[4]، وهو ما سيتأكد فيما سيأتي في هذا المادة.

كما أن بعض الأساطير تربط إنشاء مدينة طنجة بحادثة الطوفان المشهورة في الكتب السماوية. وما يعزز هذه الأطروحة هو وجود أسماء أماكن في منطقة طنجة تذكر بالأنبياء كنوح صاحب السفينة، وموسى صاحب الخضر، أو ذي القرنين صاحب السد وماجوج. فتربط هذه النظرة إسم طنجة، ليس بقصة العمالقة السابقة، ولكن باسم أميرة أُسست لها طنجة تذكارا لها. أما مضمون قصة الطوفان حسب هذا الرأي، فملخصه أن النبي نوح لما رست به سفينته فوق جبل طنجة (لأنه مرتفع)، أطلق من فوقه حمامة للتأكد من مدى انحسار ماء الطوفان، فما لبثت الحمامة أن رجعت وفي منقارها طين، فصاح النبي نوح فرحا وهو يقول: “الطين جا”. ومن ذلك جاء إسم “طنجة”[5].

الأصول الأمازيغية ل “طنجة”

لقد ورد إسم “طنجة” عموما في النصوص التي أوردت الأساطير متشابه، ولكنه متعدد الرسم والشكل والصيغ، فورد بصيغة “تِنْكَا” (Tinga)، و”تِتْكا” (Titga)، و”تِنْكي” و”تِنْكِسْ” (Tingis)، و”تِنْتديا” (Tantdia) وغيرها. ويبقى أهم صيغتين يمكن الإهتداء بهما للبحث عن معنى طنجة هما صيغتا: تِنْكَا Tinga() وتِتْكَا (Titga)، وهما صيغتان وردتا في نقود الفينيقيين الذين وصلوا إلى طنجة قبل أن يعرفها الإغريق أو اللاتينيون. وقد وردت صيغة تنكا في بعض تلك النقود منفصلا إلى مقطعين: “تِنْ” و”كَا” (Tin ga)، أو “تِتْ”و “كَا” (Tit ga) [6].

وبالنظر إلى صعوبة الحسم في طريقة نطق الفينيقيين لتك الصيغ. ونظرا لكون اللغة العربية لا تسعف في الإجابة عن معنى كلمة طنجة، فإن المؤرخ أحمد التوفيق يقترح الرجوع والإستعانة بالجذور الأصلية المحلية للكلمة، خاصة أن  إسم طنجة أصلي محلي من لغة أهل البلد أي الأمازيغية، فكتبه الآخر  ليتماشى مع لغته، وهذا ما قام به الفينيقيون والرومان، وفيما بعد العرب. فإذا رجعنا مثلا إلى اللغة العربية فإن المعطيات لا تسعف في شيء للوقوف على معنى إسم طنجة، مشتق من اللغة العربية، إذ أن مادة “ط ن ج” مادة قليلة، وليس في “لسان العرب” لابن منظور سوى كلمة الطُّنُوج بمعنى الكراريس، وفعل طنَّج، وهو من الغريب، بمعنى تفنَّن في الكلام. كما أن حرف التاء الذي في آخر كلمة طنجة في رسمها العربي هاء سكت، أو تاء تأنيث اقتضتها صياغة التعريب، وحرف الطاء في الأول بدل التاء ربما جاءت تفخيما اقتضاه الحرف الذي بعده وهو النون، وحرف الجيم هو نفس حرف كَ (الجيم البدوية كما يقال)، فيكون رسم طنجة هو رسم للإسم الوارد عند الفينيقيين وعند من نقل عنهم من اللاتينيين.[7]

ولأن الأمازيغية هي لغة المنطقة لآلاف السنين، تكلم بها الناس وتسمت بها الأسماء بالرغم مما قد يكون اعتراها من التطور أو لحقها من الدخيل، وإذا كانت الصيغة اليوم المتداولة على ألسن الناس هي “ط ن ج ه” لا توحي بمعنى قريب في لغة الأمازيغ، فإن أحمد التوفيق يقترح تأويلا ينطلق من الرسم اللاتيني Tingis الوارد في النصوص، وكذا الرسم الوارد في نقود الفينيقيين ولا سيما الصيغة التي جاء فيها الإسم مركبا من شقين منفصلين هما: تِنْ (Tin) وك (gi). ورغم محاولة باحثين آخرين الرجوع إلى اللغة الأمازيغية من أجل إلى البحث عن معنى صيغة تنكَ (Tingi) ، باعتبارها كلمة واحدة، فتوصلوا إلى معنى مباشر لهذا اللفظ، وهو بالعربية “السيل”؛ سيل مياه الوادي في صيغة المؤنث (تِنْكِ)، والمذكر “أَنْكِ”، ومن ثمة ربطوه بشعب ذي سيلان عند قدم المرتفع الذي تقع عليه مدينة طنجة، أو ربطوه بشكل تلقائي بقصة الطوفان.[8]

ويدعم هذا الرأي، وجود أمثلة يمكن القياس عليها –حسب رأي التوفيق- خصوصا أسماء الأماكن التي لها معنى أمازيغي؛ كمثال إسم “تنغير” الواقعة في الجنوب الشرقي للمغرب (جهة درعة تافيلالت)، والتي يجب أن تنطق “تِنْغِرْ” بدون مد، لأن الأمازيغية لا مد فيها. وهو إسم مركب من شقين؛ الأول: “تِنْ” ويفيد الوصف والنسبة، أي بمعنى ذات (كما في ذات الجندل أو ذات الصواري في العربية)، أو تعني “التي في” أو “المنسوبة إلى”. أما الشق الثاني فهو: “غِر” فمعناه عرف الجبل أو الأكَمَة أو المرتفع، وهو في الأصل بالهمزة وتحتها كسر في أوله “إِغِرْ”، فهي تِنْ إِغِرْ”، ولكن الهمزة استثقلت فحذفت فصارت الكلمة “تن غر” أو “تنغر”.

وبناء على ما سبق، يؤكد أحمد التوفيق، “أن “طنجة” إسم تَحرّف لدواع يدخل فيها نسيان المعنى الأصلي أو تناسيه، بينما يرى أن هذا الأصل هو “تِنْكْ” المركبة من تِنْ (=ذات، المنسوبة إلى، الواقعة في) وك  (بالكسر أو الفتح) وأصله إِك فحذفت الهمزة، ومعناه الأعلى والفوق، أي أن تِنْ ك تعني: الواقعة في المرتفع أو الأعلى أو العالية”.[9]

وبالإضافة إلى القرائن اللغوية، يورد أحمد توفيق قرائن أخرى يمكن تدعيم رأيه بها. ويتعلق الأمر بعبارة أوردها أبو عبيد الله البكري في كتابه ” المعرب في ذكر إفريقيا والمغرب”، في معرض حديثه عن طنجة حيث قال: “فأما كورة طنجة فهي مساكن صنهاجة…، ومدينة طنجة تعرف بالبربرية وليلي”. فلجوء البكري لشرح معنى كلمة طنجة يعني أن معناها غير دارج بين الناس، كما أن معناه لو كان عربيا لما احتاج إلى ذلك، مما يعني أن إسم طنجة أصبح غير معروف ومفهوم لدى أهل البلد الطارئين، حيث صار إسمها عند أهلها تعني وليلي إما من حيث المعنى، أو من حيث الإطلاق الغالب لإسم مرادف يفضله الساكنون في عين المكان، مما يعني أن إسم طنجة وإسم وليلي لهما معنى واحد، ولما كانت العبارة تقرر أن ذلك الترادف في “البربرية” (الأمازيغية)، فإن ذلك يعني أن معنى “وليلي” كان معروفا لا غموض فيه.[10]

وبالإستناد على الأبحاث التي حاولت تفسير إسم “وليلي”، والتي اعتمدت بدورها على الطبونيميا، يعتقد أحمد التوفيق أن إسم و”ليلي”، له دلالة تضاريسية تحيل على معاني العلو والإرتفاع والسفح. وفي ضوء ذلك يقول أحمد التوفيق: “وفي ضوئه نفهم أن قول البكري (وطنجة تعرف بالبربرية وليلي) يعني أن طنجة تعني ما تعنيه وليلي أي المرتفع والمكان العالي، فطنجة إذن هي العالية”. وهذا الوصف في واقع الأمر حقيقة طبوغرافية، كما أنه شائع في التغني الشعبي الحديث.[11] فالمدينة تقع على الهضبة المطلة على خليج واسع، طوله 5 كلم، وهو بمثابة مرفأ طبيعي ساهم بشكل كبير في تحديد نشأة وتطور المدينة.[12]

المراجع
[1] أعشي مصطفى، معلمة المغرب، ج 17، الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر ومطابع سلا، 2003، ص 5668.
[2] التوفيق أحمد، في تاريخ المغرب، مطبعة النجاح الجديدة، ط 1، 2019، الدار البيضاء، ص 119.
[3] التوفيق أحمد، في تاريخ المغرب، مرجع سابق، ص 119.
[4] أعشي مصطفى، معلمة المغرب، مرجع سابق ص 5768.
[5] التوفيق أحمد، في تاريخ المغرب، مرجع سابق، ص 119-120.
[6] التوفيق أحمد، في تاريخ المغرب، مرجع سابق، ص 120.
[7] التوفيق أحمد، في تاريخ المغرب، مرجع سابق، ص 120-121.
[8] التوفيق أحمد، في تاريخ المغرب، مرجع سابق، ص 121.
[9] التوفيق أحمد، في تاريخ المغرب، مرجع سابق، ص 122.
[10] التوفيق أحمد، في تاريخ المغرب، مرجع سابق، ص 123-124.
[11]  التوفيق أحمد، في تاريخ المغرب، مرجع سابق، ص 124-125.
[12]  الرفاص محمد، معلمة المغرب، ج 17، الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر ومطابع سلا، 2003، ص 1773.