المولد والنشأة[1]

الفقيه المحدث الحافظ، العلامة المشارك، المربي الخلوق، مولاي الحسن بن الحاج مولاي أمحمد مُسنِد الإدريسي المشهور بـ”العبدي”. رأى مترجمنا النور بالزاوية المسناوية بمنطقة عبدة سنة 1905، نشأ يتيما بمسقط رأسه، وحفظ القرآن على يد الفقيه سلام محمد بن الحاج سعيد دفين آسفي، ثم التحق بدكالة، ونزل عند بني عمومته مسناوة، فحفظ هناك مجموع المتون كله، وقرأ على الفقيه العلامة قاضي دكالة سيدي أحمد بن التهامي المسناوي، معظمها كالألفية ولامية الأفعال والزواوي ومختصر الشيخ خليل والسلم في المنطق……

الاستقرار والتدريس في الدار البيضاء

وفي سنة 1932م حط مترجمنا الرحال بالدار البيضاء، ثم ما فتئ أن ذاع صيته، وصار قبلة لطلبة العلم، فأسس مدرسة في عرصة “فتيّح” الموجودة بشارع الطاهر العلوي ببوسبير بالمدينة القديمة، ودرّس فيها سنوات، وتخرج على يديه رجال كبار وأساتذة وقضاة، وحدث أحيانا أن عدد الدروس التي كان يقدمها تصل إلى ثمانية دروس في اليوم الواحد يتنقل بين مساجد كثيرة بالدار البيضاء كالمسجد الكبير، ومسجد ولد حبيبة، ومسجد ولد الحمراء، ومسجد درب التازي، ومسجد الشلوح …. حتى إذا انتقل إلى درب السلطان، درّس في المسجد المحمدي في حي الأحباس، وكان يسرد عليه الفقيه العدل اللغوي الإمام النحوي الصاعقة في الحفظ السيد البوزيري.

وكان محبا للدرس معظما لوظيفة التدريس، مواظبا عليه، لا يتغيب عن درسه ولو وقع ما وقع، وكان الناس في شهر غشت يقبلون على أسفارهم ويبقى رحمه الله وفيا لبرنامجه ويقول: “لو سافر الناس كلهم لبقيت مع الإمام والمؤذن”. ومما عرف عنه ـ رحمه الله ـ أنه عاهد الله ألا يأخذ درهما مقابل علم علّمه، ومع ذلك عاش عيشة راضية، البيت الواسع ومحبة الناس وإقبال طلبة العلم عليه، وكان له برنامج خاص في ترتيب العلوم التي يدرسها طيلة السنة، فإذا أقبل رمضان شرح صحيح البخاري، فيقف مع الباب ويتوسع في فقه أحاديثه ويسهب في تراجم رجاله، وكان رحمه الله ضابطا لأسمائهم وكناهم وكرامات بعضهم، ثم تكون له جولات مع الجرح والتعديل ويستدل بألفية العراقي وألفية السيوطي.

فإذا خرج رمضان بدأ في مناسك الحج، وحدث في إحدى السنوات أن ضاق الوقت بالناس، فذكر لهم المناسك كلها في ليلة واحدة. وإذا قرب عيد الأضحى توقف طويلا مع السيرة النبوية، وعرّف بحدث الهجرة ودروسه وعبره وأسماء المهاجرين. فإذا خرج المحرم شرع في شرح “الشفا” للقاضي عياض وشرح الهمزية، وكان له منهج فريد في شرحها حيث يذكر البيت ويعربه أولا ثم يشرحه ويقف عند بلاغته وبديعه ثم ينتقل إلى البيت الذي يليه، حتى إذا انتهى خرج الطلبة مسرورين لما حصلوا من علوم. وكان له مع المولد النبوي شأن خاص، فقد كان يحيي الليلة كاملة، بمدارسة الشفا والهمزية والبردة… وكان يكب كل مولد على نظم الشعر، وينظم قصيدتين جديدتين في مدحه صلى الله عليه وسلم. حتى إذا خرج ربيع الأول كانت له وقفات مع دروس العبادات والمعاملات إلى حدود شهر رمضان.

أما الدروس التي كان يلقيها في البيت، فقد كانت خاصة يحضرها بعض أهل العلم وطلبته وعدد من الموظفين والمدرسين والقضاة يشرح لهم الألفية والتلخيص والجوهر المكنون وجمع الجوامع والسلم في المنطق ومصطلح الحديث إلخ. وكان ينشط لهذه الدروس العلمية غاية النشاط.

الشيوخ والتلاميذ

من أكبر شيوخه وأكثرهم تأثيرا فيه الشيخ الشريف مَحمد النظيمي الحسني وهو شيخه في التربية والتصوف، والشيخ العلامة سيدي أحمد بن التهامي المسناوي الدكالي. أما تلاميذه فعددهم لا يحصى ونذكر منهم الفقيه العلامة محمد رياض والفقيه العلامة العدل محمد البوزيري الذي كان يسرد عليه البخاري والحاج عبد المجيد الرويسي وغيرهم كثير.

الآثار والمؤلفات

ترك مترجمنا -رحمه الله -تعليقات على الكتب الستة: صحيح البخاري وصحيح مسلم وأبي داود والترمذي والنسائي وابن ماجه. وتعليقات على التلخيص في علم البلاغة للقزويني، وكتاب المفتاح للسكاكي، وله دروس مدونة بخط يده في شرح جمع الجوامع لابن السبكي، ومؤلف في التصوف، وآخر في الأذكار، وله أزيد من مائة كناش من الحجم الكبير كان يدون فيها بعض دروسه وتعليقاته.

امتاز مترجمنا بملكة حفظ قل نظيرها، وعرف عنه ولعه بالكتب، فكان يتجشم الصعاب في اقتنائها، ولذلك كانت مكتبته العامرة تضم مخطوطات وكتبا بطبعات مختلفة بعضها حجري وبعضها عصري. وكان -رحمه الله- كثيرا ما يُرى وهو يتأبط كتابا أو كراسا، اشتهر باطلاعه الواسع على مختلف العلوم وكان أشهر ما عرف به سعة اطلاعه على علوم الحديث فكان مرجعا يحج إليه المشتغلون بهذه العلوم من الداخل والخارج. وكان إذا ذكر حديثا صحيحا لا بد أن يسنده، أو يأتي بالصيغة الدالة على الصحة كقال النبي صلى الله عليه وسلم، وإذا كان ضعيفا يقول: رُوي أو يروى.

وكان يزعجه إذا جلس على منبره وشرع في الدرس أن يقاطع أو يسأل لأن من شأن ذلك أن يقطع حبل تفكيره، وكان إذا رأى شخصا يمد رجله ينهره قائلا:” تأدب مع حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان يستشهد بقول القاضي عياض في كتابه “الشفا” … “ولم يُر رسول الله صلى الله عليه وسلم مادا رجليه بين أصحابه”.

شعره

خلف الفقيه مولاي الحسن العبدي رحمه الله تعالى تراثا شعريا يحتاج لالتفاتة الأساتذة الباحثين والمهتمين لتحقيقه وإعداده للنشر. ومن شعره رحمه الله نسوق هذا المطلع من إحدى قصائده في الشوق:

يا قبلة الصلحاء يا أسد التقى          قلبي لم يـــــــزل إليك مشوقا

أنتم مناي وبغيتي وموئلي             أنتــم وأيـــــم الله سر الملتقى

قد طال هجركم وقل تصبري         وغدا الهيام بكل عضو محدقا

ومن شعره في الرثاء:

كتب المنون على الورى متحتما          والصبر حق واجب قد ألزما

فاهرع إلى الله الكريم مبادرا              واجعل مماتك نصب عينك مسلما

ومن قصائده التي يتغنى فيها بالطريقة التيجانية هذا المطلع:

إمنح فؤادك أم الطرْق منتهجـــــــا            أرقى محجتها المثلى بلا حرج

واعكف عليها مدى الأزمان مرتقبا             سنا أشعتها دومـــــــا بلا عوج

يا ساكن القلب يا سرّي يا أملـــــي          ويا ملاذي ومن تقضى به حوجي

رحلاته العلمية

لمترجمنا رحلات في طلب العلم وتعليمه، نذكر منها رحلته إلى منطقة “إدّاوكرد” قرب مدينة الصويرة، بدعوة من بعض المحبين الذين طلبوا منه شرح “الأربعين النووية “، فأتمّها في أربعين يوما، في كل يوم حديث، حتى إذا أتمّها كتب معه بعض فقهاء المنطقة أخوّة في الله.

صفاته وأخلاقه

كان رحمه الله محبا للخلوة كثير الذكر، يحيي ليله في مكتبته أو في غرفته، تراه مستقبلا القبلة ممسكا سبحته يهلل ويصلي على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وقد مدحه الفقير محمد بن الحاج أحمد الحاحي أحد مريدي الطريقة التجانية بأبيات شعرية عند انتهاء حفل بقرية الجماعة بالدار البيضاء يوم 22 من شوال 1390ه/21 دجنبر 1970م، فغلبه الفرح والطرب بعد أن نثر عليهم علامة الزمان ومنبع السر والعرفان المقدم الجليل المتحلي بكل خلق جميل سيدي حسن بن محمد العبدي فوائد العلوم غزيرة فقال:

لله حفل حضرت فيه قد حسنا                وتمّم الحسنَ ما فيه من الفرح

تدفّقت فيه أنعم على الفقرا                   وزال عنهم به طوارق الترح

وطرز الكل ما به بثه من درر العلم            عليهم ذووا الأسرار والمنح

من عالم عمّت الأفاقَ شهرتُه                بحفظه وبما يبديه من مُلح

عليه مني سلام الله ما طربت               أوراح أهل الصفا عند لقا الفرح

وذاك سيدنا الحسن نجل                     محمد إلى عبدة نسبته السمح

قد شرب الناس من فيوض أبحره           علما بأفواههم كرعا وبالقدرح

رتبته قد سمت فوق سما زحل            ونوره كسنا الشمس لمقترح

إن رمت حلّته فاقصد مدينتنا                البيضاء تُفتّح لك الأبواب واسترح

منا السلام برحمة الإله على              نور بروضتنا الغناء منفتح

إن النور ثم الأوزانَ معتذر                   حمله ما عرى من كامل الفرح

وفاته

توفي رحمه الله شهر شتنبر 1990م، وكانت جنازته جنازة مهيبة تشهد لمكانته العلمية ودفن رحمه الله بمقبرة الشهداء بالدار البيضاء. وقد خلف الفقيه العبدي من الولد ستة ذكور وست إناث، وقد حفظ أبناؤه الذكور جميعهم القرآن الكريم، وكان يردد: هذه هي الغاية، أما الأرزاق فبيد الله تعالى.

المراجع
[1] أنظر كتابنا: الإدريسي مولاي أحمد صبير. (2020). مدارج الثناء بتراجم علماء الدار البيضاء. دار الرشاد الحديثة. الدارالبيضاء. صص: 84-89.