الدار البيضاء - أنفا

مقدمة

تؤكد العديد من الدراسات الأركيولوجية الخاصة بالمنطقة التي تقوم عليها مدينة الدار البيضاء، أنها منطقة ضاربة في عمق التاريخ، وأنها كانت مأهولة بالحياة منذ عصور متقدمة جدا، وقد تم اعتماد هذه النظرية بعد العثور على أصداف ورماد وبقايا طعام وقطع فخارية وخزفية وأخشاب وأحجار مصقولة وبقايا هياكل عظمية بشرية وحيوانية…

كما تمّ تحديد زمان وجود الإنسان في هذه المنطقة بحوالي مليون سنة بعد العثور بموقع “طوما1” على قطعتي الفك السفلي الخاصتين برجل “هومنيان” المعروضتين في متحف الآثار بباريس، فيما أكدت دراسات أخرى أن موقع “ليساسفة ” يتراوح تاريخه ما بين 5 و 6 ملايين سنة، وموقع “أهل الغلام” بحوالي مليوني سنة ونصف.

النشأة والتطور

عند البحث في نشأة مدينة أنفا/الدار البيضاء، نجد خلافا حادا بين المؤرخين في عدد من القضايا المتعلقة بهذه النشأة، حيث نجد أربع فرضيات متضاربة:

  • الأولى: أن أنفا مدينة أنشأها الفينيقيون، وأبرز من قال بهذه الفرضية العسكري والمؤرخ الإسباني “مارمول كاربخال” (Luis del Mármol Carvajal) الذي يرى أن “حانون الفينيقي” هو مؤسس أنفا ضمن سلسلة من المدن التي بناها على الساحل الأطلنتي، وذلك من أجل ضمان تنقل سلس و رسوّ ناجح للأساطيل التجارية والعسكرية الفينيقية، وهو الطرح الذي تبناه مؤرخ الدار البيضاء “هاشم المعروفي” في كتابه الفريد “عبير الزهور”[1] حيث رجح بل جزم بأن آنفا مدينة فينيقية.
  • الثانية: أنها مدينة رومانية، ومن أبرز من تبنى هذا الطرح “الحسن الوزان” الملقب بـ “ليون الإفريقي” في كتابه: “وصف إفريقيا”[2] حيث اعتبرها “مدينة كبيرة بناها الرومان على شاطئ البحر، وتبعد عن الأطلس بنحو ستين ميلا من جهة الجبل، وعن أزمور بنحو ستين ميلا من جهة الشرق، وعن الرباط بنحو أربعين ميلا من جهة الغرب”، كما ساق وصفا دقيقا لدكاكينها وبناءاتها وحقولها، مبديا إعجابه بأناقة أهلها وانتظام حياتهم، بسبب اتصالهم بجنس البرتغال والإنجليز….

إلا أن عددا من الباحثين يرفضون هذا الطرح لأنه في نظرهم يفتقد إلى ما يدعمه تاريخيا وأركيولوجيا.

  • الثالثة: أنها مدينة أمازيغية زناتية، وقد تبنى هذا الطرح المؤرخ المغربي “أبو القاسم الزياني”[3] في كتابه ” الترجمانة الكبرى في أخبار المعمور برا وبحرا”، ويرى أن “أنفا” تقع في منطقة كانت تحت نفوذ “تامسنا” التي أسسها أمراء زناتة، وقد رُد عليه بأن الزناتيين لم يسبق أن بسطوا نفوذهم على هذه المنطقة، وأن هذه التسمية (أنفا) لا وجود لها في التراث الأمازيغي الزناتي.
  • الرابعة: أن أصل آنفا بُرغواطي، وهذا الطرح دفع به السوسيولوجي الفرنسي “أندريه آدم” الذي يجزم بأن القبائل التي كانت وراء تشييد أنفا قبائل بُرغواطية من أصول مصمودية، وقد أكد الأصل المصمودي للبرغواطيين، المؤرخان ابن خلدون وابن عذاري المراكشي.

أنفا بعد الفتح الإسلامي

يصادف الباحث في مصادر التاريخ، شح المعلومة عن أنفا ما بين الفتح الإسلامي إلى حدود البدايات الأولى للقرن الخامس الهجري/الحادي عشر الميلادي، إذ لم تزد عن إشارات متفرقة هنا وهناك في كتب التاريخ ومصادره أو بعض الدراسات ذات الصلة بالفترة المشار إليها.

لكن ومع منتصف القرن الخامس الهجري سيُلتفت إليها مرة أخرى وبشكل مستفيض في إطار الحديث عن الصراع بين البرغواطيين والمرابطين، أثناء محاولات بسط نفوذهم على ربوع المغرب، لكن مع اختلاف في السياق والأعلام والتاريخ، فابن أبي زرع مثلا يسوق اسم القائد المرابطي أبي بكر بن عمر الذي قاد جيوش المرابطين، وحاصر المدينة وقتل وسجن… وذلك سنة 452هـ / 1060م. أما الزياني فيذكر أن قائد هذه الحملة هو عبد الله بن ياسين شخصيا الذي دخل أنفا عنوة سنة 453هـ، واستباح أهلها، ومَحَا ديانتهم، ولم يفلت منهم إلا من اختفى في قناة أو بئر.

ثم تنضج الرؤيا أكثر وتتوالى المعلومات تثرى بدقة أكبر عن أنفا في العهد المريني، والبداية مع مبايعة سكان آنفا ليعقوب المنصور المريني سنة 658هـ / 1200م بدون قتال.

وقد أجمع المؤرخون أن أنفا المرينية كانت صغيرة يعيش سكانها على الصيد والقرصنة، وكانت عملياتهم تزعج المراكب والسفن وتربك إبحارها وخاصة منها البرتغالية، مما اضطر الملك البرتغالي الفونصو الخامس إلى إرسال أسطول حربي يتكون من خمسين سفينة سنة 873هـ / 1468م على متنها حوالي عشرة آلاف جندي، وعندما وصل الأسطول إلى أنفا، كان سكانها قد تأهبوا لإخلائها فارّين في اتجاه الرباط وسلا. فأمر رئيس الأسطول بتدمير المدينة وهدمها بالكامل، وفعلا تمّ له ذلك ولم يتبقّ منها سوى أطلال جدران قديمة. حتى إذا عادوا إليها سنة 1515م، لم يجدوا إلا دارا مطلية باللون الأبيض أطلقوا عليها “كازابلانكا” وشرعوا في تشييد قلعة محصنة لم يكملوا تشييدها بعد هزيمتهم أمام المرينيين.

ثم عاشت أنفا مرحلة كمون تاريخي دام أكثر من قرنين، لتنبعث من رمادها مجددا سنة 1784م / 1119هـ، بعد أن أمر السلطان محمد بن عبد الله أثناء عودته من الصويرة بإعادة إنشائها وتسويرها، وأطلق عليها اسم الدار البيضاء، ووطّن فيها جالية من قبائل حاحا، ثم تلتها هجرات متتابعة من قبائل الشاوية الفارّين من شظف العيش، وظلم القياد، وتوالي سنوات الجفاف.

ثم مافتئت المدينة أن دخلت مرحلة جديدة بسبب نشاطها التجاري الذي كان يغذيه موقعها الجغرافي باعتبارها مدينة شاطئية من جهة، وغنى أراضيها الخصبة وسهولها الممتدة في اتجاه الشاوية من جهة أخرى، فضلا عن مينائها الذي سيشكل رافعة تنموية نقلت الدار البيضاء إلى مصاف المدن المغربية الكبرى.

ثم تسارع إيقاع التوسع التجاري والاقتصادي والديموغرافي بعد احتلالها سنة 1907م في أفق أن تصبح قطبا ماليا إفريقيا ولمَ لا عالميا؟

الحركة العلمية بالمدينة

يمكن تتبّع ملامح الحركة العلمية في أنفا من خلال عدد من المصادر التاريخية، والوقوف على طبيعتها والاطلاع على مدى إشعاعها انطلاقا من العصر الوسيط، حيث نجد إشارات مختلفة ترصد مناحي هذه الحياة سواء عن طريق إدراج أسماء المدارس العلمية باعتبارها مركز هذا الإشعاع ومصدره، أو بسرد لائحة من الأعلام المشاركين الذين كانوا وراء هذا الإشعاع.

ومن بين الإشارات في هذا المجال ما ورد في كتاب “المسند الصحيح الحسن في مآثر ومحاسن مولانا أبي الحسن” لابن مرزوق، الذي أشار إلى جهود أبي الحسن المريني في إنشاء المدارس في ربوع المغربين الأقصى والأوسط (الجزائر حاليا)، قائلا: “… فأنشأ بمدينة تازة قديما مدرستها الحسنة، وببلد مكناسة وسلا وطنجة وسبتة وأنفا وأزمور وآسفي وأغمات ومراكش والقصر الكبير”[4]. أما الإشارة الثانية فنجدها في كتاب”نفاضة الجراب” للوزير لسان الدين ابن الخطيب، الذي مر بأنفا خلال رحلته من مراكش إلى سلا مرورا بآسفي وآزمور، وحلاها بقوله: “جون الحط والإقلاع، ومجلب السلاع، تهدى إليها السفن شارعة، وتبتدرها مسارعة، تصارف برها الذهبي بالذهب الإبريز، وتراوح برها وتغاديه بالتبريز.

يكثر الطير حيث ينتشر الحـ             ب وتغشى منازل الكرماء

وخارجها يفضل كل خارج، وقابضها يجمع بين طائر ودارج، وفواكهها طيبة، وأمطار عصيرها صيبة، وكيلها وافر، وسعرها ـ عن وجه الرخاء ـ سافر، وميرتها لا ينقطع لها خف ولا حافر، لكن ماءها وهواءها عديما الصحة، والعرب عليها في الفتن ملحة، والأمراض بها تعيث وتعبث، والخزين بها لا يلبث”[5].

ثم تحدث عن نزوله على عدد من العلماء والأعيان كالقاضي الفقيه الحاج أبي بكر عثمان بن صالح النصراني المراكشي، وأبي العباس أحمد بن علي البسري من أهل تامسنا، وأبي العباس أحمد بن أبي بكر بن موسى البرغواطي، وأبي الحسن علي بن أبي حدو.

أما الإشارة الثالثة فنجدها عند العلامة محمد المنوني[6] -رحمه الله- الذي أجمل الحديث عن هذا الإشعاع، وتتبعه بحس المؤرخ المحقق، وألمح إليه بقوله: “وشمل حكم المرابطين والموحدين والمرينيين جهة الدار البيضاء الكبرى أنفا ونواحيها. حيث عرفت نشاطا علميا وتعليميا كثيفا خلال هذه العصور (دار المرابطين بقرية أنقال بضواحي آنفا- مدرسة أبي الحسن المريني بأنفا- الجامع الكبير بها- عدة مدارس مرينية غاصة بالطلبة). وقد ساهم بها كثير من العلماء والشيوخ والقضاة متأصلين وزوارا ونزلاء في العمل الدعوي”.

وفي استقراء عجيب للوضع الثقافي والعلمي يتتبع مرة أخرى ملامح التنوع فيقول: “حيث يلاحظ بينهم من يتجاوز علوم الفقه والعربية إلى مواد أخرى، فسليمان البرغواطي: محدث، وابن مناد: فقيه بارع وأديب متفنن. كما أن القاضي عمر الزياني: رائق الخط جمّاعة للدفاتر. ويستتبع هذا الجو العلمي وفرة أعداد التلاميذ والطلاب، خصوصا بعد وجود المدرسة حيث السكنى والجراية والتعليم”. ثم لا ينسى أن يبحث في أسباب أخلاقية لهذه الحركة العلمية ليستخلص أن “بعض المصادر تلمح إلى عامل أخلاقي يرجع إلى تقدير السكان للعلم وأهله، فالوزان الفاسي يسجل أن أهل أنفا يبجّلون العلم تبجيلا، وابن الخطيب يذكر عن ابن الرقاص: أنه أقرأ بأنفا منوّها به، ونفس المصدر يصف الذين اجتمع بهم بالمدينة ذاتها بأنهم ذهبوا في البرور كل مذهب”[7].

وبالرغم من هذه الإشارات المضيئة، إلا أننا نفاجأ مرة أخرى بأن الفترة الممتدة ما بين الفتح الإسلامي إلى العصر المرابطي تمثل “مرحلة فراغ” لا يلتفت إليها في المصادر التاريخية و كتب تاريخ الأدب و كتب التراجم.

أما العصر العلوي فسيشهد انبعاثا جديدا للمدينة، وستبرز أسماء وازنة كانت عنوانا لانبعاث علمي يتناسب مع الوضع الجديد الذي ستعرفه المدينة، وذلك على يد بيضاويين من (أنفا) أو شاويين من (الشاوية) أو زموريين من (أزمور)، أو على يد مَن حلوا الدار البيضاء إما من فاس أو الرباط أو سلا أو سوس، ممن اشتغلوا بوظائف العدالة والإمامة والإقراء والتدرير والتدريس، والذين سيشكلون النواة الأولى لحركة علمية في عدد من المساجد والزوايا.

إلا أن هذه الحركة العلمية التي ستعرفها المدينة، افتقدت إلى تأريخ يواكب تطورها ويرصد تفاعلاتها ويترجم أعلامها. ويزداد استغرابنا أمام هذا العجز عندما نجد أن مؤرخ الدار البيضاء الأستاذ هاشم المعروفي في كتابه “عبير الزهور” خص الحركة العلمية لهذه المدينة بكلام مستفيض ومفيد، ولكن عند التعريف بأعلامها والترجمة لهم لوحظ اختزال واختصار بحيث لم تتجاوز إشارات طفيفة جدا لا ترقى إلى ما يأمله الباحث، اللهم ما كان من ترجمة شيخه محمد أغربي التطواني[8].

ولعل هذا الفراغ يبرر الحاجة إلى مثل هذا الكتاب (مدارج الثناء بتراجم علماء الدار البيضاء[9]) الذي كنت أتمنى أن يكون لبنة في صرح أعمال سبقت، وإنجازا مكملا لجهود خلت، لكن سبق في علم الله أن يكون عملا غير مسبوق، وأن يكون اللبنة الأولى في صرح أرجو أن يتنادى له الباحثون  أفرادا ومؤسسات، ليعيدوا الاعتبار إلى الحركة العلمية لهذه المدينة وينصفوا رجالاتها، بالتعريف بهم وبأعمالهم وجهادهم.

المراجع
[1] الرفاعي هاشم، عبير الزهور في تاريخ الدار البيضاء وما أضيف إليها من أخبار آنفا والشاوية عبر العصور، مراجعة وتعليق وفهرسة عبد الرحمان القباج، منشورات المجلس العلمي المحلي لعمالة مقاطعة عين الشق. مطبعة النجاح الجديدة ـ الدار البيضاء / الطبعة الأولى في جزأين: 1434هـ / 2013م.
[2] الحسن الوزان، وصف افريقيا، تعريب محمد حجي ومحمد الأخضر، ج1 ، ص 196.[2]
[3] الزياني أبو القاسم، الترجمانة الكبرى في أخبار المعمور برا وبحرا، حققه وعلق عليه: عبد الكريم الفيلالي، طبعة: 1991 / 1412، دار نشر المعرفة / الرباط.
[4] التلمساني محمد ابن مرزوق، المسند الصحيح الحسن في مآثر ومحاسن مولانا أبي الحسن، دراسة وتحقيق: الدكتورة ماريا خيستوس بيغيرا، ص 407، الشركة الوطنية للنشر والتوزيع/ الجزائر، 1401 / 1981.
[5] بن الخطيب لسان الدين، كتاب معيار الاختيار في ذكر المعاهد والديار، تحقيق ودراسة الدكتور محمد كمال شبانة. ص 156، الناشر: مكتبة الثقافة الدينية. ظ 2002 / 1423.
[6] المنوني محمد، آنفا في عهد المرينيين، ضمن: المدينة في تاريخ المغرب العربي، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية2 ابن امسيك- الدار البيضاء، ص251 وما بعدها بتصرف.
[7] المنوني محمد، آنفا في عهد المرينيين، ضمن: المدينة في تاريخ المغرب العربي، مرجع سابق، ص251 وما بعدها بتصرف.
[8] المعروفي هاشم،  عبير الزهور عبير الزهور في تاريخ الدار البيضاء وما أضيف إليها من أخبار آنفا والشاوية عبر العصور: هاشم المعروفي، الطبعة الأولى في جزأين، مطبعة النجاح الجديدة الدار البيضاء، 1434/ 2013.  
[9] الإدريسي مولاي أحمد صبير. (2020). مدارج الثناء بتراجم علماء الدار البيضاء. دار الرشاد الحديثة. الدارالبيضاء.