بين يدي التقديم

لم ينقطع فعل العطاء العلمي في هذه الأمة حتى في أحلك الفترات التي مرت بها، بل ظل حبله موصولا، والعائد المرجو من رجاله موفورا، في كل عصر  تتزاحم أسماء العلماء، ويبرز منهم أعلام، وتسطع منهم كواكب ونجوم.

ويشاء ربك أن تواكب باقة من الأخلاق كلَّ مراحل هذا العطاء، وأختار –اليوم- من هذه الباقة خلق الوفاء الذي يكون في أبهى صوره عندما يكون بين التلميذ ومعلمه، والطالب وشيخه، ولا غرو، فلهذا النوع من الوفاء مشاهد مشرقة في سير الصحابة الكرام مع معلمهم ومربيهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأخلاق التابعين مع شيوخهم من الصحابة، ليستمرّ التسلسل مزهرا عطرا فوّاحا. وتاريخ هذه الأمة حافل بالقصص والمواقف المبهرة التي تترجم هذا الخلق، وتقدم فيه أروع الأمثلة، فكان ما كان في هذا الباب منوفاء أبي حنيفة لشيخه حماد بن أبي سليمان، ووفاء أبي يوسف ومحمد بن الحسن الشيباني لشيخهما أبي حنيفة، ووفاء الإمام الشافعي لشيخه الإمام مالك، ووفاء الإمام أحمد بن حنبل لشيخه الإمام الشافعي..

ولعل من أسمى صور هذا الوفاء، حرص التلاميذ على تراث شيوخهم، حفظا له من الضياع، وتعريفا به بين الأنام، وقياما بواجب طبعه ونشره. ولأن الخير  ما يزال ممتدا في هذه الأمة، يربط الحاضر بالماضي، والخلف بالسلف، فإن العصر الحاضر حافل بشواهد على هذا النوع من الوفاء، ولعل آخر ما يبهر منها، عناية الحاج محمد قاسمي السجلماسي بتراث شيخه مولاي المصطفى البحياوي حفظهما الله تعالى، والتي أثمرت عمليْن جليليْن ضمن سلسلة “أمالي الإمام البحياوي” الأول: روض الإلهيات من خلال مقاطع الجلالة في الآي البينات”،  والثاني موضوع هذا التقديم:  “مدارج الوصل بنبيّ العدل والفضل صلى الله عليه وسلم”. وفي الكتابين علائم جمة من الجهد والعناية والإتقان، تروي الغليل وتشفي العليل.

والكتابان غيض من فيض كلام العلامة مولاي المصطفى البحياوي حفظه الله، الذي رصّد تراثا زاخرا في علوم مختلفة: القرآن والحديث والعقيدة والتفسير  والسيرة والأصول والتزكية… وما زال العطاء مستمرا من خلال خطب الجمعة بمسجد الشاطبي بطنجة، وكرسيّه في التفسير  في القناة السادسة، ومجالسِه العلمية الخاصة في مراكش وطنجة، فضلا عما قدّمه سابقا في المنتدى الإسلامي بالشارقة، وجميعها مصدر ثرّ لا انقضاء لعجائبه، ولا حد لفوائده.

والعلامة البحياوي علم من أعلام المغرب المعاصرين، شد إليه الأنظار  في الداخل والخارج، “جمع بين شرف النسب، وكرم الحسب، ورسوخ العلم، وكمال الأدب، والمشاركة في جميع العلوم، وتحرير المنطوق منها والمفهوم”[1]. وممّا يبهر  في درس الشيخ العلامة البحياوي بإجماع المتتبعين والمهتمين وطلبة العلم: جزالة لغته، وسحر  بيانه، وقدرته الخارقة على الإمتاع، وبراعته في الإقناع. ولعل الحرص على جمع تراثه، والعناية به، وإعداده للنشر، حسنة من حسنات الدكتور الحاج محمد قاسمي السجلماسي، الذي عكف منذ مدة على تبويب هذا التراث السمعي منه والبصري، وعمل على جمعه وإصداره تباعا، ضمن سلسلة واعدة بعنوان: ” أمالي الإمام البحياوي”.

تقديم الكتاب

صدر كتاب “مدارج الوصل بنبيّ العدل والفضل صلى الله عليه وسلم” في طبعته الأولى في سفر واحد، عن منشورات البشير بنعطية بفاس، سنة 2021، في 358 صفحة من القطع المتوسط، وطأ معدّه بتقدمة بيّن فيها رتبة الكتاب من حيث كونه الثاني ضمن سلسلة أمالي الإمام البحياوي، وأنه “يبين معاني ثاني أقطاب شهادة الإسلام: (أشهد أن محمد رسول الله)”[2]. أما من حيث موضوعه فكل “محاوره صلاة على رسول الله صلى الله عليه وسلم تعريفا بقدره، ونشرا لعرف مكارمه، وبيانا لما فضل به، وما خصّه به ربه الكريم. وأما منهاجه فتقريب وتحبيب، وتذكير وتقرير، عبر تصريف القول فيما يتصل بالجناب الشريف. وأما غايته فتجديد العهد، وتأكيد الصلة بسيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم… أما الشيخ البحياوي فبيّن في تقديمه للكتاب” أن مبثوث هذه الصلوات كان مفرقا، ووضع هكذا فجاء بحمد الله غاية نسقا”، ثم دعا لجامعه بقوله: “أجزل الله المثوبة لِحِبّنا الجامع الناسق، وجعله له من الشواهد الصوادق، على أنه متعلق بالعاشق”[3]. ثم دعا القارئ في خاتمة تقديمه أن يستحضر ما يلي:

– أن العدل أصل المكارم، وأن الفضل ثمرته ودليله، فلا يتصور فضل بدون عدل.

– وأن وجهة التحدث عن كمال عدل رسول الله صلى الله عليه وسلم وجمال فضله، هي تشويق المطالع المنتسب إليه، وتغذية رصيد حبّه في قلبه الذي بين جنبيه.

– وأن الغاية المرومة، هي تيسير الاقتراب، والشعور بسعادة الانتساب إلى هذا الجناب، والانخراط في زمرة المحبين المنتجبين.

والكتاب من أربعة محاور:

  • الأول: (أحاديث التعريف بصاحب المقام المنيف صلى الله عليه وسلم وعلى آله): وفيه ستة عناوين كبرى تحتها أحاديث في التعريف به صلى الله عليه وسلم، وذكر صفاته وبعض أخلاقه، وأن الصلاة عليه نظير  الحمد والتسبيح لجناب الله عز وجل، وفيه بيان قدره ومقامه من خلال الآي الكريم… مع وقفة ماتعة لأنوار مولده صلى الله عليه وسلم، وأنوار صنوف الصلاة عليه، وبركة ذكره وذكر موارد الاقتداء به.
  • الثاني: (نور السراج في حديث الإسراء والمعراج) وفيه أحاديث عن معنى الإسراء والمعراج، وكونه بشخصه صلى الله عليه وسلم جسدا وروحا، مع إفادات وإشراقات متعلقة بالدلالات والعبر والدروس المصاحبة لهذا الحدث العظيم.
  • الثالث: ( دروس الاعتبار من هجرة التأييد والانتصار للنبي المختار) وفيه بصائر على أنواع ثلاثة:

في المواقف اللاحبة والأحداث المصاحبة.

في الدوافع المرتَّبة والمنافع المترتبة.

في الانتقال من بناء الساجد إلى بناء المساجد، ومن تربية الإنسان إلى تأسيس الكيان.

وفي بناء دولة الإسلام على أسس الدوام، ودعائم القوام، ومناهج التمام.

في ألم المحاصر المتحمّل، وأمل الصابر المتجمّل، وأفق الواثق المؤمل.

وأخيرا: وقفة مع تجليات السنن الإلهية في أحداث الهجرة النبوية. وكل ما ورد في هذا المحور وغيره بصائر تنم عن حس لطيف، ونظر عميق في التعامل مع أحداث السيرة النبوية، أكاد أجزم أن جلها لم يسبق إليها أحد، لا من القدامى ولا من المحدثين.

  • الرابع: (تدبرات في قصار المفصل الذي خص به النبي المفضل صلى الله عليه وسلم) وهو محور يمتد على مائة صفحة، فيه سياحة ماتعة مع سور: التين، والعلق والقدر، ومن سورة البينة إلى سورة التكاثر، ومن سورة التكاثر إلى سورة الناس، وفيها تدبرات لامست جوانب وجودية وفقهية واجتماعية ولغوية وبيانية تخبر  بما فتح الله به على هذا الشيخ الشريف من فيوضات ربانية ماتعة نافعة.

على سبيل الختم

هذا الكتاب إطلالة فريدة على حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم وسيرته العطرة، وصيغة متجددة في الصلاة عليه، جمع فيه مُعده ما جادت به قريحة شيخه العلامة مولاي المصطفى البحياوي الإدريسي الحسني، من إشراقات رصد فيها صورا بديعة لأواصر الانتساب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبثّ فيها نفحات الوصل بنبي العدل والفضل صلى الله عليه وسلم، فكانت الحصيلة باقة من التأمل والتدبر والاستقراء، كفيلة بدفع القارئ إلى تصحيح انتسابه إلى الجناب الشريف، والعمل على إعادة بناء الصلة به، وبسيرته، وسنته، وشريعته.

أجزل الله المثوبة للشيخ البحياوي والحاج قاسمي السجلماسي، وتقبل منهما جميل صنيعهما آمين.

المراجع
[1]محمد التمسماني، روض الإلهيات من خلال مقاطع الجلالة في الآي البينات، ص 40.
[2] محمد التمسماني، روض الإلهيات من خلال مقاطع الجلالة في الآي البينات: مرجع سابق، ص 5.
[3] محمد التمسماني، روض الإلهيات من خلال مقاطع الجلالة في الآي البينات: مرجع سابق، ص 12.