مقدمة

إن الالتفات إلى موضوع التراث في علاقته بالهوية الوطنية قمين بأن يُسهم في تعزيز ارتباط المواطن المغربي بإرثه الثقافي ويُشيع الوعي بأهميّة الهوية في توفير الاستقرار الوجداني والمعرفي عند الفرد والمجتمع. فالتنمية المستدامة تستدعي إرادة جماعية نابعة من وضوح الأهداف المراد تحقيقها اجتماعيا واقتصاديا وعلميا..، وقوة السعي إلى الإنجاز الحضاري، وقبل هذا وذاك، لا بد من بلورة قناعة جماعية تنزل تراثنا المعرفي والقيمي والمعماري والفني منزلته القيّمة التي تعطينا شخصيتنا كمغاربة، وتجعلنا في نفس الوقت منفتحين بكرامة على الإنجاز الحضاري الإنساني لنستفيد منه من غير حرج.

قد يدفعنا التساؤل ونحن نقارب نظريا مفهومي التراث والهويّة عن داعي العودة المتكرّرة إليهما من قبل الأكاديميين والمثقفين، هل هو محض ترف فكري؟ أم أن هناك دواعي واقعية تحفّز وتستعدي إعادة تعريف وفهم مفهوم التراث؟

التطرق إلى مسألة التراث غالبا ما يَلزمه الحديث عن “الحفاظ على التراث الثقافي”، كون أن التراث مهدّد بعوامل مختلفة تتجدّد بتطور الحياة، هناك سببان أساسيان دفعا المثقفين إلى إبراز مفهوم الحفاظ على التراث الثقافي وهما:

  • تطور الفكر الثقافي ونضج فكرة الحفاظ على التراث.
  • ردّة الفعل على الدمار الذي لحق بالتراث الثقافي (الحروب، الكوارث الطبيعية، التوسع العمراني..).

ضبط الجانب المفاهيمي من شأنه تقديم أرضية تسهّل عرض النماذج والأمثلة، لذلك سأسعى إلى إيراد مجموع الصفات والخصائص التي تحدد الموضوع تحديدًا يكفي لتمييزها عن الموضوعات الأخرى، مستندا إلى المرجعيات الأكاديمية والرسمية، وغاية ذلك أن يكون المفهوم سهل الإدراك من قبل المتلقي.

فالفرق بين المفهوم الواضح والمفهوم الغامض كالفرق بين خريطة واضحة المعالم لبلد معين يصطحبها المسافر عند سفره، وورقة خط عليها طفل مجموعة خطوط لا تدل على شيء، وقيل للمسافر هذه خريطة! فانظر كيف أن المفهوم الواضح الذي ينطوي -مثل الخريطة الواضحة- على معان جلية وقيم ومبادئ واضحة يدفع إلى تقدم المعرفة عند ربطه بمفاهيم أخرى في نسق، أو يهدي إلى سواء السبيل عندما يسلك المرء على أساسه. أما المفهوم الغامض، مثل الورقة التي خط عليها الطفل خطوطًا غامضة، فإنه إذا دخل في نسق أفسد نظامه وعلاقاته مما يؤدي إلى تراجع معرفي، وإذا وجه سلوكًا لشخص أضله لأنه لا يهدي إلى شيء ولا يدل على شيء[1].

مفهوم التراث

يرجع أصل لفظ التراث في اللغة العربية إلى مادة (و.ر.ث) وتجعله المعاجم العربية القديمة مرادفا ل (الإرث) و (الورث) و(الميراث)، وهي مصادر تدلّ –عندما تطلق إسما- على ما يرثه الإنسان من والديه من مال أو حسب، بناء على ما تقدم نلاحظ أنه لا كلمة (تراث) ولا كلمة (ميراث) ولا أيا من المشتقات من مادة (و.ر.ث) قد استعمل قديما في معنى الموروث الثقافي والفكري –حسب الجابري– هذا يعني أن مفهوم (التراث) كما نتداوله اليوم، يجد إطاره المرجعي داخل الفكر العربي المعاصر ومفاهيمه الخاصة، وليس خارجها[2].

لذلك يعرّف معجم اللغة العربية المعاصر مصطلح التراث ب: «كلّ ما خلّفه السَّلف من آثار علميّة وفنية وأدبيّة، سواء مادِّيَّة كالكتب والآثار وغيرها، أم معنوية كالآراء والأنماط والعادات الحضاريّة المنتقلة جيلاً بعد جيل، مما يعتبر نفيسًا بالنسبة لتقاليد العصر الحاضر وروحه: التُّراث الإسلاميّ/ الثَّقافيّ/ الشَّعبيّ».

على مستوى الاتفاقيات الدولية قد لا نصادف تعريفا محدّدا لمفهوم التراث، وإنما نجد تعريفا لمفهومي التراث الثقافي والطبيعي والتراث اللامادي، وعليه يمكن اعتبار التراث بشكل عام هو ما خلّفه السلف من موروث ذو قيمة حضارية وإنسانية سواء كان ملموسا (تراث مادي) أو غير ملموس (تراث غير مادي).

ومن الملحوظ توسّع ما يعدّ تراثا في النصف الثاني من القرن الماضي توسّعا كبيرا. فقد كان الميل إلى تعريف ممتلكات التراث بأنّها المعالم الفردية والمباني مثل أماكن العبادة أو الحصون والقلاع، وكانت تعتبر أمكنة مستقلّة قائمة بذاتها لا ترتبط بالمناظر الطبيعية المحيطة بها. أما اليوم فهناك اعتراف عام بأنّ البيئة بأسرها قد تأثرت بتفاعلها مع الإنسانية، وهي بالتالي مؤهلة لأن يعترف بكونها تراثا[3].

تنبع قيمة المصادر التراثية من كونها توثّق نشاط الإنسان وإنجازاته عبر التاريخ، بواسطة وسائل مادية وأخرى غير مادية، وتكمن خطورة وضعيتها في طبيعتها غير المتجددة، إذ لا يمكن تعويضها في حالة التلف أو الضياع، لذلك لابد من أن يكون هناك اهتمام بتصحيح عدم الاتزان بين احتياجاتنا والحفاظ عليها.

التراث المادي

يمكن حصره في المخلفات المادية ذات القيمة التاريخية سواء الثابتة (كالمدن والمعالم التاريخية، المواضع الطبيعية…) أو التي يمكن نقلها من مكان إلى آخر (الصور، اللوحات، أبواب، منحوتات متحركة، المخطوطات، الوثائق والكتاب المطبوعة، عملة نقدية، المحفوظات الصوتية والفوتوغرافية والسينمائية…).

أطّرت اتفاقية حماية التراث العالمي الثقافي والطبيعي (1972) أهم عناصر التراث المادي تحديدا وتعريفا:

الآثار:

الأعمال المعمارية، وأعمال النحت والتصوير على المباني، والعناصر أو التكاوين ذات الصفة الأثرية، والنقوش، والكهوف، ومجموعات المعالم التي لها جميعا قيمة عالية استثنائية من وجهة نظر التاريخ أو الفن أو العلم.

المجمعات:

مجموعات المباني المنعزلة أو المتصلة، التي لها بسبب عمارتها، أو تناسقها، أو اندماجها في منظر طبيعي، قيمة عالمية استثنائية من وجهة نظر التاريخ أو الفن أو العلم.

المواقع:

أعمال الإنسان، أو الأعمال المشتركة بين الإنسان والطبيعة، وكذلك المناطق بما فيها المواقع الأثرية، التي لها قيمة عالمية استثنائية من وجهة نظر تاريخية أو جمالية أو إثنولوجية أو أنثروبولوجية (المادة1، اتفاقية لحماية التراث العالمي الثقافي والطبيعي باريس، 1972).

والمعلم التاريخي لا يشمل فقط المباني المعمارية المنفصلة، بل يشمل أيضا البيئة المبنية والطبيعية التي تكون دليلا على حضارة ما، أو تكون دليلا على تطوّر ذي معنى لحدث تاريخي. هذا المفهوم لا يطبق فقط على المعالم الكبيرة بل أيضا على الأعمال البسيطة التي بمرور الوقت اكتسبت معنى ثقافيا (المادة1، الميثاق العالمي للحفاظ والترميم للمعالم والمواقع، البندقية، 1964).

ويعنى بالتراث الطبيعي:

  • المعالم الطبيعية المتألّفة من تشكيلات الفيزيائية أو البيولوجية، أو من مجموعات هذه التشكيلات، التي لها قيمة عالمية استثنائية من جهة النظر الجمالية أو الفنية.
  • التشكيلات الجيولوجية أو الفيزيوغرافية، والمناطق المحددة بدقة مؤلفة لموطن الأجناس الحيوانية أو النباتية المهددة، التي لها قيمة عالمية استثنائية من وجهة نظر العلم، أو المحافظة على الثروات.
  • المواقع الطبيعية أو المناطق الطبيعية المحددة بدقة، التي لها قيمة عالمية استثنائية من وجهة نظر العلم أو المحافظة على الثروات أو الجمال الطبيعي. (المادة2، اتفاقية لحماية التراث العالمي الثقافي والطبيعي باريس، 1972).

وتضم قائمة التراث العالمي في الوقت الراهن 962 موضعا تاريخيا في 157 دولة طرفاً (745 موضعاً ثقافياً و188 موضعاً طبيعياً و29 موضعاً مختلطاً[4].

وللمغرب تسعة ممتلكات مسجلة في لائحة التراث العالمي وهي[5]:

  1. المدينة العتيقة لفاس مسجلة سنة 1981.
  2. المدينة العتيقة لمراكش مسجلة سنة 1985.
  3. قصر آيت بن حدو مسجل سنة 1987.
  4. المدينة التاريخية لمكناس مسجلة سنة 1996.
  5. الموضع الأثري لوليلي مسجل سنة 1997.
  6. المدينة العتيقة لتطوان (تيطاوين قديما) مسجلة سنة 1997.
  7. المدينة العتيقة للصويرة (موكادور قديما) مسجلة سنة 2001.
  8. المدينة البرتغالية مازاغان (الجديدة) مسجلة سنة 2004.
  9. الرباط، العاصمة الحديثة والمدينة التاريخية: تراث مشترك، مسجلة سنة 2012.

التراث اللامادي

تحدّد اتفاقية الحفاظ على التراث غير الملموس (باريس، 2003، يونسكو) تعريفا جامعا للتراث الثقافي غير المادي بكونه: «مجموع الممارسات والتصورات وأشكال التعبير والمعارف والمهارات – وما يرتبط بها من آلات وقطع ومصنوعات وأماكن ثقافية – التي تعتبرها الجماعات وأحيانا الأفراد، جزءا من تراثهم الثقافي». وهذا التراث الثقافي غير المادي المتوارث جيلا عن جيل، تبدعه الجماعات من جديد بصورة مستمرة بما يتفق مع بيئتها وتفاعلاتها مع الطبيعة وتاريخها، وهو يُنمّي لديها الاحساس بهويتها والشعور باستمراريتها، ويعزز من ثم احترام التنوع الثقافي والقدرة الإبداعية البشرية. ولا يؤخذ في الحسبان لأغراض هذه الاتفاقية سوى التراث الثقافي غير المادي الذي يتفق مع الصكوك الدولية القائمة المتعلقة بحقوق الإنسان، ومع مقتضيات الاحترام المتبادل بين الجماعات والمجموعات والأفراد والتنمية المستدامة.

ومجالاته كالآتي[6]:

  • التراث الشفهي والعبارات، وتتضمن اللغة كأداة للتراث الثقافي غير الملموس.
  • الموسيقى وفنون العزف.
  • العادات الاجتماعية، أحداث تعبدية أو أعياد.
  • المعرفة والتعامل مع الطبيعة ومع العالم.
  • الحرف والمنتجات التقليدية.

زيادة على هذا الحدّ يمكن إدراج القيم كعنصر مهم من عناصر التراث غير الملموس، لما له من دور في إعطاء المجموعات والأفراد خصوصيتهم الثقافية المحفوفة بمعاني أخلاقية نبيلة.

يندرج التراث الشعبي أيضا، ضمن التراث اللامادي، ويقصد به عادات الناس وتقاليدهم وما يعبرون عنه من آراء وأفكار ومشاعر يتناقلونها جيلا عن جيل. ويتكون الجزء الأكبر من التراث الشعبي من الحكايات الشعبية مثل الأشعار والقصائد والأساطير، ويشتمل أيضا على الفنون والحرف وأنواع الرقص، والألعاب والأغاني، بالإضافة إلى الأمثال والألغاز، ناهيك عن المفاهيم الخرافية والاحتفالات[7].

لا يفوتنا التنبيه إلى كون هذا النوع من التراث سهل وسريع التلف، ما يستوجب عناية كبيرة تحرص على تحويله إن أمكن إلى تراث مادي بغرض حفظه كتابة أو تسجيلا.

المراجع
[1]  صلاح إسماعيل، "دراسة المفاهيم من زاوية فلسفية"، مجلة إسلامية المعرفة، المجلد2، العدد8، 30 أبريل 1997، ص، 10.
[2]  محمد عابد الجابري، التراث والحداثة: دراسات .. ومناقشات، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الأولى، 1991، ص، 24.
[3]  إدارة التراث الثقافي العالمي (دليل إدارة موارد التراث العالمي)، عن منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة-يونسكو، 2016، ص، 12.
[4] موقع منظمة اليونسكو: https://ich.unesco.org/ar/convention ، تاريخ الاضطلاع: 21/05/2021.
[5] موقع اليونسكو: https://whc.unesco.org/ar/list/?iso=ma&search=&، تاريخ الاضطلاع: 20/03/2022.
[6] موقع منظمة اليونسكو: https://ich.unesco.org/doc/src/2003_Convention_Basic_Texts-_2022_version-EN_.pdf، تاريخ الاضطلاع: 20/03/2022.
[7] سامية عواج، التراث المادي واللامادي ودور الإعلام في الحفاظ عليه وتثمينه، مجلة المعارف لبحوث والدراسات التاريخية، العدد 22، ص، 45 .