مقدمة

ظاهرة الصَّدر الأعظم في التاريخ السياسي المغربي جديرة بأن تُفرَد لها بحوث ورسائل جامعية، ودراسات ومقالات مُحَكَّمة، لإبراز مكانة أولئك الذينَ حَكَموا باسم السّلاطين لسنواتٍ عديدة، أو تحت إشرافهم ورقابتهم أحيانا، ولِرَصْد طبيعة هذه الظاهرة وآثارها وأسباب انقِراضها.

الحجابة والصّدارة العُظمى بين الأندلس والمغرب

يُرْجِع الدارسونَ ظُهور ما يُشبِه هذه الوظيفة أو المنصب إلى عهد الخليفة الموحِّدي يوسف الثاني بن محمد الناصر (تـ 1224م)، حيث سُمِّيَ ابن الجامع بــلَقب “كبير الـوزراء”، وهو سليل أسرة أندلسية توارَثت موقع الوزارة منذ عهد السلطان الموحدي القوي يوسف بن عبد المؤمن المتوفَّى شهيداً سنة 580 هجرية.

وقبل ذلك بعقود، تنَفَّذَ “البَرامِكة” زمن الرّشيد (تــ 808م)، وسَوّلت لهم مواقِعِهم كوزراء كبار في إعدام شرعية العبّاسيين والانقلاب على السلطة القائمة، واحتلالِ “مراتِب الدولة وخِطَطَها بالرؤساء من وُلْدِهم واحتازوها عمّن سواهم (..) وعَظُمت الدَّالّة منهم وانبَسَطَ الجاه عندهم، وانصَرَفت نحوهم الوجوه، وخَضَعت لهم الرِّقاب (..) ومُدِحوا بما لم يُمْدَح به خَليفتهم”[1]، فُنكِّبوا على يد الخليفة هارون الرّشيد نظيرَ “ما كان مِن استبدادهم على الدولة واحتِجافهم أموال الجباية” حسب تعبير ابن خلدون.

وعاشت الأندلس بعد وفاة الخليفة الحَكَم المُستنصِر على إيقاع تحكُّم مُطلَق وسُلطة واسعة لأشهر وأعظم قادتها السياسيين؛ محمد بن أبي عامر المعافري، المشهور بالمنصور ابن أبي عامر، الذي حوَّل منصِب الحجابة والصَّدارة العُظْمى إلى مؤسسة حُكم قوية ومتسلِّطة وممتَدٍّ حكمُها من الزّاهرة إلى فاس.

لقد شَكَّلت حالة “الوزير الأكبر” التي استَنَّها ابن أبي عامِر، معادَلة ارتَقت لدرجة حقيقة تاريخية تُفيدَ ضرورة وجود “صَدر أعظَم” يُصبح هو الحاكم الفِعلي في ظِلِّ وجودِ حكّام ضِعاف أو في مرحلة تدبير انتقال في السلطة، فتتشكَّل ثنائية “سلطة صورية” يمثّلها الخليفة، و”سُلطة فِعلية”، يجسِّمها الوزير الأكبر. يَرى الدكتور حسن أوريد[2] أنَّ المنظومة الموبوءة التي أسَّسَ لها ابن عامِر، لم تُغيِّر مجرى التّاريخ، ولا صَنعت إضافات يُنَوَّه بها، بل حَمَلت في ذاتها بُذورَ وفاتها، وانْهِدام الدولة ووهَنُ الحضارة الإسلامية في الأندلس.

وفي المغرب الأقصى؛ مثَّل الصّدر الأعظم حضوراً قويا في قَلب النظام الحاكم منذ أواخر عصر الدولة المرينية، إذْ انتقلَ الحُكم من السلاطين (المرينيين) إلى الوزراء (الوطّاسيين) الذين استبدّوا، وبلغوا شأوْاً عظيماً من التمجُّد والتَّسَلْطُن، وأعْطَبوا حَرَكة السلاطين، مما أوْدَى بالسلطة المرينية إلى الزوال سنة 1456، فضْلاً عن الدور الخطير الذي لعِبه الـمتنفِّذ أبو زكريا يحيى، الذي لم يُجاوِز 70 يوماً في منصبه[3]، خاض فيها حرباً أهلية ضدّ آخِرِ دُعاة العَرش المريني، وثورة مفتوحة ضدّ الشيخ اللحياني الورتاجني في مكناس، وصراعٍ مريرٍ ضدّ الحركات الصوفية ذات الـمنزَع المعارِض للوطّاسيين، وعَزْلٍ ظالِمٍ لخطيب جامع القرويين الفقيه محمد بن عيسى المصمودي، واستِعمال العَسْفِ في التعامل مع الرعية، واستِبدالات بالجملة في صُفوف القياد والجُند وأساليب العَسكريةِ وعوائد الـمُلْك، الأمر الذي عجَّلَ بنهايته المأساوية؛ ذَبيحاً مَعيةَ عددٍ من شيوخ بني وطّاس سنة 1459م.

الصّدر الأعظم؛ الوظيفة والدور والاختصاصات اللامحدودة

كان بجانب السلطان الذي يمثِّل أهم شخص في بنية الجهاز المخزني المغربي “الحاجب وقُواد الجيش والوزراء أو الكُتّاب، والأمناء. وأهم شخص بعد السلطان هو الحاجب السلطاني، وقد يرتقي أحيانا إلى مرتبة الصَّدارة، فيُسَمَّى آنئذٍ بالصدر الأعظم، أيْ المساعِد الأول للسلطان. وكان يُشرِف على جهاز متكامِل من الخُدّام داخل البلاط (..) كما كان يتولّى النظر في شؤون الأمن الداخلي بإشرافِه عن كَثَبٍ على شؤون العُمّال والقُوّاد.”[4]، وصارَ موقع الصدر الأعظم يتعاظَم بعد وفاة السلطان المغربي الحسن الأوّل[5]، باعتِباره رأس السلطة المطَلَقة في الدولة، والقائم بوظيفة الواسطة بين القبائل والزوايا، واللّاعب الفاعل بين الزعامات المحلية والدينية[6] المنازِعة للسلطة المركزية في حالَتي الضعف والانتقال.

في العهد العزيزي القصير (فترة مولاي عبد العزيز العلوي)؛ أصبَح جهاز المخزن يتوفِّر على “وزارة الصَّدارة” تَعَزَّزتْ مكانتها قبَيل الحماية وأثناءَها، بحيث تذكر مصادِر المرحلة أسماء بَعض من شَغلوا هذا المنصب الحساس، كــ”إدريس بوعشرين، ثم الحاجب أبو عمران موسى بن حمّاد، ثم السيد محمد بن العربي الجامعي، ثم الحاج المعطي الجامعي، ومحمد المقرِّي”[7]، وتقوَّى دور الرجل القائم بهذا المنصب مع الدولة الحديثة في شَخصِ وزير الداخلية.

تُعدُّ سنواتُ القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين بالمغرب نموذَجاً _ سلبيا _ في الحديث عن الأدوار المؤثِّرة والخطيرة للصدر الأعظم، تتجلّى معها حقائقَ الصراعات والانقلابات التي عرفتها السلطة في ذلكم القرن، وكان رموزُها أشخاص تولَّوا مهمة الصدر الأعظم، جاءوا على ظَهْر مؤامرات مخزنية واستغلال لحظات “تَفرُّق الكلمة” في البلاد[8].

وممن علا نَجمه في هذا القرن، المدعو موسى بن أحمد بن المبارك الذي حاز مكانة الحاجب الأكبر والصدر الأعظم ابتداء من 1869، وحفيده باحمّاد بن موسى بعدَ ذلك بسنوات، حيث اضطلع هذا الرجل “بمهمة الوصاية على المملكة، واحتَكَر السُّلَط كلَّها إلى أنْ وافته المنية يوم 13 مايو 1900”[9]، فيما اعترف المؤرخون له بالغيرة على استِقلال البلاد وضَمانِه استِمرار هيبة السلطة المخزنية. فخَلَفه ابن عمِّه المدعو المختار بن عبد الله، ثم أطيح به وجيء بالمفضَّل غرّيط صدراً أعظم.

وفي 1911، السنة التي شهِدت اندلاع انتفاضة فاس ضدّ تنازلات مولاي عبد الحفيظ وعَقْد الحماية وتوسُّع الاستعمار العسكري في الناحية الشرقية والدار البيضاء والصويرة وغيرها، وقيام “حكومة متمرِّدة في مدينة مكناس، نُصِّب على رأسها سلطان جديد هو مولاي الزّين”، بَرز اسمُ صَدْر أعظَم آخرَ هو “عَقّا البويدماني”[10]، سُرعان ما سيغيب عن المشهد بتدخُّل فرنسي عسكري حَسمَ مع حَرَكة مولاي الزين وأركان جهازه.

الصدر الأعظم الأخير.. نهاية أَسيفة

مع مَطالع الحماية؛ ستبرُز شخصية محمد الـمقرِّي كأبرزِ الـمُعمِّرين في موقع الصَّدر الأعظم إلى غاية يونيو 1955، الرجل مولود في فاس سنة 1860، الذي ناوَأ خصومه، وناوَرَ المحيط والمتغيِّرات، وشارك في مؤتمر الجزيرة الخضراء، وبصفته الوزيرَ الأعظَم بتنصيبٍ من السلطان عبد الحفيظ؛ “شارك عن قُرْبٍ في المفاوَضات التي أدَّت إلى التوقيع على معاهدة الحماية بكاملها”[11]، وكَسَبَ ثِقة الفرنسيين، واستحوَذَ على سياسة التنفيذ والتفويض والعلاقات الخارجية، وبايع ابن عرفة، وحالَف الاستعمار الفرنسي، وعاصَر ثلاثة مُلوك، ثمَّ كانت نهايته الأسيفة غَداة عودة محمد الخامس، حيثُ تَمَّ تجريده من ممتلكاته[12] ومصادرة أملاكه، وحَجْز ما لديه من وثائق وأرشيفات، وظَل رهين الإقامة الجبرية إلى حين وفاته سنة 1957، و”غالبا ما تكون نهاية الصدر الأعظم، أو الرجل القوي مأساوية”[13]، في الماضي؛ كما التاريخ المعاصِر.

المراجع
[1] ابن خلدون عبد الرحمن، كتاب العِبر، وديوان الـمُبتَدأ والخبر، في أيام العرب والعجم والبربر، ومَن عاصَرهم من ذوي السلطان الأكبر، المكتبة العصرية، لبنان، تحقيق درويش الجويدي، طبعة 2011.
[2] أوريد حسن، زينة الدنيا، عن المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى 2020.
[3]  عندما كان يحكمنا الصدر الأعظم، مجلة زمان، النسخة العربية، العدد 63، يناير 2019
[4] القبلي محمد: تاريخ المغرب؛ تحيين وتركيب، إشراف وتقديم، منشورات المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب، الطبعة الأولى، السحب الثاني 2012، ص: 482.
[5] بن عبد الله عبد العزيز،  الوزارة والوزراء عبر التاريخ؛ نموذج للوزراء وكُتّاب الدولة بالمغرب الأقصى، مجلة "دعوة الحق"، العدد 271
[6] الكشوري غشّان، عندما حكم القايد المغرب، مجلة زمان، النسخة العربية، العدد 89، مارس 2021
[7] دعوة الحق، عدد، 271، مرجع سابق.
[8] تاريخ المغرب؛ تحيين وتركيب، مرجع سابق، ص: 451
[9] تاريخ المغرب؛ تحيين وتركيب، مرجع سابق ، ص: 496
[10] تاريخ المغرب؛ تحيين وتركيب، مرجع سابق، ص: 529.
[11] تاريخ المغرب؛ تحيين وتركيب، مرجع سابق، ص: 532
[12] رصيد: الصدر الأعظم محمد المقري 1919-1921، مؤسسة أرشيف المغرب، أرشيف خاص، تحت رقم A14، بتاريخ 2019، نسخة إلكترونية، ص: 2. (https://bit.ly/3Jl773l ).
[13]أوريد حسن، الصدر الأعظم صاحب السلطة المطلقة، مجلة زمان، النسخة العربية، عدد 63، يناير 2019.