تقديم

اختاره الدكتور عبد الله أخواض  «المرجعية والمنهج في الفكر العربي المعاصر” عنوانا لكتابه، ومعلوم أن اختيار المرجعية والمنهج في الفكر العربي يحيل على مساحة كبيرة ونقاش علمي دقيق خلق جدلا واسعا بين المفكرين، وأحدث خلافا بطبيعة المنطلقات والمستندات والخلفيات الفكرانية. واعتبر الكاتب أن النهضة الحقيقية تنطلق من النسق الفكري للأمة ومن أصالتها المنهجية وصدق وفعالية أفكارها وقدرة جهازها المفاهيمي على التوليد والإبداع، وأن حركة التاريخ لا تؤتي ثمارها إلا في إطار نسـقها الـعـقـدي والـفـكـري، أمـا الاعتماد على مجموعـة من المرتكزات والمفاهيم المنبثقة من أنماط حضارية أخرى فيحدث الخلل والتناقض ويعطل المسير حيث ينبغي له السير، ويسير حيث لا ينبغي أن يسير (الكتاب ص 12).

سياقات تأليف الكتاب وإشكاليته

يأتي الاهتمام بموضوع الكتاب في سياقات متعددة حددها المؤلف في: ما ارتبط بالدعوة إلى ضرورة تحرير مناهج التفكير في الوطن العربي، وتجاوز حالة الاغتراب واللاوعي التي يعانيها، سياق بناء المعرفة إذ لا معرفة بدون منهج، إذ المنهج حالة وعي دائمة في الأمة لإعادة التركيب الطبيعي فيها وإحداث التوازن والانسجام بين الفكرة والواقع التاريخي التي شكل هذه الذات، وإعادة الثقة بالمنظومة الفكرية والثقافية لها، وامتلاك القدرة على تشغيل آلياتها في النهوض والتقدم وتجاوز ثغرات في الفكر العربي ومشروعه النهضوي وآليات اشتغاله، وتناقضاته وثنائياته المفاهيمية (الكتاب ص 12).

ترتبط  الإشكالية بمفهومي المرجعية والمنهج، واهتمام المفكرين بسؤال النهضة وهمومها، والتقدم في الأمة، باختلاف اتجاهاتهم ومشاريعهم الفكرية والمفاهيم التي اعتمدوها للإجابة عن الأسئلة المقلقة، والحرجة التي تواجه الأمة. ومعلوم أن « المعارك» بتعبير الكاتب بين هذه المقولات ومنهجياتها تحت شعار ما سماه « البقاء للأقوى» و» نفي النفي» ومنطق «التجاوز والإلغاء»، مما أدخل الأمة في معركة وهمية. واعتمدت مقارباتها: المقاربة التاريخية الجدلية، التي تبناها اليسار الماركسي العربي، المقاربة الابستمولوجية التي مثلها ثلة من المفكرين العرب، على اختلاف مداخل التبني: الجابري، وقيدي، وأركون… التي انتهجت هي الأخرى منطق الاستعباد والاستبقاء على مستوى الاختيارات المنهجية، أو على مستوى قضايا ونماذج التطبيق لهذه المقاربة، إلا أنها وقعت في الاختزال والفشل في تحقيق الحلم، لأنها مارست التفكيك لآليات العقل الإسلامي، لم تقو على البناء والتركيب والتوليد.

في منهجية البحث وغايته

لما وجد المؤلف أن المناهج المعتمدة اتخذت الإجابـة عـن مشكلات الأمـة، طرقـاً ملتوية غير مستوية، ومنهجية معكوسـة مـن خـلال الاشتغال على آليات وأدوات، وجـدت خـارج مشكلاتها الحقيقيـة وسياقها التاريخي الحضـاري؛ قاصـرة عـن تـقـديم الحلول المناسبة، يطـرح ضرورة تجاوز مشكلة الاستعانة بالمساقط الفكرية والمنهجية، بتعبير منى أبو الفضل -رحمة الله عليهـا-، المغايرة لهوية الأمة الحضارية، ويفسر ضعف الإبداع في الفكر العربي المعاصر، فافتقد هذا الفكر لإطار مرجعي جـامع في تنظيراته وممارساته، وقد كان هذا مسـوغاً كافياً لإرباك حسابات وتوقعات هذه التيارات (الكتاب ص 10).

ويقتضي المنهج العلمي الإمساك، بالمنطق الداخلي لكل مجتمع، ومراعاة خصوصياته في إطار المشترك الإنساني العام ما لم ينقض أصلا من أصوله، أما التعميم المنهجي والمعرفي والواحدية في المقولة الإنسانية فمنطق متجاوز،وأن العقائد مسلمات أساسية في البناء المعرفي والحضاري للأمم، خصوصا إذا تعلق الأمر بأمة الإسلام صاحبة الوحي الخالد –الإطار المرجعي الأساس في بناء الرؤى وتوليد النماذج الفكرية والمعرفية (الكتاب ص 11).

هذه القضايا حاول المؤلف قـدر الوسع والطاقة أن يعالج بعضا منها من خلال نماذج اختار الاشتغال عليهـا وحـد بينها هم التاريخ والتقدم والنهضة والخروج من التخلف، وفرق بينها المنهج والرؤية والتصور.

وقد كان هاجسه في هذا العمل البحث عما يجمع هذه التيارات لا ما يفرقها، لهذا تجنب السقوط في التحليل الاختزالي، الذي يرى المخالف شرا مستطيرا، ومن يشترك معه تحيزاته الصواب والحق، وإنما التحيز في هذا العمل كان إلى جانب الإطار المرجعي العام للأمة
للمنهج والرؤية، التي ينبغي أن تنطلق منها في نهضتها، ويضيف «فنحن لا نؤسس لرؤانا وتصوراتنا على انتظار فشل الآخرين أو لعيـوب في فلسـفاتهم بقدر ما نؤسس على تراكم خبرات وتجارب الأمة على اختلافها وتنوعها.»

محتويات الكتاب

جاء الكتاب في حوالي مائتي صفحة وتسع صفحات، وهو من منشورات مؤسسة محيط -الرباط، ويتضمن مقدمة وثلاث فصول وخاتمة:

  • الفصل الأول: خصصه للمدرسة القومية العربية ومحدداتها المنهجية التي أسست عليها مشروعها النهضوي، من خلال الاشتغال على نموذج متميز داخل هذه المدرسة؛ وهو محمد عابد الجابري.
  • الفصل الثاني: اعتمد فيه على تحليل الخطاب العلماني في الفكر العربي المعاصر أسسه ومنطلقاته المنهجية، التي اشتغل عليها في التنظير لقضايا الأمة ومقاربة إشكالاتها وشروط الدخول في عصر الحداثة الفكرية والمعرفية، من خلال نموذجه محمد أركون نظرا لما يعتبر كتاباته على مستوى التنظير المنهجي، وأكثرها افتتانا بفتنة الحداثة في نسختها الغربية وقام بتقويم ما يمكن تقويمه في هذا الخطاب.
  • الفصل الثالث: عرض فيه لنموذج بدأ يطرح نفسه على الساحة الفكرية العربية المعاصرة، نموذج المدرسة الحداثية البنائية في الفكر العربي المعاصر، عززه بنموذجين اشتغلا على المستوى المنهجي، الأول ارتبط بالجهود الفكرية والفلسفية لطه عبد الرحمان، والثاني ارتبط بالعمق الفلسفي والمنهجي الذي بذله المفكر المصري عبد الوهاب المسيري من خلال رؤية نقدية عميقة للحضارة الغربية التي ظلت وسيطا مرجعا لدعاة التقليد في الفكر العربي المعاصر، وإعلان فساد كثير من المعتقدات المنهجية لهذه الحضارة ومنظوراتها في التحليل، والتفسير لأنها منظورات كمية تراكمية اختزالية، أحدث تبنيها القسري في فكرنا المعاصر تحيزا للمرجعية ذاتها، ومن خلال الدعوة إلى بديل معرفي منهجي اجتهادي توليدي، تركيبي تراحمي يستجيب للبعد الفطري في الإنسان.

خاتمة

خلص المبحث إلى أمر أساسي تمثل في:  أن الانتقادات التي وجهت للجابري لا تنقص من قيمة المشروع وصاحبه، بل تزيد من قوته وتأكيد على استمرار الروح النقدية العقلانية التي دشنها في تحليله لنظم الثقافة العربية، واستئنافها وفق معطيات الواقع المعاصر، لهذا فنحن، يقول المؤلف، لا نؤسس رؤانا واختياراتنا، على أساس انتكاسة الآخرين، وفشلهم أو لعيوب في فلسفاتهم؛ بقدر ما نؤسس على أساس نوع من تراكم خبرات عقول الأمة، وتجاربها الفاشلة والناجحة، كما نؤسس على معيارية ذاتية قائمة على منطق داخلي، أثبت جدارة عطائه على امتداد التاريخ الحضاري للأمة، والانفتاح الـواعي على كل الممارسات الإنسانية الراقيـة وعطاءاتهـا المتواصلة، تراعي خصوصيتها وخصـوصـيات الآخرين، وتعترف بنسبيتها ضمن النسق الحضاري الإنساني العام.

وقد ميز في عمله هذا بين ثلاث مدارس في الفكر العربي المعاصر، المدرسة القومية، المدرسة العلمانية، والمدرسة البنائية التأصيلية في الفكر العربي المعاصر. وتعد هذه الدراسة، بحسب المؤلف، جهد المقل لبنة في الفكر المنهجي تنتظره لبنات أخرى.