العلوم الطبية والصيدلية في ذروة الانتعاش

لا تَنازُع في كون الأندلس تُعَدُّ حاضنة نبغاء الطب على مرّ قرون الحضارة العربية – الإسلامية، فعلى ترابها برز  أبو القاسم خَلف بن عبّاس الزّهــراوي[1] في القرن 10 صاحب كتاب ”التّصريف لمن عَجَز عن التأليف“[2]، وأعظم جرّاحي الغرب الإسلامي وواضع أُسس الجراحة الحديثة الرجل الذي يحمل أكثر من مُستشفىً ومدرسةً وشارعاً اسمه في المغرب الأقصى اليوم، والطبيب الماهر عبد المالك ابن زهر (المتوفّى سنة 1162) والذي عمل لدى سلاطين الدولة المرابطية، وبعد زوال مُلكم سنة 1147؛ اتخذهُ الخليفة الموحدي عبد المؤمن بن علي الكومي طبيبا له ووزيراً، صاحب مُصنَّف ”الأغذية والأدوية“، وكتاب “تذكرة في علاج الأمراض“ اللذان تُرجِما إلى اللاتينية، و“التّيسير في المداواة والتّدبير”[3] و“الاقتصاد في إصلاح الأنفس والأجساد”؛ قال عنه غوستاف لوبون كان “مُجرِّبا، مُصلحا، موطِّئاً لعلم الـمداواة”[4]، وانتقلت العلوم الطبية بين ضفتي المتوسط صوب المغرب الأقصى، متأثِّرة بما وصل من كتابات ابن سينا وأبي بكر الرّازي _ أشهر علماء الطب والكيمياء في بغداد _، وكتب ابن رشد والزهراوي، والتأثير الـمباشر لأبي مروان عبد الملك بن زُهر الإشبيلي، فازدهر الطب كأحد فروع الطبيعيات، و”في هذه الصناعة أئمة جاؤوا من وراء الغاية (..) وهي الصنائع التي لا تستدعيها إلا الحضارة والتّرف”[5]، وسيكون لها شأن في المغرب مع استقرار أحوال الـمُلك وازدهار العمران وبلوغ الدولة الموحدية أوجها.

ولما كانت العلوم الطبية مما حظِي بالعناية لدى العرب والأندلسيين والمغاربة؛ فقد “تُرْجمت مؤلّفات العرب الطِّبية في جميع أوربا، ولم يَـتْلف قسم كبير منها كما أصاب كُتُبهم الأخرى”[6]، (عبد الله بن أحمد المالقي المشهور عندنا بابن البيطار 1248م =أشهر الصيادلة العرب ورائد العلاج الكيميائي، اختصَّ زمنا في النباتات وطُرق استخراج العلاجات منها،  ذاع صيته في الأقطار عشّابا مهاراً وصيدلانيا مُحنَّكا، فكانت له زيارة للمغرب التقى فيها بعلماء ونباتيين وجرّاحين مغاربة، انتفعوا لاحقاً من كتابه ”الجامع لمفردات الأدوية والأغذية“[7] والذي يَذكر فيها الدواء ومنافعه وطرق استعماله. وقد أورد أكثر من ألف وأربعمائة عقار. وتُرجم الكتاب إلى ثلاث لغات هي الألمانية واللاتينية والفرنسية، وكتابه “ميزان الطّبيب”، وكان دافعاً لهم للتنافس والاجتهاد لتجاوُز مدرسة قُرطبة وإشبيلية في العلوم الطبية. وتميزت الجهود العلمية الطبية بالمغرب الأقصى في الجراحة ووصف الأمراض وأنواع العلاج والأدوية وطُرق الوقاية من السموم والأوبئة. واستمر التأثير والتأثر المتبادَل في الحضارة العربية الإسلامية بين جناحيها المشرقي والمغربي، من علي بن أبي الحزم الدمشقي المعروف عندنا بــابن النّفيس، وصولا إلى المهدي بن عبود السّلاوي (توفي 6 دجنبر 1999) في القرن العشرين، الرجل الذي أقْبَل على كُتُبِ التراث والفلسفة والتاريخ والأديان بشغفٍ كبير، بالموازاة مع حُبِّه للطب ونبوغه فيه، وإتْقانِهِ العربية والإنجليزية والفرنسية، مما أهَّلَه لاستكمال مسار التعليم العالي في تخصُّص الطب بفرنسا، مباشرةً بعد حصوله على الباكالوريا من ثانوية مولاي يوسف العريقة في الرباط سنة 1940. وفي سنة انتهاء الحرب العالمية الثانية انتقل المهدي إلى باريس للتدرُّب على الجِراحة بمستشفى شمال إفريقيا، وأعْقَبَ هذه التَّجربةَ بالالتحاق بمستشفى سان لويس، متخصِّصاً في الأمراض التَّناسلية والـجِلدية. ولم يتوقَّف هذا الطُّموح العلمي إلا بالحصول على الدكتوراه سنة 1950 من جامعة باريس، طارَ بَعدها إلى الولايات المتّحدة الأمريكية لمزيدٍ من التّخصص العلمي والعملي في الجراحة، ثم عاد مفتتحا عيادته الخاصة في الرباط.

طور التراجع والانكماش

جرَت سنة الاستبدال والتأخُّر على ميدان العلوم الطبية كما جرت على الميادين الأخرى، فانكمَشَت المعرفة الطبية بدء مِن القرن 14 الميلادي، بفعل عوائق وموانع الاستمرار والتألق، وأساساً؛ الاضطرابات وغياب الاستقرار السياسي، وضياع الأندلس، وتتابُع الأوبئة[8] والمجاعات[9]، كثرة الدّخلاء على مهنة الطبّ والمنتفعين، تنامي ثقافة المحافظة وتراجع الاجتهاد والبحث العلمي التجريبي، ضُعف التواصل والتعاون بين الأطباء بما أثّر سلبا على عملية التراكم.

أدّت تلك التحديات والإشكالات إلى تراجع الفاعلية الاجتماعية للعلوم المغربية – الأندلسية، وغياب أثرها في الدولة والمجتمع ونُظم المعرفة، وسرى عليها قانون يكاد يحكم مراحل صعود العلوم وأفولها في المغرب الأقصى؛ وهي ”أنَّ فترات الازدِهار تستمِرُّ حوالَيْ نِصف قرن أو أَقَلّ، ثمّ تأتي بعدَها فترة انحِطاط تستمِرُّ نفسَ الـمُدَّة أو مدةً أطولَ”[10] وفق تعبير الدكتور بنّاصر البعزّاتي، أستاذ الإبستمولوجيا وتاريخ العلوم بجامعة محمد الخامس بالرباط.

المراجع
[1] غوستاف لوبون، حضارة العرب، ترجمة عادل زعيتر، منشورات مؤسسة هنداوي، الطبعة الأولى 2013، الباب الخامس، الفصل السادس، ص: 501.
[2] الورقة المرجعية لندوة علمية بعنوان "أبو القاسم الزهراوي أبو الجراحة الحديثة"، من تنظيم جامعة حَمد بن خليفة، كلية الدراسات الإسلامية، إلقاء الدكتور محمد زكرياء، والدكتور طارق الجابري، بتاريخ 24 نوفمبر 2021.
[3] جمال بامي، "عبد الملك بن زهر"، المنشور في البوابة الإلكترونية للرابطة المحمدية للعلماء، بتاريخ 9 أبريل 2018.
[4] غوستاف لوبون، حضارة العرب، مرجع سابق، ص: 506
[5] (ابن خلدون) عبد الرحمن، "المقدِّمة"، ص: 479
[6] غوستاف لوبون، حضارة العرب، مرجع سابق، ص: 503
[7] "ابن البيطار.. شهيد العلم"، موقع الجزيرة.نت، بتاريخ 4 غشت2016.
[8] الوزان الحسن بن محمد الفاسي: "وصف إفريقيا"، ترجمة محمد حجي ومحمد الأخضر، عن دار الغرب الإسلامي، تونس، الطبعة الثانية 1983.
[9] (ابن خلدون) عبد الرحمن، "المقدّمة"، مرجع سابق.
[10] مجلة "زمان"، عدد ماي 202.