مقدمة

أعْطت فرنسا الاستعمارية انطباعاً أنها استوعبت خصوصيات المغرب الأقصى؛ الدينية[1] والثقافية والسياسية والاجتماعية، وأنها قدِمت إليه في أعقاب انتصارات صغيرة لم تُمارِس فيها العنف العسكري الذي استعملته وسيلة لاجتياح بعض دول الشام ومصر ثم الجزائر وتونس، وأنها فرضت حمايتها عليه، بهدفِ تطوير بنياته الإدارية والقضائية والسياسية/السلطانية، في أُفق تمليكه لأهْله ليُشرِفوا على تدبيره، مع تصريحها باحترام اختيارات المغاربة على مُستوى الدين والـحُكم، واحترام مكانة السلطان باعتباره الممثِّل الأعلى للمملكة الشريفة، إلا أن تتالى الوقائع أكَّدت بالملموس أنّه تَـمَّ الإخلال بالالتزامات والإصلاحات[2] التي ادَّعتها السلطات الاستعمارية وتَمَّ إفراغ مضمون وثيقة الـحماية من محتواها وبنودِها.

جواسيس استعمارية في لَبوس بِعثات علمية

عاش المستعمِر صراعا داخليا بين فرنسيي الجزائر _ أو ما عُرِف بمدرسة الجزائر _ والتي كانت تدعو إلى استعمار المغرب بأيّ طريق وبأيّ ثمن، ومدرسة الحزب الكولونيالي الـمقيمة بالمتروبول الفرنسي، والتي تَرى الإخضاع السلمي للمغرب الحلَّ الأنجعَ لتلافي الاصْطدام الدَّموي مع الأهالي. وعمِلت المدْرَسَتَان معًا على توجيه الرَّحَّالة والمستكشفين إلى المغرب وذلك قصد ضبط عدد ساكنته وقبائله وخيراته الفلاحية والمعدنية ومؤسَّساته السِّياسية والعسكري، قصْد قياس درجة تقبُّلها أو رفضها للحدث الاستعماري”[3].

وكان أخطر سلاح وظَّفه الفرنسيون؛ البعثات العِلمية، فقد سرَّعت فرنسا بتأسيس لجنة أسمتها “البعثة العلمية للمغرب” (La mission scientifique au Maroc)، ضَمّت في عضويتها أسماء كبيرة في العلوم الإنسانية والتاريخ، وأصْدَرَت سنة 1904 مجلة “أرشيف المغرب” (ARCHIVES MAROCAINES)، كان من كُتابها المرموقين: ميشو بلير Edouard Michaux Bellaire  (1930-1857)، كما رَعَت رحلات إدموند دوتي Edmond Doutté (1926-1867) والمركيز دوسكونزاك Marquis de Segonzaque  (1867-1962)[4] وغيرهما.

ومن ثَمَّ انطلق الرحالةُ الفرنسيون صَوبَ المغرب بُغية استكشافه _ دون معرفة مسبقة ما خَلا انطباعات ومعطيات مرحلة الكشوفات الجغرافية وترجمة الأعمال والرحلات والمخطوطات المغربية _، معتمِدين في رسم مَدارات رحلاتهم واختيار مخبِريهم على ما كانت توفِّره البعثات التّبشيرية المسيحية التي سَبقتهم إلى الميدان مِن معطيات ووثائق وصور وموارِد بَشرية، حتى إنّ جان لوي ميج Jean-Luis Miège  (1923-2018) يَعتبر أنَّ كتابة تاريخ مغرب القرن 19 تكون مستحيلة إذا ما تجاهلَت هذا المصادر الوثائقية[5].

ونَشأ الاهتمام بالمغرب ككيان حضاري، والانكباب على دراسة تاريخه ومظاهر علاقاته الإنتاجية وما تتضمَّنه من تقاليد وأعراف وعادات ومؤسّسات دينية وسياسية، محاولين إيجاد مبرِّراتٍ وطرقٍ عملية لإضفاء الطّابع الشّرعي على الوجود الاستعمار الفرنسي بالمغرب الأقصى.

بعض مهام وإسهام السوسيولوجيا الاستعمارية

ارتبط علم الاجتماع في المغرب المعاصِر بظاهرة التوسّع الإمبريالي وِفق بعض الباحثين (عبد الكبير الخطيبي)، التي استغلت هذا العلم في السياسات الاستعمارية، فمهَّدت بِإسهامات الجواسيس والمُستكشفين الذين قَضوا بين دُهرانَي المغاربة _ شعبا ومخزنا _ ردحاً من الدَّهر “ووقَفوا على نقاط ضُعف وقوة المغرب، وأصبحوا أدْرى بشِعاب البلاد، ونَجحوا في تَقديم معلوماتٍ من الأهمية بمكان، سهَّلت على المُستعمِر احتلال البلاد في وقت وجيز”[6]؛ للتَّغلغل الاستعماري بالمعرفة التشخيصية أو الإثنوغرافية لمكوِّنات المجتمع المغرب.

إلاّ أنَّ تطوُّر السوسيولوجيا لم يكن وليد ظاهرة التوسع الامبريالي فقط؛ بل إنَّه لم يكن ليَحدُث لولا تلاقي وتقاطع أفكار المارشال ليوطي (تــ 1934) الكبرى، وسياسة علمية سنَّها ألفريد لوشاتولييه Alfred Le Chatelier (1855 – 1929)، المستشرف الفرنسي والضابط في الشؤون الأهلية بالجزائر ثم المغرب، “زار المغرب ومصر وتركيا، وأنشأ كرسيا لعلم الاجتماع الإسلامي في كلية فرنسا”، وأحد مؤسسي “البعثة العلمية بالمغرب”[7]،  أدّيَا إلى قيامِ نظام بحث علمي استعماري متطورٍ وفق تشعُّب حاجات الحماية، كما تَبلور ذلك كله في إطار إلحاق الشُّعبة المغربية للبعثة العلمية بمديرية الشُّؤون الأهلية للإقامة العامة سنة 1919، وتأسيس “معهد الدراسات العليا المغربية” سنة 1920، كمؤسَّسة للتعليم العالي والبحث، كان فيما سبق يُسمّى “المدرسة العليا للعربية واللهجات البربرية”.

اختَصّ المعهد المذكور بدراسة اللغات في المغرب وتكوين المترجمِين، والرفع مِن مستوى فاعليته العلمية والتوجيهية عبر تجميع الباحثين، أمثال: هنري لاووست Henri laoust (1905-1983) المستشرق الفرنسي صاحب كتاب “نظريات شيخ الإسلام ابن تيمية في السياسة والاجتماع”[8]، ليفي بروفنسال Lévi-Provençal (1956-1894)، لويس برونو  Louis Brunot (1882-1965)..؛ قاموا بمجموعة من المهام لصالح السياسة الاستعمارية، في قضايا اللغة والدين والعادات والأعراف والاجتماع والتاريخ والتحقيق، ونَشروا موادَّ ومساهمات في مجلة “هيسبيريس“، وأُسنِدَت إليهم في مراحل لاحِقة مهمة تكوين أفواج الأطر العسكرية الـمُلتحِقة بطوابير الجيش والإدارات الفرنسية.

لقد تدخَّلت الإيديولوجيا بقوة وتخلَّلت معظم الأبحاث التي قام بها هؤلاء السُّوسيولوجيون الذين تناولوا الظَّواهر الاجتماعية بالمغرب، بل “إنَّ سوء حظّ المغرب الحقيقي هو أنَّ تاريخه كتَبه لمدة طويلة هواة بلا تأهيل؛ جغرافيون أصحاب أفكار براقة، وموظَّفون يدَّعُون العلم، وعسكريون يَتظاهرون بالثقافة، ومؤرِّخو الفن يتجاوزون اختصاصاتهم، وبكيفية أعمّ مؤرخون بلا تكوين لغوي أو لغويون وأركيولوجيون بلا تأهيل تاريخي. يحيل بعضهم على الآخر، يعتمد هؤلاء على أولئك، وتحبك خيوط مؤامرة لتفرض الافتراضات البعيدة كحقائق مقرَّرَة”[9].

غير أنَّ هذا ليس بمبرِّر للاستغناء عن هذه الأطروحات والنماذج التحليلية، فرغم “الدوافع الإيديولوجية المتنوِّعة والمتضارِبة أحياناً، يظلُّ هذا التراث مِن أهمّ المفاتيح لقراءة المغرب، وإماطة اللِّثام عن جوانب مُظلمة منه”[10]، لاستعمالِه أدوات تحليلية ونظريات ومصطلحات ومفاهيم كانت جديدة ومتطورة في وقتها.

خاتمة

إذا  كان تاريخ المغرب قد اختلطت في تناوله قراءتان أو تقليدان، إحداهما تراثية، سمتها عربية إسلامية، لها رموز وممثِّلون ومحقِّقون، وأخرى غربية جاءت على ظَهر الاستعمار، وإن كانت في الزمن، سابقة عليه قليلا، “ففي الظروف الثقافية التي نعيشها يبدو لنا التقليد الثاني [أي الغربي/الاستعماري/الاستشراقي] صَفوة التكوين العلمي. لا شَكّ أنّ بين الاثنين فرْقاً هائلاً. لا بدّ من نَشْر وتشجيع الثاني حتى يَكتب به أعْلَقُ الناسِ بالماضي والتراث. لا أريد بحالٍ أنْ أضَع المنهجين على مستوى واحد، أريد فقط أنْ أنبِّهَ إلى أنَّ المنهج الثاني أصبح الآنَ _ في العالم الـمتقدِّم _ تقليديا، وأنَّ العقلية التاريخية التي يَـنِمّ عنها عَتيقة. لن يستطيع المنهج الحديث _ كما تنشره الآن الجامعة العصرية _ أن يُجدِّدَ كتابة تاريخ المغرب”[11]، أو أنْ يُضيء عتمات الاجتماع الإنساني المغربي.

المراجع
[1]  العجيلي التليلي، السياسة الدينية لفرنسا بالمغرب العربي خلال الحرب العالمية الثانية، منشورات كلية الآداب والفنون ولإنسانيات-منوبة ومجمع الأطرش لنشر وتوزيع الكتاب المختص، ط1، 2018، تونس.
[2] تراجم الموقِّـعين على وثيقة الـمطالَبة بالاستقلال، منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، الطبعة الخامسة، 2020، ص 7.
[3] الزاهي نور الدين، المدخل لعلم الاجتماع المغربي، منشورات مجلة دفاتر وجهات نظر، العدد 20، مطبعة النجاح الجديدة، الطبعة الأولى 2011، ص 9.
[4] بسكمار عبد الإله، الجاسوسية الاستعمارية من خلال رحلة المركيز دوزيكونزاك عَبـر تازة، منشور بموقع الحوار المتمدِّن، العدد 7289، بتاريخ 24 يونيو 2022، تاريخ الاطلاع 15 ماي 2023:(على الرابط: https://bit.ly/42M5Lpn ).
[5] جنجار محمد الصغير، الرسائل والأطروحات الجامعية المغربية 1956 – 2007، دراسة بيبليوميترية، مجلة المدرسة المغربية، عدد 2، ص 15.
[6]  شُعيب حليفي (حوار)، مجلة "زمان"، النسخة العربية، شهر ماي 2017، العدد 43، ص 45.
[7] مجموعة باحثين، روّاد المعرفة الكولونيالية بالمغرب، منشورات مؤسسة بوابة علم الاجتماع، بدون تاريخ، تاريخ الاطلاع 15 ماي 20231، الساعة 13.57، ص: 3 – 4 (على الرابط: https://bit.ly/3MALE7Q )
[8] لاووست هنري، شيخ الإسلام ابن تيمية في السياسة والاجتماع، ترجمة محمد عبد العظيم علي، تقديم وتعليق الدكتور مصطفى حلمي، منشورات دار الأنصار، مصر، مطابع السفير بالإسكندرية، طبعة 1979.
[9] العروي عبد الله ، مجمل تاريخ المغرب، المركز الثقافي للكتاب، ص 27.
[10]  أوريد حسن، مُستكشفو المغرب؛ عُلماء أم جواسيس، مجلة زمان، النسخة العربية، العدد 43، ماي 2017، ص 29.
[11] العروي عبد الله، الأعمال الكاملة؛ مجمل تاريخ المغرب، المركز الثقافي للكتاب، للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 2018، ص 12.