مقدمة

تعتبر السيدة الحرة من الشخصيات النسائية البارزة والإستثنائية التي طبعت تاريخ شمال المغرب في مغرب القرن 16م/القرن العاشر الهجري، وخاصة في مدينة تطوان المغربية التي كانت حاكمة لها. فتاريخ المغرب لم يقدم لنا أمثلة أخرى منذ دخول الإسلام إلى البلد عن نسوة حكمن منطقة بكاملها ومارسن سلطة تكاد تكون مطلقة[1]. وتنتمي السيدة الحرة إلى أسرة بني راشد المشهورة، فهي ابنة أمير مدينة شفشاون علي ابن راشد، وأخت الوزير أبي سالم الأمير إبراهيم ابن راشد (896-946ه/1490-1539م)، وهي زوجة قائد تطوان محمد المنظري، كما أنها أيضا زوجة السلطان أحمد الوطاسي، أما أمها فهي الأندلسية المسيحية الأصل من إقليم قادس، والتي تسمت بلالة الزهراء بعد إسلامها وزواجها من الأمير علي ابن راشد[2]. ومن الأمور المثيرة للانتباه في حياة هذه الحاكمة الفذة في تاريخ المغرب، هو سكوت المصادر العربية عن مسارها وتاريخها الطويل في الحكم، اللهم بعض الاستثناءات التي أوردت إشارات عابرة ويتيمة فقط، وذلك عكس المصادر الأجنبية وخاصة البرتغالية والإسبانية التي تحدثت عنها بإسهاب.

نسبها ونشأتها

تنتمي السيدة الحرة إلى أسرة شريفة، فهي بنت المجاهد علي بن موسى بن راشد بن علي بن سعيد بن عبد الوهاب بن علال بن عبد السلام بن مشيش العلمي، فهي إذن علمية-إدريسية –حسنية النسب. وقد اختلف المؤرخون بشكل لافت في إسمها رغم شهرة لقبها: الحرة، والذي يعتبر لقب تشريف في المغرب، ولا يراد به مقابل الأمَة، وإنما توصف به الأميرات أمهات الملوك وزوجاتهم وبناتهم، منذ عهد الدولة المرابطية إلى العصر الحديث[3]. وقد روي أيضا أن اسمها عائشة[4]، وقيل أيضا فاطمة. أما مؤرخ تطوان محمد داود فيرى أن الحرة هو لقبها، ويميزها عن الإماء[5]. أما الأستاذ عبد الوهاب بن منصور فيرى أن إسمها الحقيقي هو “الحرة” لا عائشة، ويؤكد أن الحرة ليس لقبا ولا صفة لها بل هو إسمها الشخصي، وقد اعتمد في ذلك على ما ورد مثبتا في عقد زواجها من السلطان أحمد الوطاسي.[6]

ولدت السيدة أو الست الحرة بمدينة شفشاون حوالي 899ه/1493. ولأنها ولدت في بيت ملك وشرف فإنها تربت تربية تليق بمقامها كأميرة شريفة، وكانت تحسن إلى جانب اللغة العربية لغة أمها الإسبانية. كما تلقت تعليمها على يد أشهر العلماء بهذه المدينة من أمثال أب محمد عبد الله الغزواني، وقد مكنها ذلك، إضافة إلى ذكائها ونبهاتها، من أن تتحصل على ثقافة هامة انعكست فيما بعد على تصرفاتها وحياتها فيما بعد[7].

وفي نحو الثامنة عشر من عمرها، أي في سنة 1510م/916ه تزوجت السيدة الحرة من القائد المنظري الثاني بتطوان، في حياة والدها علي بن راشد، وهو حاكم مدينة تطوان -وهو ابن أخ المنظري الكبير مجدد مدينة تطوان (المنظري الأول)- فكانت تنوب عنه في حكم المدينة كلما تغيب إلى أن توفي عام 925ه/1519م، فأصبحت بذلك مدينة تطون خاضعة لحكم أمير شفشاون، وأخ السيد الحرة، إبراهيم بن علي بن راشد[8]. وقد اعتبر ذلك الزواج بمثابة تحالف متين بين إمارة شفشاون وقيادة تطوان من أجل تقوية الدفاع ضد البرتغاليين المحتلين لعدد من ثغور شمال المغرب[9].

حكم تطوان والزواج من السلطان الوطاسي

في سنة 931ه/1525 تنازل الأمير إبراهيم بن علي لأخته الست الحرة عن قيادة وحكم مدينة تطوان فحكمتها تحت نظره إلى سنة 935ه/1528م. وخلال حكمها لتطوان شارك التطوانيون في هجمات المجاهدين والتي كان يقودها أخوها حاكم شفشاون ضد البرتغاليين في مدينة ستبة. و”بالرغم من كون ولاية المرأة للحكم شيئا لم يكن معهودا بالمغرب في عصر الحكم الإسلامي، إلا أن مكانة العائلتين (المنظري وابن راشد) وذكاء الست الحرة ومرونتها وحزمها ودهاءه وقوة شخصيتها…كل ذلك سوغ لها أن تحكم البلاد إداريا وتقود الرجال سياسيا وإجتماعيا وحربيا. وذلك من أغرب ما حدث في تاريخ تطوان”.[10]

وقد استمرت في حكم مدينة تطوان، حتى بعد تعيين أخيها الأمير إبراهيم ابن راشد سنة 935ه/1528م من طرف السلطان الوطاسي أحمد الوطاسي في مهام رسمية داخل البلاط السلطاني في فاس، والذي عينه وزيرا في بلاطه وزوجه من أخته السيدة عائشة بنت السلطان محمد الشيخ الملقب بالبرتغالي. وقد بقيت على ذلك لمدة 13 سنة أخرى إلى أن تزوجها السلطان أحمد ابن محمد الوطاسي في الخامس من ربيع الأول من سنة 940ه/ الموافق لشهر 30 يونيو من سنة 1541م، فأصبحت بذلك خليفة لزوجها الجديد في حكم تطوان بعد رجوعه إلى فاس. وخلال هذه الفترة اتسع نفذوها وصار عملها غير قاصر على مباشرة الأعمال العادية داخل أسوار المدينة، بل صارت لها علاقات خارجية أيضا…وكانت لها مراكب تتعاطى القرصنة (الجهاد البحري) في البحار[11].

ويبدو أن زواج أحمد الوطاسي من السيدة الحرة كان زواجا سياسيا كان المقصود منه اكتساب عطف هذه المناطق وتأييدها له، ولذلك ترك زوجته نائبة عنه في حكم المنطقة وقفل راجعا إلى فاس، خصوصا وأن حكمه يعيش وضعا مضعضعا، وأن الدولة الوطاسية كانت مشرفة على الإضمحلال بسبب ضربات الأشراف السعديين في الجنوب، لذا كان زواجها منها وسيلة لتوطيد مركزه في الحكم[12].فقد كان هذا الزواج هو الوحيد الذي يحتفل به سلطان من المغرب خارج عاصمة ملكه، بل والأدهي من ذلك، في منطقة نفوذ عروسه، وذلك في تجاوز للمراسم البروتوكولية المعروفة، فالسلطان كان في موقع ضعف جعله بحاجة إلى دعم السيدة الحرة في مواجهة السعديين الذين كان نفوذهم قد اجتاح مدينة مراكش[13].

وكما أثار هذا الزواج كثير من الأسئلة حول مراميه وشكله، خصوصا وأنه زواج سلطان ينتقل من فاس ليتزوج في تطوان وهو في جموعه العديدة وحاشيته الكبيرة وجيشه الوافر وعدته وعدده، فإنه أيضا أثار حقد الأوروبيين وضغائنهم لما يشكله هذا الزواج/التحالف من خطر على نفوذهم ومستعمراتهم في المغرب، بل وهناك منهم من شبهه بزواج الملكين الكاثوليكيين فرناند وإيزابيلا ملكا إسبانيا.[14]

الجهاد البحري ضد الغزاة

بدأ اهتمام السيدة الحرة بأعمال القرصنة (الجهاد البحري) في حوض البحر الأبيض المتوسط فور تعيينها والية على تطوان بعد تعيين أخيها كوزير أعظم وقائد للجيش لدى السلطان أحمد الوطاسي 931ه/1525م. حيث انكبت على صناعة المراكب بمجرى مارتيل، وتحالفت في سبيل ذلك مع الأتراك العثمانيين في الجزائر، فشنت عدة عمليات عسكرية ضد السواحل الإسبانية. وقد نتج عن نشاطها البحري، جني غنائم وثروات وفيرة ومنحها قوة إضافية جعلتها في مستوى تشكيل تهديد للسلطة في فاس، الأمر الذي أجبر البلاط الملكي بفاس على قبول بنود تخول لها نوعا من الاستقلال الذاتي[15]. وقد كانت غاراتها البحرية موجهة أيضا ضد البرتغاليين، ففي 6 غشت 1541 احتجزت المراكب التطوانية سفينة برتغالية من طنجة كان على متنها إثنا عشر رجلا وأربع نسوة، فاقترحت الأميرة على عامل سبتة البرتغالي ألفونسو دونورونا أن يستعيدهم منها لقاء فدية يفديهم بها، ولما رفض شرطها شنت مزيدا من الغارات على جميع قطع الأسطول البرتغالي[16].

الإنقلاب على حكم السيدة الحرة

تؤكد الكتابات التاريخية إلى أن السيدة الحرة حكمت تطوان ونواحيها فترة طويلة من الزمن. فإذا تم أخذ بعين الإعتبار الفترة الزمنية التي شاركت فيها زوجها محمد المنظري في الحكم، تكون الست الحرة قد حكمت تطوان ونواحيها ما يزيد عن ثلاثين سنة. أي منذ زواجها بالقائد المنظري الثاني سنة 1510م/916ه إلى الانقلاب عليها وتجريدها من حكمها في 22 أكتوبر 1542م/949ه. وقد شكل استمرار الست الحرة حاكمة على تطوان كل هذه المدة مبعث استياء في صفوف كبار رجال عائلة المنظري وغيرهم، حيث استاءوا من تولي الست الحرة حكم تطوان وهم في الوجود، فقاموا بإعداد مؤامرة لقب حكومتها والاستيلاء على حكم المدينة. وقد قاد هذه المؤامرة محمد الحسن المنظري (المنظري الثالث) بتطوان، ووالده محمد الحسن المنظري الباجي الأندلسي (المنظري الرابع) المقيم بفاس، وقد جاء هذا الأخير من فاس إلى تطوان فاستولى على الحكم فيها بالقوة، واخرج منها الست الحرة واستولى على جميع ممتلكاتها، فكان بذلك الحاكم الرابع من عائلة المنظري الذي يحكم تطوان[17]. وقد كانت هذه الأحداث سنة 949ه/1542م. وبالإضافة إلى تآمر رجال آل المنظري ضد حكمها، فإن توتر علاقتها بأخيها الأمير محمد حاكم شفشاون، ودخول البرتغاليين في سبتة المحتلة في مؤامرة القضاء على حكمها قد عجل بسقوط حكمها. “فقد اجتمعت كل هذه الأطراف لتحبك مؤامرة تهدف إلى الإطاحة بالأميرة. وهكذا تعاون على ذلك ليس فقط البرتغاليون المقيمون بسبتة، وإنما أيضا صهر السيدة الحرة، المنظري الثالث…والمنظري الرابع، والد صهرها وأخيها من أبيها مولا ي محمد”.[18] وفي 12 رجب عام 949ه/ 22 أكتوبر 1542م رجعت إلى مسقط رأسها شفشاون تحت رعاية أخيها الأمير محمد، حيث ماتت بعد ذلك بقليل، ودفنت برياض الزاوية الريسونية بالقرب من القصبة[19].

المراجع
[1] محمد بن عزوز حكيم، السيدة الحرة: العاهلة الفذة، مذكرات التراث المغربي، ج3، ص 128.
[2] مجلة "دعوة الحق"، الست الحرة حاكمة تطوان -1-، وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، المغرب، عدد 188 و189 (راجع الرابط: https://bit.ly/3RUso4B).
[3] السعيد عبد السلام، معلمة المغرب، ج10، منشورات اجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر ومطابع سلا، 1998، ص 3366.
[4] تاريخ تطوان، داود محمد، المجلد1، معهد مولاي الحسن، تطوان، 1959، ص 118.
[5] تاريخ تطوان، داود محمد، مرجع سابق، ص 117 وما بعدها.
[6] مجلة دعوة الحق، مرجع سابق.
[7] مجلة دعوة الحق، مرجع سابق.
[8] حجي محمد، معلمة المغرب، ج10، منشورات اجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر ومطابع سلا، 1998ص 3367.
[9] مجلة دعوة الحق، مرجع سابق.
[10] تاريخ تطوان، داود محمد، مرجع سابق، ص 119.
[11] تاريخ تطوان، داود محمد، مرجع سابق، ص 119.
[12] تاريخ تطوان، داود محمد، مرجع سابق، ص 121-122.
[13] محمد بن عزوز حكيم، السيدة الحرة العاهلة الفذة، مرجع سابق، ص 131.
[14] مجلة دعوة الحق، مرجع سابق.
[15] محمد بن عزوز حكيم، السيدة الحرة العاهلة الفذة، مرجع سابق، ص 130.
[16] محمد بن عزوز حكيم، السيدة الحرة العاهلة الفذة، مرجع سابق، ص 133.
[17] تاريخ تطوان، داود محمد، المجلد1، معهد مولاي الحسن، تطوان، 1959، ص 122-123.
[18] محمد بن عزوز حكيم، السيدة الحرة العاهلة الفذة، مرجع سابق، ص 133.
[19] مجلة دعوة الحق، مرجع سابق.