توطئة

تَوارث العلماء والفقهاء وطلبة العلم بالمغرب الأقصى ثقافة السياحة أو الرحلة صوب المشرق، إما لطلب العلم، أو للتدريس والإقراء، أو للـحج، أو للمشاركة في الجهاد، ومن ضمن المناطق التي شملتها رحلات أولئك؛ أرض الشام، وفي المتن منها بيت المقدس وما بارك الله حوله، مصداقاً لقوله تعالى: {سبحان الذي أسرى بعبده من المسجد الحرام إلى الـمسجد الأقصى الذي باركنا حوله لنُـرِيه من آياتنا، إنه هو السميع البصير}.[1]

ونبغ في تاريخنا كُتّابٌ ألَّفوا عن رحلاتهم التي جابوا فيها المعمور، وآخرين جَمعوا إلى أدب الرحلة؛ الأدب الجغرافي، فخلَّفوا لنا نصوصا غاية في الإجادة والإفادة، من بينهم أو لعلَّ أشهَرهم العالِم والرحّالة والجغرافي الكبير محمد الإدريسي الـحسني الحمّودي الـمُشتهِر بــاسم الشريف الإدريسي السَّبتي (1100م – 1166م) الذي قام بدوره برحلةٍ إلى الشام وأرض فلسطين، من مَجموعِ رحلةٍ ممتدَّة من قُرطبة إلى الحجاز، ومن آسيا الصغرى إلى صِقِلية.

فلسطين.. حَوْز الشام وسُرَّة العالم الإسلامي

تحضُر فلسطين في معظم فُصول الجزء الخامس من الإقليم الثالث من كتاب الإدريسي الشهير “نُزهة الـمُشتاق في اختراق الآفاق”[2]، بِذكره جانبا من تاريخها، وتوزُّع أقوامها الأوائل عبر شمال إفريقيا منذ أنْ قَتَلَ داودُ عليه السلام جالوت البَربري، ويسرد بدقة وتفصيلٍ ما احتوته خَريطتها إن جاز التعبير، برَّاً وبحراً.

ستَرِدُ فلسطين في القسم المذكور من الكتاب، بعد فراغ الإدريسي من الحديث عن مِصر العظيمة وعَمائرها وكُورها ومُدنها ونِيلها وما يَربِطها ببلاد الشام، أيْ كُورَة رَفح، وهي المدينة الحدودية المعروفة حاليا، الـمنقسِمة بين مصر وفلسطين بموجِب اتفاقية كامب دايفد، ولا تَبعد عن قطاع غزَّة الـمُحاصَر إلا بــ”38 كلمترا”، وعن “ساحل البحر الأبيض الـمتوسِّط بتسعة كلمترات”[3].

ويجب التنويه إلى أنَّ الرحالة المغربي الإدريسي يَضعُ فلسطين ضمن نطاق جُغرافي يُحدِّثنا فيه عن الإقليم الثالث الذي ضمَّ _ وِفق التقسيم الجغرافي للقرن الثاني عشر الميلادي/السادس الهجري _ قِطعة من بحر القلزم، وفَحْص التّيه، والبحر الشامي، ومن أنطاكيا شمالاً إلى خيبر وتبوك شمال وسَط الحجاز، مرورا بدمشق وبيروت جنوبَ غرب البحر الأبيض المتوسّط.

يَذكُر الشريف الإدريسي أنَّ حدود فلسطين في هذا القرن (أي القرن 12م) هي “أوّلُ أحواز الشام، وحدودها مما يَلي المغرب مِقدار أربعة أيام، وذلك من رَفح إلى اللّجون، وعرْضه مِن يافا إلى ريحا [أريحا حاليا] مسيرة يومين، وزغر وديار قوم لوط، وجبال الشراة مَضمومة إليها، وهي منها في العمَل إلى حدود أيلة (..) إلى بيسان (..) إلى بُحيرة طَبَرية”[4]، وهي المدينة التي استَرْجَعها القائد الـمظفَّر صلاح الدين الأيوبي (تــ 1193م) من أيدي الصليبيين عقِبَ انتصاره التاريخي في معركة حِطّين.

كما يَذكر معطيات دقيقة عن البحر الـميت الذي يتوّسط الأردن وفلسطين، ويزوِّد القارئ بتفاصيل الـمسافات والأنهار والأودية والطبيعة العمرانية والتجارية لكثير من مُدن فلسطين، كــ: بيسان، عمتَا، قيسارية، تيدا، مِيماس، نابلس، جَبل قبر إبراهيم عليه السلام _ وهي المدنية المشهورة اليوم باسم الخليل _، والـجِـي، وهو “بَلد من بلاد فلسطين صغير، ماؤه حار وهواؤه وخيم”[5]، وبُحيرة طَبَرية، وحِصن الماحوز ومدينة أرسوف الساحليان، وبيت لحم، وهو المكان الذي وُلِد فيها سيدنا عيسى بن مريم عليه السلام، والنَّواقير _ المعروفة اليوم برأس الناقورة _ “وهي ثلاثة جِبال بِيضٍ شواهِق مُطِلة على ضِفة البحر”[6]، وحَــيْفا وبيت جبرين وكُورَة سَبْسَطة، وكُورة ناصِرة، وهي مدينة في شمال فلسطين الـمحتَلَّة، استولت عليها العصابات الصهيونية سنة 1948م.

وأما عسقلان التي كانت إلى هذا العهد تحت نفوذ الروم الصليبيين ومنذ سنة 548ه، فهي من أكابر حواضر فلسطين وأغناها “ذاتُ سُورَين، وبها أسواق، وليس لها من خارِجها بَساتين، وليس بها شيء من الشَّجر”[7]، وتقع اليوم أيضا تحت نفوذ الكيان الصهيوني الغاصب.

وَعَدَّ الشريف الإدريسي مدينة أريحا “مِن أجمل بِقاع الغُــور”، وَوَصَف ديار فلسطين بأنها “حَسَنة البِـقاع، بَل أزكى بلاد الشام”.[8]

أما آخِر مدن فلسطين حسَب خَطّ رحلة الإدريسي فهي مدينة غزَّة، ذاتِ الـمَزارِع والأسواق التي كانت تتُاجِر مع مكة ضِمن إيلافِ هاشم بن عبد مَناف الذي وافته الـمنية في غزة، وبها مسْجدٌ يحمل اسم “مسجد السيد هاشم” يعود لحقبة المماليك. و”من غَزّةَ إلى مدينة رَفح وهي مدينة صالِحة؛ مَرْحَلة (..) وهي منزلٌ قُرب البَحر”[9] يقول الإدريسي.

بيت المقدس.. بَهِيَّةُ الحواضر وزَهرة الـمدائن

أفْرَد الشريف الإدريسي السَّبتي مدينة القُدس بعباراتٍ وأوصافٍ جديرة بها وبِثِقْلها الروحي والرمزي والجغرافي، وعَدَّها “مَدينةً جليلةً قديمة البناء، أزلية، وكانت تُسمّى إيلياء، وهي على جَبَل يَصعد إليها من كُل جانب، وهي في ذاتها طَويلة، وطُولها من المغرب [أي الغَرْب] إلى الـمشرق؛ وفي طَرفها الغربي باب المحراب، وهذا الباب عليه قُبّة داود عليه السلام. وفي طَرفها الشّرقي بابٌ يُسمّى باب الرّحمة، وهو مُغلَقٌ لا يُفتحَ إلّا مِن عيدِ الزيتون لِـمِثْله (..) ومن جِهة الشمال بابٌ يُسمى باب عمود الغراب. وإذا دَخل الداخل من باب المحراب يَسير نحو المشرق في زُقاقِ شارعٍ إلى الكنيسة العُظمى المعروفة بكنيسة القيامة (..) وهي من عجائب الدنيا (..)، وإذا خرجتَ من هذه الكنيسة وقَصدتَ شَرقا؛ أَلْفَـيْتَ بيتَ المقدس الذي بَناه سُليمان بن داود عليهما السلام، وكان مَسْجِدا مَـحْجُوجاً إليه في أيام دولة اليهود، ثم انتُزِع من أيديهم وأُخْرِجوا عنه إلى مُدّة الإسلام، فكانَ مُعَظَّماً في مُلك الـمُسلمين، وهو الـمسجد الـمُعظَّم الـمُسمّى المسجد الأقصى، وليس في الأرض كلها مسجدٌ على قَدْره، إلا المسجد الجامع الذي بقُرطبة”.[10]

ولا يَــنِــي الإدريسي يُفصِّل ويُدخِلُ القارئ في جولةٍ ميدانية برحاب مدينة القُدس، من زُقاق إلى زُقاق، ومن مسجدٍ إلى آخر، ومن كنيسة إلى أختها، ويعتنِي بإيراد معلوماتٍ عن الشواهد الـمعمارية فيها، ويُعَدِّد الأبواب والـمداخل من وإلى بيت المقدس بمكوناته الدينية والروحية الخالِدة، وعلى رأسها المسجد الأقصى والمسجد العمري وقُبّة الصخرة، و”هذه القُـبة العظيمة مرصَّعة بالفص الـمُذَهَّب والأعمال الـحَسنة من بِناء خُلفاء الـمُسلمين، وفي وسطها الصّخرة الـمُسمّاة بالواقعة، وهو حجر مربّع (..) ولهذه الـقُـبّة أربعة أبواب (..) والباب القَـبْلي منها يُقابله المسقَّف الذي كان مُصلّى للمسلمين”[11].

ويَستفيض الإدريسي في شرح كل ما يُحيط بالـحرم المقدسي، متأسِّفا إلى ما صارَ إليه حال قُبة الصخرة والـمُصلَّى القَبلي بعد احتلاله من طرف جيش الروم، وتحويلهما إلى بيوتٍ “يَسكُنها الجيل الـمعروف بالدّاوِية، ومعناه خُدّام بيت الله”[12].

وما أتينا على ذِكْره قليلٌ مِن كَثيرِ مَا ورَد في هذا المرجع الجغرافي والتاريخي النفيس، عن أرض فلسطين، حواضرها وقُراها وتجارَتها وسكّانها وعاداتهم الاجتماعية، وبيت المقدس مُلتقى الديانات ومهبِط الوحي ومُصلَّى الأنبياء، ومَسرى الرسول الخاتم صلى الله عليه وسلم.

المراجع
[1] سورة الإسراء، الآية: 1، المصحف المحمدي، برواية ورش عن نافع بن أبي نعيم، طبعة 1431هــ.
[2] الإدريسي محمد بن محمد بن عبد الله بن إدريس الحمّودي الحسني الشريف، نُزهة الـمُشتاق في اختراق الآفاق، المجلَّد الأول، منشورات مكتبة الثقافة الدينية، القاهرة، مصر، طبعة 2002.
[3] "رفح فلسطين"، منشور بالموقع الإلكتروني الجزيرة.نت، بتاريخ 7 دجنبر 2014، تاريخ الاطلاع: 22 أكتوبر 2023.
[4] الإدريسي الشريف، نزهة الـمُشتاق في اختراق الآفاق"، نفس المرجع، ص 354، 355.
[5] الإدريسي الشريف، نزهة الـمُشتاق في اختراق الآفاق"، نفس المرجع، ص: 356
[6] الإدريسي الشريف، نزهة الـمُشتاق في اختراق الآفاق"، نفس المرجع، ص: 365
[7] الإدريسي الشريف، نزهة الـمُشتاق في اختراق الآفاق"، نفس المرجع، ص: 357
[8] الإدريسي الشريف، نزهة الـمُشتاق في اختراق الآفاق"، نفس المرجع، ص: 356
[9] الإدريسي الشريف، نزهة الـمُشتاق في اختراق الآفاق"، نفس المرجع، ص 357.
[10] الإدريسي الشريف، نزهة الـمُشتاق في اختراق الآفاق"، نفس المرجع، ص 358 – 359.
[11] الإدريسي الشريف، نزهة الـمُشتاق في اختراق الآفاق"، نفس المرجع، ص 359.
[12] الإدريسي الشريف، نزهة الـمُشتاق في اختراق الآفاق"، نفس المرجع، ص 360.