توطئة

غدت الملكية صمام أمان واستقرار بالنسبة للمغاربة، الذين ارتبطوا منذ عهد الأدارسة إلى العلويين بالبيعة الشرعية، وعرف هذا المسار صراعا حول هذه الشرعية، وفي العصر الحديث تأثرت الملكية بالحرب الباردة، وحاولت فعاليات الانتصار للتيار الاشتراكي والقومي، والدعوة إلى إسقاط الملكية أو على الأقل تقاسم السلطة، كما برزت المطالبة بالملكية البرلمانية، وأن يسود الملك دون أن يحكم، مما خلق ضحايا وأدام الصراع بين الاتجاهين. وبالرغم من تحالف الحركة الوطنية المغربية وجيش التحرير  مع الملكية في مواجهة الحماية الفرنسية والاستعمار الاسباني، إلا أن مرحلة ما بعد الاستقلال طرحت أسئلة جديدة ترتبط بنمط الحكم بالمغرب، ودعوة الملكية للتمكين للحركة الوطنية والأحزاب من مقاسمة الملكية تدبير الشأن العام بصلاحيات كبيرة. إلا أنه وخلال عهدين استطاع التحكم تطويع كل الفاعلين السياسيين، وبسط رؤيته لطبيعة الحكم بالتمكين للملكية الدستورية، ومنحها سلطا تتلاءم مع ما تملكه من شرعية تاريخية، وإجماع شعبي. وتم خلال هذه المرحلة، في مغرب ما بعد الحماية، إضعاف الأحزاب السياسية، وتأسيس أحزاب سميت بالإدارية لخلق التوازن. ولم تفلح الكتلة التاريخية من تنزيل مشروعها، وأخفقت حكومة التوافق اليوسفية، ليرجع المغرب إلى خيار  حكومة تكنوقراطية، كما أن تجربة الإسلاميين لم تستمر أكثر من ولايتين، وهي التي جاءت بعد الربيع العربي، وأجهضت  هذه التجربة بميلاد حزب صنع على عين المخزن، تمكن في ظرف وجيز من الهيمنة على أغلب المجالس البلدية والقروية، وأصبح شريكا لحزب إداري كي يدبر مرحلة ما بعد تجربة الإسلاميين. وهكذا نجد في هذا المسار الطويل أكثر من “ستين سنة”، قوة التحكم في صناعة المشهد السياسي والمسك بخيوطه، مما يؤكد أننا أمام معالم ديموقراطية مزيفة، ظاهرها التداول على السلطة وباطنها تملك الحكم في يد التحكم.

يحاول امحمد جبرون في كتابه “الملكية في أفق جديد؛ أسئلة الدين والديموقراطية والنموذج التنموي” الدفاع عن فكرة محورية هي الانتقال من الدولة الأمة إلى الدولة الحضارة التي يعتبرها ملائمة للمغرب من خلال الإمكانيات الثقافية والتاريخية التي يزخر بها وتجعله قريبا من هذا النموذج، بعيدا عن نموذج الديمقراطية الليبرالية الغربية الذي يصعب، في نظره، استنساخه في المغرب.

إن هذا الكتاب في جوهره يقدم مراجعة نقدية لمصائر التحول من التقليد إلى الحداثة في الدولة المغربية وآفاقها المستقبلية، الشيء الذي سمح لنا برسم الخطوط العريضة لما يجب أن يكون عليه الفعل السياسي في المستقبل، سواء تعلق بالنخبة، أو بالملكية، ومن ثمة، لم يكن هاجس الكاتب طول الكتاب إدانة طرف من الأطراف، وبيان أخطائه وانحرافاته، بقدر ما كان هاجسه بالدرجة الأولى الجواب عن سؤال كيف يمكن إنجاح الانتقالات الكبرى التي تفرض نفسها على المملكة اليوم وغدا، مع الاستعانة بموروثها السياسي والثقافي والديني الحضارة، وليس بالتخلص منه؟.

مضامين الكتاب

تضمن  الكتاب مقدمة وأربعة فصول؛ الفصل الأول: أزمة الديموقراطية الليبرالية: الأبعاد القيمية والثقافية وآفاق الإصلاح السياسي، والفصل الثاني عنونه بالملكية وسؤال الديموقراطية في ماهية التحكم السياسي وتطوراته بين عهدين، واختار  للفصل الثالث عنوان الملكية وسؤال الدين في المغرب المعاصر، الفصل الرابع حمل عنوان الدولة المغربية وسؤال النموذج من دولة الرعاية الاجتماعية.

إن الأسئلة الكبرى التي تشكل قطب راحة هذا الكتاب لا تعكس كل الأسئلة التي واجهت الملكية المغربية على مدى أزيد من مائة عام تقريبا، ولكنها تمثل في نظر الكاتب أهم هذه الأسئلة، وتبرز كيف تعاملت النخبة السياسية المغربية معها، محققة بذلك تأقلما صعبا، يتقاطع فيه التقليد والتحديث اللذان يحضران جنبا إلى جنب في أكثر من مناسبة، ومؤسسة، واختيار.

والكتاب كما يمكن أن يستشف من عنوانه ليس كتاب تاريخ، يغوص ويغرق في تتبع أحوال الماضي، وجزئياته، والماجرى… ولكنه كتاب معني أساسا بالمستقبل، بحيث يحاول من خلاله الكاتب التنبيه إلى أن مصير الديموقراطية في المغرب، ومستقبلها رهين بالتوليف المبدع بين التقاليد السياسية المغربية الراسخة في الثقافة والوجدان، وبين متطلبات الحداثة. (الكتاب ص 7/8)

وللإجابة عن الأسئلة التي طرحها والإشكالية المؤطرة للكتاب، اعتمد جبرون مفهوما جديدا وحيويا في الفكر السياسي الراهن هو مفهوم “دولة الحضارة” Civilisation State الذي تكرست شرعيته في السنوات الأخيرة وأمسى أداة تحليلية ذات مصداقية لعدد من الظواهر السياسية المعاصرة، ذلك أن الكثير من الدول على صعيد العالم تقدم نفسها اليوم حضارة تستقل بعدد من السمات أو لها الحق في ذلك مقارنة مع نموذج ‏ (Nation State)  في طبعته الغربية والذي تم تسويقه باعتباره نموذجا كونيا في القرنين الماضيين. وتعتبر الصين وروسيا والهند وتركيا… من أبرز الدول على صعيد العالم التي تستثمر خصوصيتها الثقافية والتاريخية (الحضارة) في بناء نموذجها السياسي المعاصر، بل حتى أمريكا ترامب تبنت هذا المفهوم بشكل أو بآخر في سياستها الداخلية والخارجية.

إن النظر إلى الملكية المغربية من زاوية مفهوم «الدولة – الحضارة» يسمح بإدراك الكثير من مظاهر الخصوصية السياسية التي تميز النظام السياسي المغربي، ويجعلنا حسب الكاتب أكثر تسامحا مع تقاليده، ومن ناحية أخرى إن مفهوم «الدولة – الحضارة» يؤثر كثيرا في مقاربتنا لقضايا سياسية أساسية تشغل بال الرأي العام كقضايا حقوق الإنسان الديموقراطية ودور الدين في الفضاء العام. ومن ثمة فهذا العمل مبدئيا يندرج في سياق عادة موقعة الدولة المغربية باعتبارها الدولة – الحضارة لها حق التفرد ولها رؤيتها الخاصة للقضايا التي تنأى بها عن النموذج الغربي. (الكتاب ص 8/9)

خاتمة

إن الكتاب محاولة للمساهمة بنص فكري سياسي، يهم الفكر السياسي المغربي الذي يعيش في الراهن ربما نوعا من التراجع والضمور في الإنتاج الفكري والسياسي. هناك وفرة في الدراسة والبحث في العلوم السياسية ولكن الفكر السياسي فيه نوع من التراجع، وهذا النص مساهمة في تطوير النقاش في هذا الإطار.

وهو نص تفاعلي فيه شيء من الجدل مع عدد من القضايا التي أثيرت في السنوات والعقود الأخيرة، خاصة ما بعد الاستقلال، المرتبطة أساسا بالدين في علاقته مع الدولة وإشكالية الديمقراطية ومعضلة الدمقرطة في المغرب، ثم نموذج الدولة المغربية الذي يظهر النقاش في كل مناسبة حوله، وهذا بصفة عامة هو الإطار العام للكتاب.

وقد ركز على مسألة أساسية وهي الانتقال من الدولة الأمة إلى الدولة الحضارة، فدولة الأمة عموما هاجسها بالأساس مرتبط بالسيادة والديمقراطية وممارسة السلطة ومشروعية هذه السلطة، ومرتبط كذلك بالتقاليد الحداثية، والليبرالية بالدرجة الأولى، دائما مرتبطة بمشروعية السلطة وعنف السلطة وغير ذلك. أما مفهوم الدولة الحضارة فهو اتجاه جديد في الفكر السياسي العالمي والإنساني يركز بشكل كبير على المفهوم الثقافي للدولة، والدولة شأنها شأن سائر الكيانات والإنتاجات.

والدولة مفهوم ثقافي مرتبط ببيئة معينة، ولا يستطيع أن يتخلص من آثار البيئة التي يظهر فيها. والدولة المغربية، شئنا أم أبينا، تبقى في جميع الأحوال تحمل آثار البيئة الثقافية والسياسية التي نشأت فيها، وبالتالي من الصعب جدا استنساخ الدولة الديمقراطية الغربية أو الدولة الليبرالية الغربية وتطبيقها بشكل حرفي على النماذج السياسية في العالم العربي، ومن بينها المغرب، لا بد من مساهمة ما وأثر معين للبيئة. إذن البيئة السياسية عندها أثر وتأثير في بلورة شكل الدولة والثقافة السياسية للدولة.