توطئة

الاهتمام بتفسير النصوص الشريعة انطلاقا من تصور الشريعة ومقارنتها بالقانون مبحث عظيم، وقديم في نفس الآن، وعلماء الإسلام أولوها اهتماما بالغا بالنص الشرعي وقعدوا له قواعد خاصة وسموه علم “أصول الفقه” وفيه تبحث قواعد الاستنباط، ومناهج تفسير النصوص، وأسباب الخلاف بين الفقهاء، وأصول المذاهب والأحكام، والأدلة، وغير ذلك من البحوث التي تظهر بجلاء أن مسألة تفسير النصوص معضلة معرفية حقيقية وإشكال تدبيري حيوي يعترض الباحثين المشتغلين بفقه الشريعة والقانون ومن ورائهم الفرد والمجتمع، والمؤسسات والتصرفات والعقود التي تصدر عن الأفراد والهيئات.

لقد قطع البحث العلمي أشواطا بعيدة وكبيرة في دراسة هذه الظاهرة (تفسير القانون وبيان الشريعة) وأخذت منه الجهد والوقت الكبيرين، فأقام الدراسات، وأصدر المصنفات، ودون المدونات والموسوعات وأنشأ المؤسسات الشرعية والقانونية الرسمية والشعبية؛ لبحث هذه الظاهرة وتحرير مناهجها، حتى استقامت على قوانين العلم الرصين وسنن المعرفة الحقة. والواقع أنها معركة متواصلة، وجبهة مفتوحة، لا يبدو أن لها نهاية قريبة، إلا أن ينتهي وجود الإنسان من هذا الكون، فما دام في الإنسان إرادة تعقد، ونفس تتوق إلى الإشباع، وما دام حنينه إلى الاجتماع بغيره ثابت باق إلا كان ذلك مدعاة للتشريع، ولا يكون تشريع إلا تولدت عنه الحاجة إلى التفسير. من هنا جاء اختيار هذا المبحث المتميز “تفسير النصوص في منظور الشريعة والقانون؛ دراسة مقارنة” للدكتور إسماعيل حسن حفيان ليكون مجال الدراسة والتحرير فيه مرتبطا بمعضلة التفسير النصوص الشرعية والقانونية محاولا أن يدلي فيها برأيه، ويسهم باقتراح ينير بعض جوانب الموضوع، ويحل بعض إشكالاته المعرفية والمنهجية.

مقصد المبحث

إن مقصد البحث الأساس هو الدراسة المقارنة الكاشفة عن أوجه التلاقي والتكامل المعرفي بين المناهج الشرعية والقانونية في تفسير النصوص؟ والبحث في أبعاد الإفادة المتبادلة بينهما؟ من ثمة يتمهد أمام الباحثين في فقه القانون سبيل رشيد للنهل من معين المدرسة الأصولية الثر، الغني بأصوله وقواعده ومصطلحاته، حتى يتسنى لهم الارتقاء بمناهجهم التفسيرية وأصولهم الفقهية في التحليل والاستنباط، والتعليل، والترجيح….

وأما أنه جديد، فذلك أنه بالرغم من تنوع الدراسات وتوالي المحاولات التي خصته بالبحث والتحرير، إلا أننا لا نستطيع أن نضع اليد على أية رؤى جامعة أو خلاصات متكاملة نابعة عن دراسة عميقة وبحث رصين يؤسس لوضع منهج قويم ونظام مرجعي متين يمد الجسر بين ما هو تفسير شرعي وما هو تفسير قانوني، فأغلب الدراسات التي اطلع عليها لا تزيد عن كونها محاولات وصفية للموضوع تحوم حول ملاحظة أوجه التشابه الكثيرة بين النص القانوني والنص الشرعي، واشتراكهما في ظواهر عديدة من الظواهر اللغوية والمصلحية الملجئة إلى البيان والتفسير، وتطبيق بعض القواعد الأصولية على النصوص القانونية، ومن ثمة يُخلص إلى القول بإمكانية استعانة رجال القانون بقواعد علم أصول الفقه في صياغة القانون وتفسيره والقضاء به، فهذا هو مبلغ البحث في هذا الباب.

ولا يدعي المؤلف  أن بحثه هذا متفرد في بابه، ناسخ لما قبله، أو أنه يسد العجز الحاصل، أو يصلح الخلل الطارئ، بل الأمر يحتاج إلى جهود متضافرة، ومعالجات متكاثرة، تغطي الجوانب المختلفة للموضوع: المعرفية، والمنهجية، والثقافية، وغيرها، لكنه جهد متواضع يرى من خلاله إلى الإسهام في تنمية جهود التراكم التي ما فتئت تنهض بها جهات وأقلام متخصصة في هذا الشأن، وذلك على طريق تأسيس لبنات هذا الصرح العلمي الكبير، أي التكامل المعرفي بين الشريعة والقانون في مجال تفسير النصوص. (الكتاب ص 9)

مضامين الكتاب

كتاب “تفسير النصوص في منظور الشريعة والقانون دراسة مقارنة” للدكتور إسماعيل حسن حفيان، عن دار الكلمة للنشر والتوزيع يقع في 544 صفحة، يؤكد فيه المؤلف أن  ارتباط التشريع بوجود الإنسان وسموه الحضاري ظاهر ثابت لا ينكر، فما الحضارة إلا إبداع الإنسان وعطاؤه المتفاعل مع أجناس الوجود التي تشاركه هذه الحياة وأيما إبداع خرج عن سنن النظام وهدي الشريعة والقانون إلى العبث والفوضى، لم يكن له من وصف العمران إلا الاسم والرسم، وهو إلى الخراب والدمار أقرب منه إلى الحضارة والعمار.(الكتاب ص 6)

ولا يجادل أحد من العالمين مهما قل اطلاعه في لزوم القوانين والشرائع للحياة الإنسانية في أبعادها وامتداداتها القريبة البسيطة، فضلا عن البعيدة المركبة. فقد أطبق عقلاء البشرية جميعهم على الرغم من اختلاف مشاربهم الفكرية واتجاهاتهم السياسية على أهمية من القوانين وفرض الشرائع؛ لأجل استقامة المجتمع، وإقرار العدالة، ورعاية الحقوق والمواءمة بين المصالح الاجتماعية والسياسية والاقتصادية المتعارضة، بل لقد أصبحت مقاييس يضع القانون والالتزام بها من أهم معايير التمدن والعمران المجمع عليها في عالم اليوم. (الكتاب ص 6)

وحيث إن الموضوع طويل الذيل كثير القضايا، متشعب الفروع، متداخل الأبعاد، فقد قصر المؤلف دائرة الدراسة فيه على أحد أهم وأعقد قضايا الموضوع، ويعني بذلك: البحث في وجود التكامل المعرفي بين المنهج الأصولي في تفسير النصوص الشرعية الذي أصل قواعده ووضع ضوابطه علماء الفقه المسلمين، والمنهج الوضعي القانوني الذي أقامه رجال القانون وفقهاؤه.

أما  تصميم مباحث الكتاب فقد قسمه بعد المقدمة إلى أربعة فصول متكاملة، وخاتمة جامعة.

  • في الفصل الأول: تعرض للمداخل المعرفية المؤسسة لمناهج التفسير عند علماء الأصول وفقهاء القانون، وفيه بحث  المفاهيم المؤسسة لهذه الدراسة، وهي مفهوم الشريعة، ومفهوم القانون، ومفهوم التفسير فيهما،  وطبيعته العلمية بين الاتجاهين، ثم  عرض لمدارسهما وخصائصهم، ونبذة عين سيرورتها العلمية تأسيسا وتطبيقا.
  • أما الفصل الثاني: فقد خصصه لبيان مناهج التفسير المعتمدة بين الأصوليين والقانونيين، وبيان أنواعها، وعرض مباحثها، ووجوه تطبيقاتها المختلفة، والمقارنة بينها وفاقا وخلافا، صحة وضعفا وقد أوجزها في ثلاثة مناهج، وهي: المنهج البياني اللغوي، والمنهج المقاصدي التعليلي، والمنهج المنطقي العقلي.
  • أما الفصل الثالث: فتكلم فيه على الأحكام الشرعية والقانونية المستفادة من مناهج التفسير، وفيه بسط الكلام عن المنهجية الشرعية المتبعة في تقسيم الأحكام، وطرق استفادتها، ووجوه الدلالة عليها، وكذلك فعل بالنسبة للأحكام القانونية، ثم خلص إلى المقارنة بينهما، معملا ومرجحا على كان شيء من ذلك لازما.
  • أما الفصل الرابع: فبحث فيه العوارض التي تعرض للمفسر عند إعمال النصوص، والاجتهاد في اختيار الأنسب منها عند النظر في تحقيق مناطات الأحكام وتنزيل مقتضياتها على واقع المكلفين وأحوالهم،  وهي التعارض والتنازع، والإلغاء، والنسخ.
  • الخاتمة: وفيها عرض أهم النتائج والخلاصات التي توصل إليها البحث، واستشرف آفات التطوير والتجديد التي يمكن أن ترجى منها فائدة للنهوض بمقصد الإفادة والتكامل.