الاسم والنسب[1]

ينتسب العلامة الفقيه الشيخ القاضي الورع المتعفف الزبير التفراوتي لأسرة معروفة، مشهورة بالعلم والفضل والصلاح، والده هو الشريف سيدي الحاج محمد بن سيدي الحاج مَحمد بن سيدي الحُسْني الحسني. من شرفاء تافراوت قبيلة مرنيسة إقليم تاونات حاليا، وأحد فقهاء المنطقة المعروفين.

هاجر وأسرته من محل سكناه بدوار الشرفا بطاهر سوق، فرارا من الاستعمار الفرنسي. وخلال مسيرته عرض عليه عدد من أبناء المداشر ـ التي مرّ بها ـ النزول عندهم والإقامة فيهم، فوقع اختياره على مدشر “إحْواوَنْ” من قبيلة بن عمارت إقليم الحسيمة حاليا، وبه استقر وبقي إلى أن وافته المنية. وكان رحمه الله معروفا بالدعوة إلى الله والإصلاح بين الناس، كما كانت داره مأوى عدد من الأرامل والأيتام وذوي الحاجة، ولعل ذلك ما جعلهم يطلقون على مقر إقامته اسم: “زاوية سيدي الحاج محمد” وبهذا عرفت واشتهرت في القبيلة كلها، دون أن يكون الرجل صاحب ورد أو شيخ طريقة بالمعنى المعروف.

المولد والنشأة

بهذه الزاوية ولد الشيخ الزبير التفراوتي الحسني حوالي 1920م، وهو الرابع بين خمسة إخوة ذكور. فنشأ في أسرة ممتدة، مخالطا لعدد من اليتامى والمساكين الذين يكفلهم جده في زاويته، فتربى على قيم التواضع وحب المساكين والعطف على المحتاجين، وعاش على هذا الخلق الرفيع طيلة حياته إلى أن توفاه الله تعالى.

تعليمه 

حفظ الشيخ الزبير القرآن الكريم بقريته في سن مبكرة، وأخذ في علم القراءات، وبتوجيه من أحد شيوخه، أخذ في دراسة العلوم الشرعية واللسانية على عدد من شيوخ منطقة جبال الريف. وأعظم من تأثر به في حياته الفكرية الفقيه “المفضّل ابن زرّوق” الذي لازمه أكثر من خمس سنوات وانتقل معه إلى منطقة ” الخماس” المشهورة ببلاد الشيخين: أبي الحسن الشاذلي مؤسس الطريقة الشاذلية (توفي 656 هـ) والشيخ أبي الحسن علي بن عبد الحق الزرويلي شيخ الجماعة في عصره (توفي 750هـ). وكان كثير الإعجاب به، ويقول عنه كلما ذكره: “إنه وجد في زمان غير زمانه” لما كان يتصف به من بعد الرؤية وتطلع وانفتاح.

الرحلة في طلب العلم

التحق مترجمنا بمعهد كان قد أسس بمدينة شفشاون، ولكنه لم يروِ غُلّته، فالتحق بالمعهد الخليفي بتطوان، ومن هذا المعهد خرج في أول بعثة علمية إلى مصر في الثلاثينيات من القرن العشرين تحت رئاسة الشيخ محمد المكي الناصري وهناك التحق بدار العلوم، وتلقى تعليمه العالي هناك على الأساتذة: محمد عبد الرزاق ومنصور فهمي وعبد الحميد العبادي وعبد الوهاب عزام ويوسف كرم وآخرين.

العودة إلى المغرب

ولأسباب عائلية عاد إلى الوطن قبل إنهاء دراسته بسنة واحدة، لكن السلطة الإسبانية منعته من العودة إلى مصر لإتمام تعليمه العالي، فالتحق بمعهد مولاي الحسن بتطوان، ودرس فيه من سنة 1939م إلى سنة 1946م، وتعرض خلال هذه السنوات للمضايقة من السلطة الإسبانية التي كانت تراقب نشاطه الوطني، فألقي عليه القبض وسجن وتمّ نفيه خارج تطوان.

الالتحاق بالدار البيضاء

وفي سنة 1946م، اضطر للانتقال إلى الدار البيضاء، فعمل مدرسا في عدد من المعاهد التي أسسها بعض رجالات الحركة الوطنية، مثل مدرسة مولاي الحسن، ومدرسة مولاي إدريس الأزهر وغيرهما، فكان فيها أستاذا معلما، ومربيا ومؤطرا لتلامذتها، داعيا إلى الانخراط في العمل الوطني من أجل استقلال المغرب.

وفي بداية الخمسينيات، كان من جملة مؤسسي نقابة المعلمين بالدار البيضاء، ولعلها الأولى بالمغرب. 

كفاحه الوطني

اعتقل مترجمنا سنة 1955 من طرف سلطات الاستعمار الفرنسي في شهر رمضان عند الإفطار، حيث سيتعرض لأصناف الأذى ـ دون محاكمة ـ ضمن مجموعة من إخوانه في المعتقلات السرية التي كان الاستعمار الفرنسي يعتقل فيها رجال المقاومة آنذاك. ليعرف مقر إعتقالهم فيما بعد في مكان كان يعرف بـ “دارْكُم” حيث توجد الآن إدارة شركة التبغ، ولم يطلق سراحه إلا بعد أن أخذت مفاوضات الاستقلال مجراها.

انخراطه في سلك القضاء

وفي سنة 1956م التحق بالقضاء نائبا لرئيس المحكمة الإقليمية بالناظور، ثم قاضيا بمحكمة الاستئناف بفاس، ثم قاضيا بالدار البيضاء، فكان رحمه الله واحدا ممن قدّروا هذه المهنة النبيلة وأخذها بحقها، إلى أن التحق بالمجلس الأعلى للقضاء الذي قضى فيه سنوات عرف فيها باستقامته وصدقه وحسن أدائه. ورغم أنه تقدم بطلب التقاعد إلا أن الوزارة احتفظت به بالرغم من إلحاحه في الطلب.

جهاده العلمي والدعوي

كرس الشيخ الزبير حياته للعلم والتربية والوعظ والإرشاد، فعاش داعية مصلحا يحج إليه المآت من ساكنة الدار البيضاء وشباب الصحوة منذ مطلع السبعينيات لحضور دروسه بالمسجد المحمدي والمسجد اليوسفي بحي الأحباس، ومسجد النور بحي المعاريف، والمسجد الكبير بعين الشق. وكانت دروسه تدعو إلى التزام السنة والابتعاد عن البدعة والإقبال على الله، كل ذلك في أسلوب سلس ولغة عربية سهلة أقرب ما تكون إلى الدارجة المغربية بلكنة شمالية مميزة تنفذ إلى قلوب الحاضرين لما يطبعها من جدية وصدق، وجعل الشيخ الزبير رحمه الله تعالى من المسجد المحمدي قلعة للعلم والدرس، وأصبح شاهدا على حركة علمية وتربوية بمدينة الدار البيضاء. كما ارتبط اسم الشيخ الزبير بالإفتاء، فكان الناس يقصدونه من كل حدب وصوب طلبا لفتواه التي تميزت بالتيسير ومراعاة ظروف طالبيها.

آثاره العلمية

عرف عن الشيخ الزبير التفراوتي الحسني باعه الطويل في الفقه، وسعة اطلاعه على الفقه المالكي ومصادره، لكنه لم يخلف آثارا مكتوبة إلا ما خطه من تعليقات على هامش عدد من الكتب ومن ذلك:

  • تعليقه وعرضه لقضايا من إنجيل: ( العهد الجديد).
  • تعليقه ونقده لمؤلف عن البهائية.

كان للشيخ مكتبة عامرة تزخر بعدد من المصادر والمراجع في العلوم الشرعية والقانونية، إلى جانب مؤلفات في الأدب والتاريخ… ضاع عدد منها بعضه بسبب الإعارة. وقد أوصى رحمه الله قبل وفاته بأن تحبس على مؤسسة يؤمها الطلبة والباحثون، فنقل ما بقي منها إلى خزانة المجلس العلمي الإقليمي بالدار البيضاء الذي عين فيه عضوا منذ سنة 1981.

وقد كان للشيخ علاقة متميزة مع علماء عصره، وكان محط تقديرهم واحترامهم وثنائهم، وكان بيته ومسجده قبلة لعدد منهم سواء من داخل المغرب أو خارجه، نذكر منهم الشيخ محمد المكي الناصري والدكتور تقي الدين الهلالي والشيخ ناصر الدين الألباني والشيخ أبو بكر الجزائري والشيخ محمد محمود الصواف وغيرهم كثير.

وفاته

لبى الشيخ الزبير نداء ربه يوم الثلاثاء 11 ربيع الثاني 1406هـ / 24 دجنبر 1985م، وقد كان في صحة جيدة، وسافر إلى الرباط لحضور خطبة إحدى بنات أخيه، فنقل على عجل إلى مستشفى السويسي هناك، فكان فيه أجله. ثم نقل إلى منزله بعمارة ليوطي بالدار البيضاء، ودفن يوم الأربعاء 25 دجنير 1985م، بعد الصلاة عليه بمسجد عين الشق بعد صلاة الظهر، ودفن في مقبرة ابن مسيك تنفيدا لوصيته رحمه الله. وكانت جنازته مشهودة، يغمرها الجلال والهيبة، وتشهد على فضله ومكانته، وعُدّ مودّعوه بالآلاف، حيث ضاقت بهم الشوارع من محل إقامته بمرس السلطان إلى مثواه الأخير بابن مسيك، ولولا تدخل السلطة لتنظيم المرور لتعذر السير وتأخر وصوله إلى المقبرة لعدة ساعات.

مات رحمه الله بعد حياة حافلة بالجهاد العلمي والوطني والمهني، مات جليل القدر، عظيم الجانب، وقورا وجيها، زاهدا ورعا، لا يملك رحمه منزلا لسكناه، بل عاش مستقرا في منزل مكترى. رحمه الله رحمة واسعة وأجزل له العطاء.

المراجع
[1] أنظر كتابنا: الإدريسي مولاي أحمد صبير. (2020). مدارج الثناء بتراجم علماء الدار البيضاء. دار الرشاد الحديثة. الدارالبيضاء. صص: 107-112.