طفولته وتنشئته وتعلُّمه

سنتين قبل الحماية، ستشهد عُدوة سلا شهر يوليوز 1910 ميلاد مَن سيكون ألْمَع شباب مرحلة النضال الوطني، وأشدِّهم حماسةً لعهْدِ الحرية، وأكثرِهم تعلُّقاً بمبادئه ووطنيته ووطنه؛ إنه الشاب الحيوي الـمِقدام محمد حصَّــار.

حفظ القرآن الكريم في الكتاتيب السلاوية، وتدرّج في التعليم فكان مِن الخريجين الأوائل لأوّل مدرسة حُرة في مدينة سلا، ثم انتقلَ للدراسةِ في ثانوية مولاي يوسف[1] العريقة برباط الفتح (الرباط)، راضِعاً منها قِيم النضال إلى جانِب العلم، ومُـقتَفِياً أثَرَ سابقيه ومُعاصريه في الكفاح التلمذي، فالطلابي، فالشّبابي.

شهِدَ مَن صاحبَه مِن الرعيل الأول للحركة الوطنية، وهو كذلك من مَاهِديها؛ أنّـهم ما رأوهُ إلّا قارئا، أو كاتبا، أو متأبّطا أرْبِطةَ مصنّفات تراثية، ومجلات ورقية. كانَ يُجيدُ اللِّسانين العربي والفرنسي اللذان تمكّنَ منهما بعصامية فريدة؛ وبعصاميته تلك تمكَّن من قراءة تراث الأقدمين، وتَعَلَّق بالمصادر التَّاريخية والأدبية تعلُّقا شديداً. واهتمَّ بما يُنشر شرقا وغربا في عالم الجرائد، مما أثْـرَى فِكـره الإنساني.

إسهاماته النضالية والوطنية المبكِّرة

في شبابه؛ ولحرصه على القراءة والكتابة وتتبُّع ما يُنشَر، كَـتب في جريدة “عمل الشعب” التي أصدرها السيد محمد بن الحسن الوزاني، مقالات باللغة الفرنسية، وراسل جريدة “الحياة” لصاحبها السيد عبد الخالق الطريس، مشاركا فيها بمقالات وقصاصات إخبارية. كما كان يَطْوي على اقتراح تأسيس مجلة تكون مشكولة ومخصَّصة للمبتدئين من المتعلمين عنوانها “إقرأ”، ليُساهِمَ في عَملية محو الأمية في أوساط أنصاف الأميين.

كانت حيويته منذ مراحل تَلْمَذته مَضرب الأمثال، في حركة دائمة ونشاط لا يفتر، ولذا سنراهُ مُؤَسِّساً مع أدباء الحركة الوطنية المغربية “النّادي الأدبي الإسلامي” سنة 1928، وعُضواً ضِمن طاقم “جمعية المحافظة على القرآن الكريم” بمَعية رئيسها الحاج أحمد معنينو. ومُشارِكاً بأدوارٍ مسرحية مُعتبرة في مسرحيات ذات طبيعة تاريخية، كان حاديه فيها؛ نشْر الوعي الوطني وتعليم الأجيال الاعتزاز بتاريخهم ورموزهم وقادتهم السابقين، نظراً لولَعهِ الكبير بفنّ المسرح.

كما سنراهُ مُساهِماً في حركة اللَّطيف، احتجاجا على الظهير البربري 1930[2]، ومِن فرْطِ نضاليته؛ اسْتَطاع الحصول على المحضر السرّي الذي ضَمَّـنَه الاستعمار الفرنسي مشروع الظهير البربري، فَسَلَّمه الشاب لقادَة الحركة، الذين عملوا بِدَوْرِهِم على إيصاله لممثلِّهم بالمشرق المناضل الصحفي سعيد حجّي، الذي نشره وعَمّم مضامينه بهدف فضح نوايا ومخططات الفرنسيين، ووُجِّهت نُسخة مِن المحضر إلى الأستاذ أحمد بلافريج المقيم آنذاك في باريس؛ ليُشهِّر بمساعي فرنسا وسياساتها في عُقْرِ دارِها.

وفي مرحلة لاحِقة، سنرى الشاب الــمِقدام يَدعو للاحتفال بعيد الجلوس (عيد العرش لاحقا) وذلك في مقال له منشور بمجلة “المغرب”[3]، فكان بذلك _ حَسَب شهادة الأستاذ القيدوم أبو بكر القادري _ مِن أوَّلِ مَن دعا لهذا الأمر، ثمَّ تَبنَّته الحركة الوطنية المغربية، وصارَ عيداً أثيراً يُحتَفى به شعبيا ورسميا. كما حكى الرّاحل المجاهد أبو بكر القادري أنَّ الشاب الألمعي محمد حَصّار كان أوّل مَن قدّم للوطنيين مشروع ملخَّصا لــ”برنامج الإصلاحات” وذلك صيف سنة 1933 [4].

قيمة التطوع في سِجِلّه الوطني الناصع

مارَسَ التطوّع حبا وكرامة، فدرّس أبناء المغاربة في فصل الصيف بمدرسة النهضة في سلا، فكان بذلكَ مِن أبرز الأفراد نشاطا وعطاء في صفوف كتلة العمل الوطني، وفي مجال التعليم والعمل المدني أساساً.

الألمعي محمد حصّار؛ وَصَفَه مجايلوه مِن الرعيل الأول للحركة الوطنية أنه كان مشهورا بالجرأة والإقدام والشجاعة الأدبية، ومتَّـصِفاً بالطيبوبة ونكران الذات، وجانحا للتّسامح، ويُكِنُّ حُبًّا عظيما لأصدقائه وإخوانه، كريما سخيا، يَعيش لفكرته، مُنَاضِلا بلسانه وقلمه، ديناميكي العمل، بسيط المعاشرة، ثابت الوطنية، مُقدِّماً بذلكَ أطروحةً عملية في الجَمع بين الالتزام والفِكر والوطنية والنضال الاجتماعي.

ذاق السجن جرّاء نشاطه المدني، وانخراطه النوعي في محاربة ظاهرة بيع الخمور ومُحارَبةِ محلّات السُّكْر وبيع الخمور في مدينة سلا، فَعُذِّبَ وَحِــيلَ بَـينَه وبَين أُسْرَته في سبيل فِكرته الاستقلالية ونضاله ضد الاستعمار.

مساهماته الفكرية والعلمية

خلّف الشاب الـمُجِدُّ المجتهِد باقة مِن المقالات جَمعها في كتاب طُـبِع بَعد رحيله، عنوانه “أوراق”، تَــمَيَّـــــزَت بالجدّة والعمق، والاستيعاب الفكري لروح العصر، واستحضار لقيمة الأدب في التراث العربي والمغربي، نذكر عناوين من تلك المقالات:

  • “بحثٌ في الجنسية المغربية”: قَـدَّم فيه مفهومَه للجنسية في نطاق الدَّولة الحديثة، وكيف نَظَّمَت مُعاهدة مدريد لسنة 1888م مسألة الجنسية في المغرب، وتأثير الزواج على الجنسية، ومسألة تنازُع الجنسيات في المغرب..
  • “انحطاطنا مِن نهضتنا”: أشاد فيه بما شهده العصر السَّعدي، ولا سيما عهد المنصور الذهبي من يقظة أدبية وإرهاصات نهضوية، ثمّ عرَّج على ما لحِق نهضتنا مِن تَشَوُّهَاتٍ سلوكية وأخلاقية وسياسية، وكـيْف صارت الأجيال تتوارثُ التَّخلُّف والكَسل، وانسحبت النَّخبة مِن أداء مهامها؛ إلى أنْ حَلَّ بنا الاحتلال.
  • “تجديد التّقليد”: وفيه يُؤاخذ الكُتّاب العرب، ومنهم أدباء وشعراء ونخبة النهضة العربية بمصر؛ اجترارهم لما سبق وكُتِب، وإحياؤهم للتقليد ودفاعهم عنه باسم التجديد، ومساعيهم لإبدال العرب بالغرْب، والتَّـأثُّـر بموجات الفكر الغربي، كلما دعا لجديد، دعا هؤلاء العرب لنفس الجديد.
  • “المخطوطات العربية المغربية” و”الشّرق في الصحف الشرقية”، وغيرها من المقالات.

كما وله قراءات في بعض الكتب وترجمة لأخرى، من قبيل:

  • كتاب العرب بأمريكا قبل قرنين من كلومبس“، للكاتب مصطفى إبراهيم، الذي حرره باللغة الفرنسية؛
  • كتاب نظرات جديدة في الإسلام“، لمؤلِّفه م.بيل، المدرِّس في معهد الرباط زمن الحماية. نقله المناضل حصّار إلى العربية وناقش مضامينه وردّ عليه، بما يؤكّد سَعة اطّلاع صاحبنا وقراءاتها المتعددة وعصاميته النوعية في التثقيف والبحث.

ظَلَّ مُــحِبًّا للكتب مُحاطاً بها متكدِّسةً أمَامه حتى في مَرضِه الذي ألْزَمه البيت في مكناس، حيث كان يُعادُ فيَسْتَغرب الناس انكبابه على المطالعة والكتابة والمرض يَفتك به.

وفاته ورثاء العلماء والزعماء والوطنيين له

وبَعد صراع مرير مع داء عضال، أَسْلَم الروح لبارئها يوم 26 يوليوز 1936، في ريعان شبابه، وعِزِّ عَطائه، فَفَقدتْه السَّاحة الوطنية، وبَكاه القريب والبعيد، وعبَّر العلّامة محمد المختار السوسي في رسالةِ تعزية قائلا “..فَـقَدْ وَقَعَت عليْنا وفاة الأخ حصَّار وقوع الزّلازل المفاجِئة في أثناء الليل”، واصفا رحيله بالثُّــلمة التي وَقَعَت في صفوف العاملين، والمصيبة الجُــلّى التي حَلّت في الشباب الحيّ. ثم نَعَاه لاحقا بقصيدة عصماء، أنتقي منها قوله:

وقد كنتَ رَيْحان القلوب جميعها ** فها أنتَ فيها الآنَ لا في حشا القبْرِ

كأنّـكَ مِن كلّ القلوبِ مُــكَــــــونٌ ** فأيُّ فؤادٍ لَم يَضُمَّكَ إلى الصَّــــــدرِ

تروحُ وتَغدو في الكِفاح مُــــصـابِراً ** ومَن صابَرَ الجُلَّى يُكَلَّلُ بالنَّـــــصــرِ

كذلكَ كنتَ يا حَصّار وهكــذا ** يُسجِّلكَ التاريخُ نادِرةَ الـــــــعَــصْــــــــــرِ

رَثاه يوم رحيله قادة الحركة الوطنية وعلماء وشعراء؛ منهم الأستاذ عبد الله إبراهيم الذي قال فيه: “لقد كانت حياته أطروحة حيّة، تُفيد الشباب، وهكذا موتُه..، لَيْسَت الفاجعة فيهِ فاجِـعَـــتَــنا فَحَسْب؛ إنّها فاجعة الفضيلة أيضا، فاجعة التضحية النبيلة، والضّمير الحي، فاجعة الأمل الباسِم، ونكران الذات في سبيل الفكرة”. فيما نعاه العلّامة عبد الله كنون قائلا: “لقد كانت الرّزية في الأستاذ حصّار مُـزدَوَجة حقّا؛ رَزية للوطنية المغربية ورَزية للأدب العربي”، ورثاه الأستاذ قاسم العراقي قائلا: “حَصّار؛ إنّ خير عزاءٍ لنا فيك حياتك المملوءة بجليل الأعمال، وحميد الـخِصال”. وما تزال إلى اليوم تحمل إحدى مدارس التعليم في مدينة سلا العامرة اسم المجاهد الشاب محمد حصار رحمه الله.

المراجع
[1] كانت المؤسسة إلى حدود سنة 1916 تحمل اسم "الإعدادية الإسلامية الصغيرة"، ثمَّ تغير اسمها إلى "مولاي يوسف" الأمير العلوي حينذاك، كما تَمَّ نَقلها من باب لعلو إلى المشور السعيد بالعاصمة الرباط حوالي سنة 1920.
[2] مجلة "دعوة الحق"، العدد 212، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية – المغرب.
[3] مجلة أدبية ثقافية تُعنى بشؤون المجتمع والمعارف الأدبية والعلمية، صدرت في العاصمة الرباط فيما بين 1932 – 1938
[4]- (القادري) أبو بكر: "محمد حصار؛ ترجمته، إنتاجه، ما قيل في رثائه"، منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، طبعة 2008.