كيف أسست فرنسا لإستراتيجية التفريق بين “العرب” و”الأمازيغ”

لقد ارتكزت السياسة البربرية لفرنسا في المغرب على خلاصات الإثنوغرافيا العسكرية[1]؛ وذلك في ظل غياب دراسات إثنوغرافية حول المغرب وخاصة حول المناطق التي أبدت مقاومة شرسة للسلطة الاستعمارية الفرنسية، وهي المناطق التي وصفتها الأدبيات الإثنوغرافية العسكرية ب”المناطق البربرية”، وهو تصنيف عملياتي سيشكل موضوع اهتمام بالغ من قبل السلطات الاستعمارية. ولأن الرغبة في إحكام السيطرة على حركات الاحتجاج والمقاومة التي عرفتها المناطق القبلية كانت هي الهاجس الأول بالنسبة للسلطة الاستعمارية، فإن العسكريين وضباط الشؤون الأهلية لم يتوانوا في قيادة بحوث إثنوغرافية واسعة بشأن “المناطق البربرية” حيث تمركزت جل هذه الأعمال حول ثلاث مقولات أساسية:[2] أولها؛ ما يتعلق بالشرعية السياسية للمخزن من خلال التأكيد على مقولة غياب وجود الدولة. ثانيها؛ الفتور الديني للأمازيغ، حيث تعج الإثنوغرافيا العسكرية بالكتابات التي عملت على تصوير إسلام الأمازيغ بأنه إسلام سطحي ولا يميل بشدة إلى “الأرثوذكسية”، وأن مشاعر الأمازيغ إزاء الأمور الدينية هي مشاعر فاترة. ثالث مقولة؛ وهي ما يتعلق بالدور السياسي للإطار القبلي في “المناطق البربرية”، وهو الهدف الذي كان وراء وضع جداول وبطاقات تعريفية بالقبائل والتي تضع توصيفا تفصيليا لقسمات البنيات القبلية.

لكن انطلاقا من سنة 1913 ستتبلور سياسة جديدة ستشكل تحولا نوعيا في الاستراتيجية العسكرية للسلطة الاستعمارية، فعوضا عن العمل على إخضاع القبائل باسم المخزن، سيسود خطاب احترام استقلالية المناطق البربرية وقوانينها العرفية.[3] وهكذا ستقابل مقولة غياب وجود الدولة بصورة “الجبل البربري” المستقل المكتفي بقوانينه العرفية، كما ستتم الاستعاضة عن الحوافز الدينية للمقاومة المسلحة بتأكيد انتفاض روح الاستقلال لدى “البربر” ضد التدخلات الأجنبية، كما سيتم التأكيد أيضا على رسوخ الطباع الديمقراطية “البربرية” من خلال مؤسسة “الجْمَاعَة” بشكل يؤشر على صلابة التداول على السلطة.[4] هكذا سوف يتم الارتكاز على وجود وحدة مفترضة للأعراف “البربرية” بخلفيات عسكرية تهم تهدئة التمردات وإخماد المقاومة بالمناطق القبلية، حيث سيظهر إلى جانب الجداول التعريفية بالقبائل تقليد جديد ويتعلق الأمر بالاستبيانات الإثنوغرافية المتعلقة بالأعراف “البربرية”[5]، وهي التي شكلت الأساس النظري للمبادرات التشريعية التي قادتها السلطات الاستعمارية فيما بعد.

“السياسة البربرية” ثمرة دراسات إثنوغرافية وجهود رصدية واسعة

لقد أطلقت السلطات الاستعمارية نشاطا علميا ورصديا جبارا من أجل استجلاء أخبار القبائل الأمازيغية وأحوالها، والكشف عن أعرافها بهدف إعادة بعثها من جديد. وتجدر الإشارة هنا إلى تزامن إصدار ظهير 16 ماي سنة 1930 (الظهير البربري) مع نشر روبير مونطاني لأطروحته للدكتوراه حول “البربر والمخزن في جنوب المغرب”[6] وهي السنة ذاتها التي توفي فيها ميشو بلير الذي أعد تقريرا مهما حول الموضوع[7]، وقد ذكر روبير مونطاني نفسه لاحقا في كتابه “ثورة في المغرب”[8] بأنه أجرى بحثه تحت طلب الماريشال ليوطي. كما تأسست “لجنة الدراسات البربرية- Comité d’Etudes Berbères” بغرض مركزة كافة الأعمال والأنشطة البحثية المنجزة حول السكان الأمازيغ بمختلف جهات المغرب واستخلاص نتائج عملية بخصوص تنظيم وإدارة القبائل.[9] كما كانت تنشر خلاصات ونتائج تلك الدراسات في مجلة “الأرشيفات البربرية”Archives berbère”[10]“، كما تم إنشاء المدرسة العليا الفرنسية البربرية سنة 1914، وهي خاصة بتعليم اللهجات الأمازيغية للضباط وموظفي الإدارة الاستعمارية، والتي ستتحول سنة 1920 إلى معهد الدراسات المغربية العليا والذي يعنى بدراسة اللهجات البربرية والإثنوغرافيا، وقد تحول هذا المعهد إلى كلية الآداب والعلوم الإنسانية مباشرة بعد الاستقلال.[11]

مرتكزات “السياسة البربرية”

لقد تأسست “السياسة البربرية”[12] على مرتكزين اثنين تمثلا أساسا في مسألة القضاء من خلال العناية بالقوانين العرفية للتفريق بين العرب والأمازيغ على أساس مصادر التشريع والتقاضي لتفادي العمل بأحكام الشريعة الإسلامية. والمرتكز الثاني هو مسألة اللغة للحيلولة دون تعميق الضمير الإسلامي في صفوف المغاربة الناطقين بالأمازيغية. ويُذكر أن المارشال ليوطي قد استنكر على أحد الضباط الفرنسيين الذي كان قد أشار على قبيلة آيت سغروشن باتخاذ “طَالْب” يكتب عنها ويؤم بها الصلوات، قائلا: “هذا أمر غير مقبول في السياسة البربرية لأننا لسنا ملزمين بتعليم العربية لأناس كانوا في غنى عنها، ذلك أن العربية هي أداة نشر الإسلام، لأنها تلقن من خلال القرآن. بيد أن المصلحة تلزمنا بالسير بالبربر خارج الإطار الإسلامي. وكذلك علينا من جهة اللغة أن ننتقل مباشرة من البربرية إلى الفرنسية (…) فعلينا أن نحدث مدارس فرنسية بربرية يتعلم فيها الأطفال البربر اللغة الفرنسية. ثم علينا من جهة أخرى أن نتفادى بكل عناية أدنى تدخل في الشؤون الدينية، لأن الإسلام لم يؤثر في البربر، وأعني منهم أولئك الذي احتفظوا باستقلالهم، سوى ببصمات سطحية، فإنهم امتنعوا عن المفاهيم القانونية الواردة في القرآن، ومسطرتهم الوحيدة هي “أزرف”، ولا رغبة لهم في الشرع بأي وجه من الوجوه (…). فعلى جميع ضباط الاستعلامات أن يتشبعوا بهذه المبادئ، وعليهم بوجه خاص أن يجتنبوا القيام بأدوار دعاة الإسلام في القبائل البربرية”[13].

هكذا عملت السلطة الاستعمارية الفرنسية إذن على تنفيذ هذه العناصر التأسيسية لـ”السياسة البربرية”، من خلال تأسيس المدارس الفرنسية البربرية، والتي ستشكل مؤسسات للسياسة الفرنسية وأداة للدعاية الاستعمارية وليست مراكز بيداغوجية بالمعنى الحرفي للكلمة[14]، ناهيك عن حفز دينامية التنصير في صفوف الأمازيغ على اعتبار أن أحد أوجه الضمانات للإبقاء على إفريقيا الشمالية تحت الهيمنة الفرنسية يتمثل أساسا في نشر النصرانية بين سكان المنطقة.[15]

ظهير 16 ماي لسنة 1930: في ترسيم ثنائية العرف والشرع

في 16 مايو 1930 أصدرت السلطات الاستعمارية ما يسمى في سرديات الحركة الوطنية بـ”الظهير البربري” لـ”يصبح بموجبه قانونيا مطابقا للأصول المرعية شؤون العدلية الحالي في القبائل ذات العوائد البربرية التي لا توجد فيها محاكم مكلفة بتطبيق القواعد الشرعية”[16]، وقد كان الهدف من إقامة قضاء عرفي يخص “القبائل البربرية” هو عزلها عن باقي السكان الخاضعين للمحاكم الشرعية، وقد اختصت المحاكم العرفية في النظر في قضايا الأحوال الشخصية والمعاملات والمجال الجنحي، بينما احتفظت المحاكم الفرنسية بالقضايا الجنائية[17].

وقد شكل هذا الظهير حلقة ضمن مسلسل من القرارات التي تخدم الأهداف الاستعمارية والتي تهم أساسا إخماد المقاومة الشرسة التي أبدتها المناطق القبلية، وذلك بطرق سلمية من خلال عزل المكون الأمازيغي. وقد سبق إصدار هذا الظهير محاولات أخرى؛ حيث أصدر الماريشال ليوطي في 11 شتنبر 1914 ظهيرا (بنفس الخلفية التي حكمت ظهير 1930) لتمييز “القبائل المتبعة للعوايد البربرية” عن باقي الساكنة الناطقة بالعربية كأول “ظهير بربري” في حقيقة الأمر[18].

لقد جاء ظهير 16 ماي لسنة 1930 في ثمانية فصول تعمل على تقنين القضاء العرفي، ولذلك فالظهير البربري لم يعمل فقط على التفرقة بين سكان المغرب، ولكنه عمل أيضا على إبعاد الإسلام باعتباره مصدرا للتشريع بإخضاع الأمازيغ في المجال الجنائي للمحاكم الفرنسية. وهكذا جاء الظهير لإسناد النظر في النزاعات الصغرى في القبائل الأمازيغية إلى القواد التابعين لضباط السلطة الاستعمارية. كما نص على إحداث محاكم عرفية في الابتداء والاستئناف تفصل في القضايا المدنية بناء على الأعراف بما يعني إقصاء الشرع والفقه الإسلامي وإتاحة الفرصة للعمل بالقوانين الفرنسية[19]. وبالتالي إلحاق نصف سكان المغرب للمحاكم الفرنسية بعد أن تقرر أن جميع الأمور الجنائية التي تقع في المناطق الأمازيغية ينظر فيها من قبل المحاكم الفرنسية. ومن اللافت للانتباه أن قضايا العقار كانت تدخل ضمن هذا الاختصاص في سياق لم يكن يتطاول فيه على الأراضي الجماعية غير المعمرين الأجانب ومساعديهم من القواد والشيوخ والمقدمين.

المراجع
[1] Marly, Mathieu. (2021). L’ethnographie militaire aux origines de la « politique berbère » du protectorat français au Maroc (1912-1915). L’Année du Maghreb [En ligne], 25 | 2021. mis en ligne le 10 juin 2021. consulté le 19 octobre 2022. DOI : https://doi.org/10.4000/anneemaghreb.8103
[2] Marly, Mathieu. (2021). L’ethnographie militaire aux origines de la « politique berbère » du protectorat français au Maroc (1912-1915). Op.cit.
[3] Marly, Mathieu. (2021). L’ethnographie militaire aux origines de la « politique berbère » du protectorat français au Maroc (1912-1915). Op.cit.
[4] Marly, Mathieu. (2021). L’ethnographie militaire aux origines de la « politique berbère » du protectorat français au Maroc (1912-1915). Op.cit.
[5] Marly, Mathieu. (2021). L’ethnographie militaire aux origines de la « politique berbère » du protectorat français au Maroc (1912-1915). Op.cit.
[6] Montagne, Robert. (1930). Les Berbères et le Makhzen : essai sur la transformation politique des berbères sédentaires : groupe chleuh. Paris : F. Alcan.
[7] El Qadéry, Mustapha. (2007). La justice coloniale des «berbères» et l’État national au Maroc. L’Année du Maghreb. Tome III. PP. 17-37. DOI: 10.4000/anneemaghreb.349
[8] Montagne, Robert. (1953). Révolution au Maroc. Paris : France Empire.
[9] Lafuente, Gilles. (1984). Dossier marocain sur le dahir berbère de 1930. Revue des mondes musulmans et de la Méditerranée, n°38. P. 83. DOI:10.3406/remmm.1984.2047
[10] Lafuente, Gilles. (1984). Dossier marocain sur le dahir berbère de 1930. Op.cit.
[11]  الجابري، محمد عابد. (1989). التعليم بالمغرب العربي. المركز الثقافي العربي. ص 22.
[12]  الفاسي، علال. (2003). الحركات الاستقلالية في المغرب العربي. (الطبعة السادسة مصححة). الدار البيضاء: مطبعة النجاح الجديدة. ص: 161-164.
[13] لقد وقفت على أصل كلمة الماريشال ليوطي التي ضمنها إحدى منشوراته إلى ضباط الشؤون الأهلية كما هي باللغة الفرنسية والتي نقلها Gilles Lafuente عن كتاب "Le Maroc de demain" لـ Marty، أنظر:
Lafuente, Gilles. (1984). Op. Cit.  PP. 108-109.
[14] Lafuente, Gilles. (1984). Op. Cit. P. 85.
[15] بوطالب، إبراهيم. (2003). مادة الظهير البربري. في معلمة المغرب. (الجزء 17). سلا: الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر ومطابع سلا. ص: 5823.
[16] ظهير شريف 16 ماي، الجريدة الرسمية عدد 919 بتاريخ 6 يونيو 1930: https://bit.ly/3eWfyoV.
[17] بوطالب. إبراهيم. (2003). ). مادة الظهير البربري. في معلمة المغرب. (الجزء 17). مرجع سابق. ص: 5823.
[18]  ظهير شريف 11 شتنبر 1914، الجريدة الرسمية عدد 73 بتاريخ 18 شتنبر 1914: https://bit.ly/3Dc12ll .
[19] أنظر: فصول الظهير الشريف لـ 16 ماي، بالجريدة الرسمية عدد 919 بتاريخ 6 يونيو 1930: https://bit.ly/3eWfyoV .