بين يدي التقديم

حق لكل وطن أن يفاخر بحظه في المنجز الحضاري الإنساني، المادي منه وغير المادي، إذ أن عظمة الأمم تقاس بمساهمتها في تشييد صرح الحضارة الإنسانية، ومستوى إضافاتها إلى ما تحصّل للعقل البشري من إبداع وإنجاز.

والمغرب واحد من الأقطار التي رصّدت حظا وافرا من المفاخر التي تعدّى إشعاعها حدود القطر، فلم تحل حدوده البحرية، ولا الصحراوية من تمدده وشموخه وعطائه… وفي زحمة هذه المفاخر الحضارية، يسطع نجم القرويين في سماء العلوم والمعارف، القرويين التي ظلت على مدى قرون مركزا للنشاط الفكري والثقافي والديني، وقبلة للعديد من العباقرة الذين قصدوها لطلب العلم أو للاستزادة منه، فتخرج منها أعلام مسلمون، وغير مسلمين أمثال (سيلفستر الثاني/ غربيرت دورياك) الذي شغل منصب البابا من عام 999 إلى 1003م، والفيلسوف الطبيب موسى بن ميمون  الذي قضى فيها بضع سنوات.

وضمن لائحة أعلام المغرب المعاصرين الذين التفتوا إلى هذه المعلمة، وعملوا على إنصافها وإظهار مكانتها في العالمين، يبرز اسم المؤرخ الأستاذ عبد الهادي التازي، الذي حاز  فنونا  وعلوما، فأهدى المكتبة العربية عامة والمغربية خاصة أعمالا جليلة نافعة في التاريخ والفكر.

تقديم صاحب الكتاب

المؤرخ، العلامة، الفقيه، الديبلوماسي، السياسي، اللغوي، الأكاديمي، الكاتب الأستاذ عبد الهادي التازي، ولد بالرباط سنة 1921م،حفظ القرآن الكريم في سن التاسعة، ثم تلقى علوما ومعارف في عدد من المدارس، ليلتحق بعد ذلك بجامعة القرويين التي حصل فيها على العالمية سنة 1947م، ثم عيّن أستاذا بها سنة 1948. ومن حرصه على المزاوجة بين التعليمين التقليدي والعصري، حصل على “بروفيه” معهد الدراسات المغربية عام 1953، وعلى دبلوم الدراسات العليا من كلية الآداب في الرباط عام 1963، وعلى شهادة في اللغة الإنجليزية من معهد اللغات في بغدادعام 1966، وعلى دكتوراه الدولة من جامعة الإسكندرية في مصر عام 1972 وكان موضوع أطروحته كتاب “جامع القرويين المسجد والجامعة بمدينة فاس، موسوعة لتاريخها المعماري والفكري” الذي نحن بصدد تقديمه.

عرف رحمه الله بنشاطه الوطني منذ صباه، اعتقل ثلاث مرات (سنوات 1936 / 1938 / 1944) ولمّا يتجاوز عمره في المرة الأولى 14 سنة. تقلد وظائف ومناصب عدة، فكان أستاذا بالقرويين، ثم سفيرا للمغرب بالعراق ثم ليبيا ثم إيران ثم الإمارات العربية المتحدة، كما شغل منصب مدير المعهد الجامعي للبحث العلمي بالرباط، وأستاذا بالمعهد المولوي، وأستاذا للعلاقات الدولية بكلية الحقوق بالرباط، وكان عضوا بالمجمع العلمي العراقي، ومجمع اللغة العربية في دمشق، والأكاديمية الهاشمية في الأردن، والمعهد العربي في الأرجنتين، ومجمع اللغة العربية الأردني.

عرف الأستاذ عبد الهادي التازي بغزارة إنتاجه، ونظرا لكثرتها نذكر منها: “جولة في تاريخ المغرب الدبلوماسي”، و”تاريخ العلاقات المغربية الأميركية”، و”الموجز في تاريخ العلاقات الدولية للمملكة المغربية”. و”الإمام إدريس مؤسس الدولة المغربية”، و”في ظلال العقيدة”، و”أوقاف المغاربة في القدس”، و”المرأة في تاريخ الغرب الإسلامي”. و ترجم عددا من الكتب منها: “حقائق عن الشمال الأفريقي” للجنرال دولاتور، و”ساعات من القرن الرابع عشر في فاس” لديريك ج. دي صو لا برايس، وغيرها كثير. توفي رحمه الله بالرباط سنة 2015م، عن سن يناهز  94 سنة.

سياق تأليف الكتاب

أصل الكتاب رسالة لنيل درجة الدكتوراه من جامعة الإسكندرية، تحت إشراف الأستاذ أحمد مختار العبادي (أستاذ بجامعة الإسكندرية اشتغل أستاذا معارا لسنوات بجامعة محمد الخامس بالرباط)، ولتأليفه سياق عجيب يذكره المؤلف في مقدمة الكتاب قائلا: ” وقد اقترح عليّ (يقصد أستاذه) أول الأمر الكتابة عن (تاريخ المغرب) لكنني عدت إليه بعد شهور لأخبره بأني أفضل الكتابة حول (مدينة فاس) التي تستقطب تاريخ المغرب (…) لكني لم ألبث أن عدت إليه ثانية لأقول له: إنني لم أجد في فاس شيئا غير (جامع القرويين) الذي كان وراء تاريخ فاس، ووراء تاريخ المغرب كله، بل وراء تاريخ علاقة المغرب بكل الجهات الأخرى.[1]

تقديم الكتاب

صدر كتاب “جامع القرويين المسجد والجامعة بمدينة فاس، موسوعة لتاريخها المعماري والفكري” في ثلاثة مجلدات، و900 صفحة من القطع المتوسط في طبعتين اثنتيْن، الأولى سنة1972م عن دار الكتاب اللبناني، والثانية عن دار  نشر المعرفة بالرباط سنة 2000م- وهذه الأخيرة هي التي اعتمدنا في هذا التقديم. وهو مصنف عجيب في بابه، مفيد في مجاله، قدم مادة تاريخية نادرة عن مؤسسة علمية وفكرية وثقافية تعدى إشعاعها المغرب، والغرب الإسلامي، وحوض البحر الأبيض منذ قرون بعيدة، مع التفاتة منصِفة لمدينة فاس، المدينة الحاضنة لهذه المؤسسة العريقة بعصورها السياسية، ومآثرها العمرانية، وعلمائها العظام، وأعلامها الكبار، وملوكها وأمرائها، كل ذلك بنفَس المؤرخ الموثق، الذي لم يفوّت صغيرة ولا كبيرة ذات صلة بمدينة فاس ومؤسستها العلمية القرويين، إلا ورصدها ببراعة تخبر  بسعة اطلاع تجعلك تشعر أن “القرويين” رمز المغرب الخالد حقا، وقلبه النابض بالعطاء العلمي الفكري والحضاري صدقا. إن هذا الكتاب لم يؤرخ فقط “للمسجد الجامعة، ولكنه كان يؤرخ لمؤسسة عظيمة لا يُعرف تاريخ المغرب إلا من خلالها، بل ولا تُعرف لأبنائه هوية إلا عبر اهتمامات زواياها..”[2]

والكتاب كما تقدم من ثلاثة أجزاء:

  • الجزء الأول: تاريخ جامع القرويين على عهد الأدارسة والزناتيين والمرابطين والموحدين. وهو من خمسة فصول: الأول: القرويين في عهد الأدارسة، والثاني: القرويين على عهد الزناتيين، والثالث: القرويين على عهد المرابطين والموحدين. والرابع: فيه وصف مدقق للأبواب الخارجية والأبواب الداخلية. والخامس: عالج فيه التاريخ الفكري للقرويين في العصر الإدريسي والزناتي والمرابطي والموحدي. مع ملحق ضمّ تراجم عدد من أعلام الفكر الذين كان لهم شأن في القرويين خلال الحقبة الأولى من تاريخها، وعددهم نحو 250 شخصية.
  • الجزء الثاني: تاريخ القرويين على عهد المرينيين والوطاسيين والسعديين، وهو كسابقه من خمسة فصول. الأول: فيه تتبع للزيادات والترميمات في هذه الفترة، مع الإشارة إلى مرافق أخرى. الثاني: خصه لمدارس القرويين على هذا العهد. الثالث: خاص بالتاريخ الفكري على هذا العهد.
  • الجزء الثالث: القرويين على عهد العلويين. وهو من أربعة فصول. الأول: الزيادات المعمارية والعمرانية على هذا العهد. الثاني: خصه للفروع التي تؤدي رسالتها العلمية بفاس من أجل إعداد المستحقين للالتحاق بالمجالس العلمية الكبرى بالقرويين (الجوامع والمساجد والزوايا الصغرى). الثالث: اختص بمعالجة سجلات الأوقاف أو الحوالات الحبسية كما يسميها المغاربة. الرابع: فيه معالجة للتاريخ الفكري للقرويين منذ أوائل العهد العلوي إلى الحصول على الاستقلال. وأما الخامس فخاص بالحديث عن القرويين أيام السلطان محمد الخامس، مع تعريف بمكاسب القرويين على عهد الكفاح لأجل الاستقلال، وجهاد العلماء ونضالهم من أجل عودة الملك من منفاه.

على سبيل الختم

يستوقف القارئَ للكتاب اهتمامُ المؤلف بالتفاصيل الدقيقة على مستوى التاريخ والمعمار والمرافق وروائع الكتب ونفائس المخطوطات، وتراجم العلماء والمدرسين والترميمات والزيادات والتحف، والزخارف والنقوش…. لكنها تفاصيل غير مملة ولا مضجرة، لأن فيها عبق التاريخ، وبراعة الوصف، وسلاسة السرد، وغزارة المعلومة. إنه كتاب، بل موسوعة عن القرويين ومدينة فاس، جمع فيها المؤلف ما لم يسبقه إليه أحد قبله في مصنف واحد. وهو بذلك كتاب جدير بالاقتناء، جدير بالقراءة.

المراجع
[1] التازي عبد الهادي، تاريخ جامع القرويين المسجد والجامعة بمدينة فاس، موسوعة لتاريخها المعماري والفكري، ط 2، دار  نشر المعرفة بالرباط، ط2، 2000، ص 8.
[2] التازي عبد الهادي، تاريخ القرويين...، مرجع سابق، ص 1.