تقديم

يحيل عنوان الكتاب “هكذا تكلم محمد بنسعيد…” إلى كتاب “هكذا تكلم زاردشت” لنيتشه، وإن كان الفارق بينها على مستوى المضمون والاهتمام وقضايا المعالجة، فالمؤلف يحمل بين طياته أسرار شيخ اليساريين، الذي كان في حل من أمره حيث لم يجد نفسه مضطرا لتأثيث حقبة من تاريخ المغرب عايشها مقاوما ومعارضا سياسيا، ومؤسسا لفعل في الواقع من خلال مساهماته في جيش التحرير، وداخل قبة البرلمان، وعبر العمل على بناء جيل أراد له أن يحمل مشعل الحرية والانعتاق، والتشبث بالعدالة والديمقراطية.

مذكرات الزعيم اليساري والمقاوم محمد بنسعيد آيت إيدر، الموسومة بعنوان “هكذا تكلم محمد بنسعيد” من إعداد وإخراج عبد الرحمن زكري- والتي يسرد فيها محطات حالكة في تاريخ المغرب الحديث ودفاعه عن كرامة الوطن والمواطنين.

إن القارئ للمتن يجد أن الرجل تطرق إلى جميع القضايا التي كان شاهدا عليها أو فاعلا فيها، سواء كان مسكوتا عنها إما لحسابات سياسية أو لخوف ما، وجاءت مذكراته لتخاطب الجيل الجديد كي يتعرف على هذه التجربة النضالية والسياسية.

لقد بقي بنسعيد وفيا للمبادئ التي آمن بها وضحى من أجلها ولم يتنازل أو يتماهى مع المخزن. قد يخالفه العديدون في اختياراته الإيديولوجية التي تبناها، ولكن سيوافقونه في دفاعه عن الحق والعدالة، وهو الذي ما فتئ يؤكد أن المخرج من كل التحديات التي يواجهها المغرب لن تتحقق إلا عبر إطلاق انفراج سياسي جديد بالمغرب، وتضافر جهود الجميع لبلورة مشروع مجتمعي حداثي ودولة الحق والقانون، والاجتماع على قاعدة مشتركة متوافق عليها.

مذكرات بنسعيد مشروع من عشرة مشاريع، بين خطاطات أولية، ومسودات كتب ناجزة، بعضها أعمال توثيق وبعضها أعمال تأليف، ما تزال تنتشر في أدراج مكتب الأستاذ محمد بنسعيد آيت إيدر إلى أن يحين دورها للنشر. من هذا المجموع، لم يصدر لحد اليوم سوى ثلاثة كتب هي على التوالي “صفحات من ملحمة جيش التحرير بالجنوب المغربي” (2001/ 360 ص)، و”وثائق جيش التحرير في الجنوب المغربي 1956-1959″(2011 / 253 ص) ثم “الهيئة الريفية-2018 / 254 ص).

ومن بين هذه الأعمال كلها، المنشور منها وغير المنشور، والتي تجمعها وحدة الموضوع ــــ رغم توزع ملفاتها الكبرى من حيث المجال بين الريف والشمال والتحرير في المنطقة الجنوبية، وفي المنطقة الشرقية، وحركة المقاومة وتنظيماتها السرية في المدن، ثم الاتحاد الوطني للقوات الشعبية في الجزائرـــــ سيحتل هذا الإصدار الجديد، أعني كتاب “هكذا تكلم محمد بنسعيد”خاصا ومتفردا بدون أي شك (ص 05).

بنسعيد سارد بضمير المتكلم

إنه المتن الوحيد الذي يحضر فيه محمد بنسعيد كسارد بضمير المتكلم، إنه أول نص، بل هو النص الذي تتجلى فيه  ذات الكاتب السارد نفسها، وحياتها وكفاحها… وحيث تخرج لغة السرد عن حدود الوظيفة المرجعية التي تطغى عادة عند الحديث عن الموضوعات الخارجية، أحداثا ووقائع وتواريخ، لتفتح هوامش معقولة للذات تعبر فيها عن أفكارها هي، وعن حالاتها ومشاعرها هي، إزاء تلك الموضوعات… وحيث يتوالى الخارجية ظهور الأحداث والشخوص والشخصيات لا وفق مسارها الكرونولوجي الخطي في الزمان التاريخي، بل كما ترصدها عين السارد، وكما تعيد تنظيمها وجهة النظر التي تحكم سرده فتترك على النص ما تترك من آثار تقطيعاً وتحقيباً وتبشيراً.

هذا الكتاب كنص، حتى وإن أمكن تصنيفه داخل خانة “المذكرات” الشخصية أو السياسية أو الفكرية، كما درج على ذلك تقليد سائد في هذا المجال، ينهض على كتابة تفيض في الحقيقة عن الحدود الإقليمية التقليدية “للمذكرات”، لتمتد خارجها على تخوم، و في تقاطعات الطرق بين هذا الجنس الأدبي وأجناس أخرى مجاورة له ومتداخلة معه كالأوتوبيوغرافيا، والاعترافات والشهادة أو الرواية التاريخيتين…

وهذا الكتاب كنص، لا يندرج تمام الاندراج في خانة “المذكرات” إن نحن أخذنا في الحسبان أيضا الطابع النمطي الذي يتكرر عادة في هذه الأخيرة، والذي يتعلق تحديدا بخصوصية أسباب نزولها وبما يكون مؤملا من نشرها كغايات.

فمن حيث خصوصية أسباب النزول، نحن نستطيع ملاحظة أن أغلب هذه المذكرات المنشورة، عند الآخرين، أو حتى عندنا، مع مراعاة الفروق، تأتي إجمالا في سياق قطيعة ما تفرض نفسها من الخارج على مسار حياة كاتبها.

قد تكون هذه القطيعة من النوع الاعتيادي، المهني مثلا، كأن ينتقل صاحبها من ضجيج وتوترات الحياة العملية النشيطة إلى هدوء وسكينة حياة التقاعد، وقد تكون من النوع الاستثنائي، الوظيفي، كأن ينسحب كاتبها، رجل السياسة أو رجل الدولة، من الحياة العمومية، وحتى من العمل السياسي ككل، بعد إنجازات يكون قد حققها، وعموما بها انكسارات يكون قاد العرض لها أو سبب هو فيها، على إثر فشل قاس يعلم في رهان سياسي كبر غاليا……

أما “سيرة الأستاذ محمد بنسعيد، فلا تندرج البتة في هذه الخانة، بل هي على العكس تماما، تتقدم كاستمرارية أصيلة قاعدتها حصانة وانسجام مع الذات لا تكسره حاصلة ولا بلينه وهم أو هوى، فالرجل، أطال الله في عمره ومنحه دوام الصحة والعافية ودوام هاده القدرة الاستثنائية فيه على العطاء بدون حساب، وهو الذي عاش عهودا تعاقب فيها ثلاثة ملوك لكل منهم أسلوبه، ما كان يخرج من ديناميكية تضيق وتتعلق إلا ليفتح ديناميكيات أخرى أكثر رحابة وتلاؤما دائما مع الشروط الصعبة، المحكوم فوق ذلك بحجز ذاتي خاص أشبه ما يكون باللعنة… حجز تتضاعف وتتضافر فيه القوى من كل نوع ومن كل موقع، ولا يتوقف فيه للأسف في ما وراء طلاءات وبهرجة مظاهر التقدم المعروضة في الواجهة تيار التراجعـات وحتى الانهيارات الباطنية التي تهد في صمت مختلف أركان بنيانه. وهيمات وانهيارات تساءل قيادات المعسكر الآخر طبعا عنها ولا تعفى من مسؤولية السماح بها بل والمساهمة فيها دائما على نحو من الأنحاء، حتى وهي تقسم بشرفها في كل مرة على حسن طويتها ونبل نواياها….

وأخيرا، بخلاف “المذكرات”، ف”سيرة” الأستاذ محمد بنسعيد، ليست كتابة لاحقة وبعدية عن أحداث يعود الكاتب لاستدعائها من الذاكرة بعد أن تكون قد مرت على وقوعها سنوات وعقود…إنها على الأقل في جانبها المتعلق بسيرة الكفاح – كتابة حية وسط المعمعة، وبمداد دافئ… وإلى ذلك، هي كتابة مدعمة بذخيرة من الوثائق المتنوعة من رسائل وتقارير، بعضها، هو نفسه من كان دونها في ذلك الإبان، وأعداد أخرى منها، استخباراتية وسرية صادرة عن الدوائر الاستعمارية الفرنسية والاسبانية، أو متبادلة بين القيادة المركزية للمقاومة وجيش التحرير وتنظيماتها المحلية، أو هي مواد كانت صحافة ذلك الوقت قد نشرتها علاقة بالأحداث.

غايات المذكرات

يأمل الناشرون للمذكرات أن يلقي المؤلف أضواء أخرى مغايرة على عدد من الإشكالات المطروقة التي ترجع باستمرار مجددة معها دورات عود أبدي لآلام عهود رصاص ما يزال تاريخنا وذاكرتنا الوطنيين بشان تحت وطأتها، وما يزال الممسكون بخيوط الحل والعقد إلى اليوم ماضين قدماً في عماهم يتلهون بأن يمنعوا دائما، عند كل استحقاق، تقديم الدواء الشافي، أو هم على الأقل يزورونه، عند ما يضيق عليهم تحت الضغط هامش المناورة، فلا يجدون بذا من فعل شيء ما. والمؤمل أيضا أن يكون هذا الكتاب قد بادر إلى نبش إشكالات أخرى غير مطروقة فاتحا فيها ثغرات أولى قد تشجع فاعلين وشهودا آخرين من مقاومي الأمس من أجل تحرير التراب الوطني، على استئناف حركة مقاومتهم اليوم، وقد تم تجديدها وتحيينها، وذلك من أجل تحرير مربعات أخرى في مساحة الذاكرة الوطنية لهذا البلد من سلطة إرادة الطمس والتزوير والمحو وما تنتجه مفاعيلها الثانوية، على الضفة الأخرى، من تقاليد وأعراف صمت وكتمان وكبت، ما تزال حتى إشعار آخر مصونة ومرعية.

قضايا مفصلية

يتعرض آيت يدر  بنسعيد في الجزء الأول من مذكراته، التي تضم 428صفحة، حول نشأته يتيم الأم، في عائلة ميسورة بمنطقة سوس، وما عايشه في ظل الاحتلال القمعي للمظاهرات الشعبية ونفي السلطان محمد بن يوسف، وما تميزت به فترة ولادته، أحداث دجنبر 1952 وحبسه بتينمنصور، أحداث قاعدة خلفية للمقاومة في آيت باعمران. وشهادته عن جيش التحرير بالشمال يتلقى أسلحة من مصر….وحل جيش التحرير بالشمال وتحوله نحو الجنوب. وكيف ثأر  جيش التحرير من الفرنسيين في معركة بوكراين، وانتصارات جيش التحرير على اسبانيا في الصحراء المغربية، وكيف نجا من محاولة الاغتيال، وتداعيات معركة “إيكوفيون”، مؤتمرا بوخشيبة والرباط، وقضية الوحدة الترابية المغربية، واجهات عمل جيش التحرير بالجنوب المغربي. كما تحدث عن حكومتي البكاي الأولى والثانية والفرص المهدورة، والمواجهات مع الملك تفضي إلى انشقاق حزب الاستقلال، مؤامرات وتمردات….، والمؤتمر الوطني الثاني للاتحاد الوطني للقوات الشعبية، ومؤامرة 1963 والحكم عليه بالإعدام، وسنتان من المعالجة النفسية، تجربة  23 مارس ومشكل الصحراء، تجربة أنوال  وحركة النضال الديمقراطي، وعمله داخل البرلمان واللعبة السياسية، ولما طرح قضيتي تازمامارت والمعتقلين السياسيين، والنضال الحقوقي والدفاع عن مغربية الصحراء، وحين رفضت تقبيل به الحسن الثاني وموقفه من  دستور 1996 الذي تسبب في  تصدع الكتلة الديمقراطية، والانشقاق الذي عرفته منظمة العمل الديمقراطي الشعبي وتوحيد اليسار، وحضور القضية الفلسطينية التي ساهمت في تفتق الوعي السياسي، وأخذ موضوع الجزائر حيزا مهما من اهتمامات الكاتب، وأسباب خروجه من المغرب إلى الجزائر، وفي أسباب الضربة التي أطاحت بالاتحاد الوطني للقوات الشعبية.

إنه مسار حافل بالنضال والصمود منذ النشأة مرورا بأبرز المحطات السياسية والنضالية، منها انخراطه في جيش التحرير، ومواقفه من قضية الصحراء، ونجاته من محاولة اغتيال، وعلاقته الصدامية والمتوترة بالحكم، خصوصا مع الملك الراحل الحسن الثاني، وتشبثه بمبادئه ورفضه لدستور 1996، وتوقف عند محطة توحيد اليسار سنة 2002؛ والذي تكون من  أربعة فصائل هي منظمة العمل الديمقراطي الشعبي، والحركة من أجل الديمقراطية، وحركة الديمقراطيين المستقلين، والفعاليات اليسارية المستقلة، وبعض المنتمين لحركة 23 مارس. وتم المؤتمر التأسيسي لحزب اليسار الاشتراكي الموحد في 2002 (ص 304). وبعد المؤتمر الوطني الثاني المنعقد ببوزنيقة في سنة 2007، أخذ اسم الحزب الاشتراكي الموحد، الذي قاطع التصويت على دستور وانتخابات 2011م.  كما حكم على لحظة “إيكس-ليبان”، واعتبرها من أعظم فرص المغرب الثمينة لانتزاع الاستقلال الكامل وبناء دولة المؤسسات (ص 163)، وعاب على حزب الاستقلال وحزب الشورى والاستقلال عدم توحيد الصفوف للانقضاض على هذه الفرصة (ص 164-165).وجاءت حكومة البكاي التي أجهزت بصفة نهائية على هذه الفرصة التي ضيعت التحرر والاستقلال (ص 168-169).

وبخصوص تجربة جيش التحرير في الشمال والجنوب، قدم تفاصيل دقيقة عن تنظيماته ومعاركه وحسم في بعض المغالطات التاريخية. ومنها حقيقة علاقة المحجوبي أحرضان بجيش التحرير (ص. 89)، واعتبار معركة إيكوفيون خيانة داخلية وخارجية (ص 122)، أنهت فصول مغامرة هذا الجيش الذي جرد من سلاحه وحيكت المؤامرات ضد قيادته، علما أنه لعب دورا محوريا في تشكيل نواة تنظيم مغاربي ينطلق من الصحراء. وبالتالي ضاعت هنا أيضا فرصة تاريخية أخرى لا تعوض (ص 140)، أما بالنسبة للتجربة السياسية المغربية بعد دستور 1962، حيث عوض أن تبقى الملكية مؤسسة للتحكيم ترعى التعدد السياسي بمعناها الصحيح، راحت تستفرد بالحكم وتقصي القوى الوطنية الحية. وجاء أول دستور ليكرس حكم الفرد ويضع السلطات كلها في يد الملك (ص. 192). وراجع مواقفه من العنف السياسي ضد النظام، واعتبرها من دون أفق استراتيجي. وتأسف على تجربة التناوب التوافقي، واعتبره تناوبا مزيفا، إذ بالرغم من بعض الإيجابيات، تخللته الأخطاء القاتلة التي ستدفع الأحزاب السياسية ثمنها غاليا فيما بعد، فكان من الفرص المهدورة بالرغم من دوره الإيجابي في انتقال السلطة بسلاسة من الحسن الثاني إلى محمد السادس (ص 293).

خاتمة بمثابة تنبيه

لايتحمل بنسعيد سوى مسؤولية متن الكتاب أما ما سوى ذلك، فالناشرون من يتحمل ما قاموا به من  اختيارات، سلبا وإيجابا، بدءا من الشهادات الملحقة في حق بنسعيد التي تم استخلاصها من مواد المناظرة الدولية حول الفضاء المغاربي ومرورا بعنوان الكتاب، وصورة غلافه، ووصولا إلى الفهارس الجامعة والشاملة لكل أسماء الأعلام والأماكن، والتنظيمات، والمؤسسات الإعلامية السمعية البصرية، والتعليمية، والتجارية…وكذا للقبائل، التي أتى الكتاب على ذكرها.