بين يدي التقديم

اكتسب الفقيه العلامة محمد المختار السوسي رؤية ونفَسا تاريخيين متجدّدين تجاوز بهما أقرانه التقليديين، حيث اصطبغت كتاباته بروح علمية بزّ بها رواد مطلع القرن الماضي أمثال الناصري وابن زيدان، اللذيْن مكنتهما القرابة والموقع الاجتماعي من الاطلاع على (الوثيقة) باعتبارها شرطا مرجّحا في كتابة التاريخ، لكن العلامة المختار السوسي استطاع أن يعوّض عنها، ويخلق الفارق باللقاء والمخالطة، والمشافهة، يقول: “فقد حبب إليّ الجولان في البلاد، ومخالطة كل الطبقات في كل ناد، ومجاذبة الحديث العلمي بين كل الجماعات من حاضر وباد، لعلي أستفيد ما لم يكن به علم قبل… فأكبر اللذات عندي المجاذبة حول تحرير مسائل المنقول أو المعقول، وهل بقي من اللذات إلا محادثة الرجال ذوي العقول”[1].

وأول ما يطالع متصفح كتاب “سوس العالمة”، (إهداء) يطفح تواضعا وعدلا، ويخبر بأخلاق الأستاذ المختار السوسي، إهداء يبسط فيه سياق تأليف الكتاب، نورده كما هو لما يحمله من معان وقِيَم يقول: “كان سبب ابتدائي لمباحث هذا الكتاب أستاذي الجليل علامة الشرفاء، وإمام الكرماء، ابن زيدان، يوم زار سوس وكتب رحلته السوسية في كراسة، فناولنيها على أن أذيّل عليها، وأستتمّ كل ما يتعلق بالعلوم العربية في كل أدوار التاريخ بسوس، فلم أزل أتوسع في الموضوع حتى صار الموضوع إلى ما يراه القارئ. أفليس من الواجب المتأكد أن يكون الكتاب باسم أستاذنا الجليل ابن زيدان الذي ترك فراغا لم يحاول أحد أن يملأه ولا طمع فيه متطاول؟ والاعتراف من التلميذ لتأثير أستاذه من أدنى واجبات الأساتذة على التلامذة”[2].

لقد كان الأستاذ العلامة المؤرخ ابن زيدان يريد تذييلا واستتماما على كراسة من بضع ورقات دوّن فيها مشاهداته خلال زيارته لسوس، فإذا بالتلميذ الحاذق المجدّ، الذكي الألمعي، الجادّ المثابر، يحوّلها إلى كتاب ملء السمع والبصر، ويأبى -بخلقه الرفيع- إلا أن يرد الفضل إلى أهله، ويذكر سياق تأليف الكتاب دون مواربة أو ختل، ورحم الله الجميع.

وكتاب “سوس العالمة” لبنة في صرح عظيم شيّده العلامة المؤرخ المختار السوسي بصبر وجلَد، وعشق وهيام، أكاد أزعم أن لا أحد قبله، ولا بعده أنجز ما أنجزه المختار السوسي عن سوس، هذه الرقعة المباركة المعطاءة، قلعة القرآن والعلم والأدب. ولقد كان رحمه الله على علم بما يُنْجِز، وعلى وعي بما يعدّ، ولذلك ما فتئ يناشد الباحثين الشباب، ويغريهم بالإقدام على مثل ما أقدم عليه هو، وينجزوا مثل ما أنجز، فتعم الفائدة، و ينتشر النفع، يقول: “إيه، فهذه سوس وجدَت من هذا السوسي من يبذل جهوده حول إحياء تاريخ بعض رجالاتها، فليت شعري هل تجد تلك البوادي الأخرى، بل وبعض الحواضر التي لم يكتب عنها بعد أي شيء، من تثور فيه الحمية المحمودة، فيفتح لنا الأبواب التي نراها لا تزال موصدة؟ إننا أيها الفيلالي والدرعي والريفي والجبلي والأطلسي والتادلي والدكالي لمنتظرون، أم يذهب هذا النداء كصرخة الوادي بين ثنايا الصدى؟ (…..)  وبعد؛ فليسمع صوت هذا السوسي كل جوانب المغرب من أعظم حاضرة إلى أصغر بادية، فلعل من يصيخون يندفعون إلى الميدان، فنرى لكل ناحية سجلا يضبط حوادثها، ويعرف برجالها، ويستقصي عاداتها، فيكون ذلك أدعى إلى وضع الأسس العامة أمام من سيبحثون في المغرب العام غدا على منضدة التاريخ المغربي العام”[3].

تقديم الكتاب

الكتاب في سفر واحد من 251 صفحة، صدر في طبعته الأولى عن مطبعة فضالة بالمحمدية سنة 1960م، أول ما يطالعك من الكتاب، خطبته التي استصحب فيها المختار السوسي نفَسه التاريخي، وعشقه للتاريخ، ليقدّم عملية مسح تاريخية أجاب من خلالها عن سؤالين كبيرين: هل في سوس علم واسع قبل القرن التاسع الهجري؟ وهل ضياع أخبار تلك القرون (ما قبل القرن الثامن الهجري) هو سبب عدم إدراكنا مجد سوس العلمي؟ وأثناء الجواب عن هذين السؤالين تشعر بسعة اطلاع المؤلف، وقدرته على الحجاج وهو يسوق كل الأدلة التي من شأنها إثبات أن سوس خلال القرون السالفة كانت على حظ من العلم، وأن لها نصيبا من الحركة العلمية السائدة حينئذ، حيث قدّم دفوعات تخبر بـ (هواه السوسي)، الذي سرعان ما يتجاوزه بخلة المنصفين، وشجاعة المحققين ليصرّح أن “الأدلة العقلية قد تقتضي كما نرى بأن بعض الشيء في اتساع الحركة العلمية كائن ولا بد، ولكن تعوزها الأدلة النقليّة”[4]. بل لم يجد بدّا من إرجاع الأمر إلى السوسيين أنفسهم قائلا: “إن السبب الوحيد هو ما ابتلي به السوسيون إلى اليوم من عدم الاعتناء برجالهم، والتفريط دائما لا ينتج إلا الجهل المظلم. وهذا العيب لا يزال فيهم ماثلا إلى الآن”[5].

وسعيا لإثبات مجد سوس العلمي، يعود بنا إلى القرن الخامس الهجري تاريخ تأسيس مدرسة أگـلو على يد شيخها الفقيه وگـاگـ، معلقا بوثوقية “وإن كان ما يعرفه التاريخ اليوم من تلك الأولية لا يدل على أنها هي الأولى في الواقع، فإن هناك بصيصا يتراءى منه أن حركة علمية موجودة مع مدرسة (وگـاگـ) هذه، وربما كانت قبلها”[6]. ثم يتحدث بإسهاب عن النهضة العلمية السوسية بعد القرن الثامن الهجري، ويتوقف عند أسبابها، ويبسط مجالات العلوم التي اعتنى بها السوسيون، ويخص الأدب العربي وأطواره بما يستحق من تفصيل، ثم يعدد الأسر العلمية ويقف عند 158 أسرة، ويسرد أسماء مدارس سوس العتيقة مع نبذة قصيرة لكل منها، ليتوقف عند الخزانات العلمية السوسية، ثم يرتب أسماء المؤلفين السوسيين من القرن السادس إلى الآن على حروف المعجم.

وعلى عادته، يختم المختار السوسي عمله هذا، وهو حريص أن يُشعرك أنه عمل لم يبلغ مداه ولا منتهاه، يقول: “فها أنذا أقر أنني -وإن بذلت من المجهود ما بذلت– ما جمعت مما أمكن جمعه إلا قليلا ضئيلا، لاتساع الرقعة ولعدم تيسر الاتصال المطلوب مع كل أحد، حتى التاريخ العلمي للعهود الأخيرة، فإن كل ما حرصت على جمعه حوله لن يبلغ الحد المطلوب ولا نصيفه ولا قاربه، لعدم حرية التجول أمس، ولاشتغالي بالوظيف بعد استقلالنا اليوم”[7].

وتكاد تكون مثل هذه العبارات لازمة في الكتاب، لا يفتأ يرددها مفتتحَ الكتاب وأوسطه وخاتمته، كأنما استعظم في نفسه منطقة سوس فعظمت، فصار لا يقنعه ما كتب عنها، وما صنف فيها، يقول: “إن كل من أمعن نظره في كل ما تقدم مما جالت فيه أقلام السوسيين، يدرك بادئ ذي بدء، أن تاريخ سوس الحقيقي لا يزال منتظرا من أحد السوسيين الذين لا يخلو منهم هذا العصر الذي تنبّهت فيه الأفكار، وعلت فيه الأنظار، فليت شعري، هل أحيى حتى أرى بعض شبابنا الحي يتقدم فيحصي كل قبيلة قبيلة، يحصي ما تعلق بها جغرافيا بما فيها من المساجد والجوامع والمدارس وبيوتات العلم والرئاسة….”.[8]

على سبيل الختم

إن كتاب (سوس العالمة) أراده ابن زيدان الأستاذ استتماما وتذييلا على رحلة في وريقات كتبها على عجل، فإذا بهمّة التلميذ النجيب تحوّلها إلى مرافعة وافية مطوّلة، فيها صنعة مؤرخ يشده إلى منطقة سوس رابطان، رابط الانتماء، ورابط عشق التاريخ والولع به. ولا غرابة في ذلك، فقد هام كثيرون بالتأريخ لبلدات أو مدن أو حواضر أو دول، وأستحضرُ هنا وصف ابن حجر العسقلاني للمقريزي الذي هام بتاريخ القاهرة حين قال: “له النظم الفائق، والنثر الرائق، والتصانيف الباهرة، وخصوصاً في تاريخ القاهرة، فإنه أحيى معالمها، وأوضح مجاهلها، وجدّد مآثرها، وترجم أعيانها”. أليس مختار سوس هو مقريزي القاهرة؟.

المراجع
[1] المختار السوسي:  خلال جزولة، ج 2، المطبعة المهدية، تطوان، ص5.
[2] المختار السوسي: سوس العالمة، مطبعة فضالة، ط1 / 1960 ، الإهداء / ص 6.
[3] المختار السوسي: سوس العالمة، مرجع سابق. ص 10 – 11.
[4] المختار السوسي: سوس العالمة، مرجع سابق، ص 18.
[5] المختار السوسي: سوس العالمة، مرجع سابق، ص 19.
[6] المختار السوسي: سوس العالمة، مرجع سابق، ص 17.
[7] المختار السوسي: سوس العالمة، مرجع سابق، ص 232.
[8] المختار السوسي: سوس العالمة، مرجع سابق، ص 233.