مقدمة

تارغة؛ قرية ضاربة الجذور في تاريخ المغرب الأقصى، مِن توابع إقليم شفشاون على ساحل البحر الأبيض المتوسط، ضِمن نفوذ جماعة “تازكان” من أصل أربعة دواوير عريقة. تعود بتاريخها إلى مرحلة القُوط الذين بَنوْها أوَّلاً قبل تعميرها من قِبل الأمازيغ المغاربة حسب ما نَقَله الرحالة والمؤرخ المغربي الحسن بن محمد الوزّان الفاسي عن بعض المؤلِّفين. وإلى حدود القرن 14م “كانت أسوارها ضعيفة في الجُملة، وسُكانها صَيّادون يُـملِّحون ما يَصطادونه من سَمكٍ ويَبـيعونه لتُجّار الـجَبل، ويُحمَل إلى مسافة تُناهِز مائةً وعشرين ميلاً في داخل البلاد”[1].

وبموقعها البحري الإستراتيجي وتحصيناتها الجبلية الطبيعية، تَعرّضت تارغة لمحاولات غَزو من قِبَل البرتغاليين الذين اشتَهَواْ السواحل الشمالية للمغرب، منذ مطالع القرن 15 الميلادي، فحاولوا احتلال تارغة سنة 1502م، لكن التصدي البطولي للساكنة الذين قال عنهم الوزّان بأنّ “أهل هذه البلاد شُجعان حَقًّا”[2]، حال دونَ وقوع المنطقة فريسةً للاستعمار الـمبكِّر.

وبوقوعها جنوب شرق مدينة تطوان، وسَط سَفحٍ متواضع، وبتَمنُّعها أمام إغراءات الحداثة وسمفونية التنمية لمناطق الشمال الشاطئية و”تَعريتها” على حساب التاريخ وعبق الثقافة وجمال المبنى؛ فهْي خارجَ زاوية نَظَر الجهات المسؤولة، وفي منأى اهتمامات الإستراتيجية التنموية النيوليبرالية، وخارج الرعاية السياسية والثقافية لجهة طنجة _ تطوان _ الحسيمة، ويتيمةُ المبادرات المدنية الحقيقية، إلا مِن جُهود محلية متواضعة بدأت تؤتي أكْلها في السنوات الثلاث الأخيرة.

حضورٌ وأثَرٌ في التاريخ المحلي

جَـمَعَت تارغة أو تَرْغة كما وَرَدت في وصف افريقيا[3]، بين سِحر الطبيعة ومَنفذ شاطئي متوسطي إلى داخل المنطقة الشمالية الغنية والجذابة؛ فكان في ذلك بلاءٌ لها، إذ أضحت مَطمعَ القوى الإيبيرية الغازية منذ القرن 14م، ومسرح الصّراع السياسي والعسكري بين الوزراء الوطّاسيين والشرفاء السعديين. ثمَّ تعرّضت القرية لاحتلالَين متتالين بينهما عَشر سنوات من طَرف البرتغال، إلا أنّ المجاهد مولاي علي بن راشد (تـوفي 1512م) افتَكّها منهم و”خَضَّدَ شَوْكَتهم”[4] فظلَّت صامدة أمام تقلُّبات الطبيعة ومشاكل الهجرة وتحديات الزّحف الخارجي؛ إلى أنْ تَمكَّن الإسپان من احتلالها بتاريخ 12 أبريل 1921، في عِزّ اشتداد وطأة الصّراع مع المقاومة الريفية بقيادة الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي[5].

شواهد معمارية ومآثِر تاريخية

لقد شّكلت قرية “تارغة” التي اشَتَقّت إسمها مِن مَجرى الوادي العابر وسَطها صوب البحر؛ قاعدةَ الجهاد البحري في الفترة الممتدة من القرن 14م إلى القرن 20م، حيث بَنى بها المرينيون قلعة عظيمة ما تزال شواهدها قائمة إلى اليوم، يُطلِق عليها أبناء المنطقة “دار السلطان الأكحل” المقصود به السلطان علي بن عثمان الملقَّب بأبي الـحَسَن المريني (تـوفي 1351م)، الذي أمَر بتَشْييدها بهدف صَدّ هجمات البرتغال والإسپان، كما تَرك بها السّعديون بُرجا دفاعيا يَقع اليوم عند مدخل البحر على علُو 15 مترا.

تضمّ البَلْدة بقايا قرية مطمورة ناحية “الزاوية”، أثْـبتت تجارب حفرية ودراسات أركيولوجية وجودها، غير أنّ عمليات التنقيب تَمَّ توقيفها لدواعي لا زالت مجهولة!

فضلا عن توفُّرها على زوايا تاريخية ومسجدٍ عريق بجانب المقبرة الإسلامية _ أُغْلِقَ بقرار من السلطات قبل ثلاث سنوات _، وقُبور بعض شهيرات النساء، كــ: لالة زَهرة[6] زَوجة الأمير مولاي علي بن راشد أمير شفشاون والنواحي؛ ساهمت تارغة في التَّعبئة الدينية والوطنية ضد المحتلين الأجانب، وحافظَت على نشْر الفقه والشريعة وتعليم القرآن للأجيال.

وفي تراب القرية مدافِن الأولياء الصالحين؛ أشهرها قَبْر الشيخ أحمد الغزّال، القاضي الأندلسي الذي طُرِد ضمن حملة التهجير القسري في الفترة السَّعدية[7]، ومؤسِّس الزاوية المعروفة اليوم هناك. ومَدْفن الولي عبد الرحمان الـمَدِيني أو المغْرِبي حسب التعبير الدّارج لدى أبناء المنطقة.

بساطة الساكنة في تناغُمٍ مع جمال الأمكِنة

المجتمع التارغي محبوب وهادئ في طَبْعه الفردي والجَـمْعي، ويُؤلَف بسرعة، متأدِّب بمكارم الأخلاق الفِطرية، أطفاله ذَوو جمال أخّاد، والشقراوات الصغيرات في القَرية هنَّ الجميلات، فالعَين تُبصِرهنَّ يرَكضن فرِحات بين الأزقة الضّيقة، وتقِف إحداهنَّ  لتقذف بالحصى جَرْواً فاقدَ القوامَة، سرعان ما يفرُّ مُوَلْوِلا مهرولا. أما مشهد الصِّـبْـيَـة يحمِلون ألواحا ودُسُرا، يغادِرون متقافِزين فرحين من الكُتّاب القرآني فيُـشعِر الزائر بسعادة خاصة.

أغلب أهْل تارغة بُسطاء الحال واللباس والـمعاش وإن امتلَكوا الدُّور وبضِعة أمتار من الغِراس، والفِـتيان الذين تَبدوا عليهم آثارُ الفَقر، يُصَارعون وطْـأة المعيشة الـصعبة والقِلة، ويَـصْرعون بَعضهم أرْضًا عن كَثرة وعن قِلّة، فيتناهى إليك وأنت مارّ بالطريق أو الأزقة الضيقة لحيّ الزاوية؛ صُراخ عَجوز مِن على سَطح منزل يَنزل كعَصا موسى فيَفلِق بين الفريقَين المتخاصِمين، وتتوعَّدهم لعلَّهُم يَـنْـتَـهون.

أما شيوخ البلدة والطاعنون في الـكِبَر فتَجْمَعهم مَـجامع عندَ عتباتِ بعض الدُّور، أو عند باحة المسجد بعد انقضاء الصّلوات، يَرصدون حركية الغادِين والرائحين عند كل مَصعدٍ ومنحدَر، ويتحدَّثون في أمور الدنيا والدين مع شيء من الغيبة الاجتماعية ويتبارَون أيُّهُم أمْـضى فِراسَةً وأكثر قدرةً على التنبُّؤ.

فيما تُرى العجائز والشّابات والأمهات في البلدة محافِظاتٍ على اللِّباس الجبلي التقليدي، ثابتات على الحياء في المجال العام، يَــنْــتَـعِلن أحذية محلية الصُّنع، وشاشية جبلية جميلة مزركشة بالألوان، ومصنوعة من نَبات الدّوم أو ما يُعرَف بــ”العزْف”، يَقِينَ بها حرَّ الشمس عن أوجُهِهِنّ، إلى جانب تَـمَـنطُقِهِنَّ بمنديل مُخطَّط في الأغلب بالأحمر والأبيض، يُسَمى في اللهجة المحلية “الـكنْـبُوش”، قُطْني أو صوفي، حسب الفصول، يَتكامَل مع كسوةٍ بيضاء فضفاضة تَلبسها المرأة التارغية، وأحياناً تُشاهَد النسوة مُرْتَدِيات الحائك الجبلي الجميل، ذي اللّون الأبيض الفاتح. وهُنّ في كل هذا؛ يُـحافِظن على الخصوصيات الثقافية المحلية، ويَصُنَّ التراث المادي للمنطقة.

أنشطة تجارية موسمية ووضعية اقتصادية متذبذبة

منازل القرية ومآويها تَضمُّ قوافل القادمين والمصطافين بأثمنة منخفِضة، لأيامٍ مَعلومات؛ وتَبدأ مقطوعة الرّحيل في العزف من جديد، ليَعود أهل تارغة إلى الاقتيات على ما لديهم من أراضٍ فلاحية متواضعة ومحلات تجارية بسيطة ومقاهٍ شعبية وسوقٍ صغير وبِضعة رؤوس من الماشية، ورغم تَوَفُّر ضَواحيها على “غابات تُغطّي جبالاً وعِرةً باردة، يَـنبُت فيها الشعير بكميات قليلة”[8]، فإنها لا تُغْني المنطقة من الأزمة والـنُّدرة.

خلال فصل الصَّيف تزدهِر التِّجارة وتتعدّد مداخيل الساكنة، فبالإضافة إلى كراء الدُّور؛ يتنافَس الباعة الصِّغار والكِبار في البيع والشراء بشَمَمٍ وأنَـفة “جْـبْلية” تثير إعجاب الزائرين، والأبناء مِن كل الأجيال في مُناوبَة يومية للآباء والأجداد الذين كَوَت أوْجُههم شَمس المصيف وهُم يَبـيعون مِن بواكير الصباح إلى ما بعد العصر، والجميع في حركة دؤوبة حريصة على بيع كل ما عُرِض؛ ولو اضطرَّهم آخِرُ اللّيل للابتياع بالثَّمن الأصلي للبضاعة. وحتى الفتيات ذوات الشَّعر الأشقَر يَـتَطَــلَّعْنَ إلى الناس يَستعطفْنَهم شراء “خبز بلدي ساخن” أو قطعة “حلوى محلية” أو “سَلّة عِنَب”؛ فلا يَـملك الواحد إلّا أن يَخِرَّ عند جمالهنَّ ساجدا، ويُلقي في أيديهنَّ الصغيرة الــمُجَعَّدة ما به يَقتني ما يَعْرِضنَ له، ويُغادر ويَكاد عُنقه يَعْوَجّ من كثرة الاستدارة تَمَلِّياً في جمال غَرناطي ساحر !

أما مَرسى تارغة فدائم الرواج والنشاط الاقتصادي على مدار العام[9]، يُساهم في مدّ مناطِق “تارغة” و”قاع أسراس” و”سطيحات” و”شْماعلة” بِغِلَّة سَمكية وافرة، أهمّها سمك (السردين) و(لانْشوبة) و(التونة) و(الشَّرن)، من خلال القوارب المحلية التي تقضي الليالي في الاصطياد والاقتياد. كما تعمل تعاونية الصيد البحري على تنظيم أنشطة بحرية بمناسبة فصل الصيف لإنعاش الحركية الاقتصادية للبحّارةِ، ويُسمَح لأرباب القوارب بتنظيم رَحلات بحرية على طول شاطئ ترغة لفائدة المصطافِين.

ختاما

إنّ هذه القرية الهادئة الآمنة المتميّزة بخصوصيتها وشاطئها وساكنتها؛ تُواصِل اليوم صمودها في وجه الحداثة الغازية، وقاطرة التحديث المغشوشة والتنمية مِن أعلى.. تواصل صمودها محافِظة على العيش بكرامة رغم شُح الموارد وضعف الإمكانيات.

فلو ثَـمَّ إرادة لتنميتها وتطويرها في الأفق المنظور؛ فلتكن بصيانة معالمها الأثرية، والحفاظ على خصوصيتها القروية، وتدبير طرقها ومائها وكهربائها ونظام الصيد البحري فيها وثرواتها بما يعود بالنفع على ساكنتها ويُبهِج زُوّارَها؛ أسوة بما هي عليه “وليلي” و”ليكسوس” و”تلسمطان” و”أراضي مَنار” و”شفشاون” وغيرها، لا أسوَةً بـــ”كابيلا” و”مرتيل” و”السعيدية” و”كالابونيتا” وغيرها؛ وإلَّا فإنَّ قاطِنيها ومُرتاديها يُحبونها ببساطتها ومقاهيها القُرسطوية وأزقّـتها الملتوية ومسجدها العريق و”داك الدار في القرية القديمة”!.

المراجع
[1] الوزان الحسن بن محمد الفاسي، وصف إفريقيا، الجزء الأول، ترجمه عن الفرنسية محمد حجي ومحمد الأخضر، دار الغرب الإسلامي، تونس، ص 325.
[2] الوزان الحسن بن محمد الفاسي، وصف إفريقيا، مرجع سابق، ص 325.
[3] الوزان الحسن بن محمد الفاسي، وصف إفريقيا، مرجع سابق ، ص 324.
[4] كربخال مارمول، إفريقيا، الجزء 2، ترجمة محمد حجي، أحمد التوفيق، أحمد بن جلون، محمد زنيبر، محمد الأخضر، الجمعة المغربية للتأليف والترجمة والنشر، دار نشر المعرفة، الطبعة الثانية 1989، ص 227.
[5] محمد العربي المساري، محمد بن عبد الكريم الخطابي؛ من القبيلة إلى الوطن، منشورات المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، الطبعة الأولى 2012.
[6] حكيم، محمد بن عزوز، الستّ الحرة؛ حاكمة تطوان، منشورات مؤسسة عبد الخالق الطريس للثقافة والفكر، تطوان، الطبعة الأولى 1983، ص 10.
[7] تحريات شخصية: رواية شفهية أفادنا بها أحد أبناء المنطقة، في جلسة نقاش عن تاريخ تارغة، بمسجد الزاوية، بتاريخ 14 يوليوز 2023.
[8] الوزان الحسن بن محمد الفاسي، وصف إفريقيا، مرجع سابق، ص 325.
[9] تحريات شخصية: معطيات قدَّمها لنا السيد محمد البحراوي أمين تعاونية الصيد البحري وعضو المجلس الإقليمي عن تارغة في جلسات حوار ونقاش عن المنطقة بتاريخ 13 غشت 2018.