بين يدي التقديم

خص الله تعالى هذه الأمة بصلاة الجمعة، وجعلها شعيرة أسبوعية تقام في موعد راتب، يحضرها المسلمون في ملتقى موسّع حافل بالمقاصد الجليلة، والحكم العظيمة، وتتطلع إليها أفئدتهم في شوق وحبور، ويتعاظم حرصهم عليها كلما شعروا أن الخطيب يبذل جهدا مقدرا ليعرّفهم ربهم، ويعلّمهم دينهم، وينشر فيهم الفضل والخير، ويوجههم للتشبث بمكارم الأخلاق وفضائلها، وينفرهم من رذائل الأعمال وذميمها.

ولا مراء أن الخطبة المنبرية فقدت لدى الكثيرين وهجَها، وخَبا أوارُها، وتراجعت أدوارُها التربوية والتعليمية لأسباب عدّة أهمها: عجز الخطيب عن التجديد والإبداع، وافتقاره إلى مسايرة مستجدات الواقع  وتحولاته، فضلا عن ضعف المكتبة التي تعتبر السند المرجعي الذي يمكن أن يدعمه في الإعداد الجيد لخطبه الأسبوعية.

وإلى حد الساعة، لم تنجح دور النشر في سد الفراغ المتمثل في حاجة الخطيب إلى مخزون كاف من الخطب المنبرية، يرجع إليها عند الحاجة، ويستعين بها كلما دعت ضرورة إلى ذلك، بالرغم من الدور الفعال الذي لعبته شبكة الإنترنيت في هذا الباب، وإن كان هذا الدور لا يخلو من آفات كما يعلم المجرّبون.

وفي خضم هذا الخصاص، وفي محاولة أرجو ألا تكون معزولة، جاء  كتاب “خطب ودروس العلامة الفقيه الشريف عبد الله المقرئ الإدريسي البحياوي” الصادر عن “مؤسسة  الإدريسي الفكرية للأبحاث والدراسات” في جزأين اثنين، الأول: مع الرسول (ص)، وقد تم عرضه بمناسبة ذكرى المولد النبوي 1444ه في حفل بهيج بقاعة المربع الذهبي بالدار البيضاء.  والجزء الثاني “مع الله” وتمّ عرضه في رواق المؤسسة بالمعرض الدولي للنشر والكتاب بالرباط 2023م.

وفضلا عن كون هذا الكتاب شكّلَ إضافة نوعية في مجاله، فقد تعددت منافعه ودرره، فهو:

1- تراث (منبري) لأحد أعلام مدينة الجديدة، وأحد خطبائها الأفذاذ المشهود له بعلوّ الكعب، والذي خطب مدة أربعة عقود في المسجد الأعظم بلحمدونية، ومسجد الإمام علي مع خطبة العيدين بمصلى المدينة الجامع.

2- عمل إحيائي، تولّت من خلاله مؤسسة الإدريسي بعث تراث لا مادي لأحد أعلام الأسرة البحياوية الشريفة التي توارثت العلم كابرا عن كابر.

3- إسناد للمكتبة المنبرية التي نحتاج جميعا (أفرادا ومؤسسات) إلى بذل المزيد من الجهود، للزيادة في رصيدها، وجعله بين يدي الخطباء المبتدئين، أو أولئك الغارقين في وظائف وأعمال تشغلهم عن الإعداد الجيد والمنتظم.

تقديم الكتاب

الكتاب في أصله من ستة أجزاء: (1- مع الله 2– مع الرسول 3– مع الإسلام 4 – مع القيم والمواعظ والأخلاق 5– مع القضايا الاجتماعية والوطنية والبيئية 6- مع القضايا السياسية وقضايا الأمة).

وقد ضم الجزء الأول من هذا الإصدار (مع الرسول ص) –والذي رغم ترتيبه الثاني ضمن السلسلة، فقد تمّ إصداره أولا لمصادفته ذكرى المولد النبوي 1444ه- ست عشرة خطبة جميعها ذات صلة بحياة نبيّنا الخاتم ص : مولده، بعثته، مقامه، جهاده، هجرته، إسراؤه ومعراجه، غزواته، بعض وصاياه، فضل الصلاة عليه، وفاته….

أما الجزء الثاني (مع الله) فيضم أربع عشرة خطبة يجمع بينها: “النظر في الملكوت والتأمل العقلي وبيان معاني التوحيد وأسراره وخصائصه معززا بأدلة وجود الله تعالى كل ذلك في “تسلسل منهجي يربط فيه العلامة الخطيب التوحيد بالتكريم الإلهي للإنسان، باصطفائه وتحميله أمانة الرسالة، وتخصيصه بالارتباط بالله بالدعاء وإنكار البدع والشركيات، موجها إياه للدعوة لله مبرزا رعاية الله لعباده وآيات خلق الأرض”.  وجاءت عناوينها مرتبة كما يلي: ( دلائل التوحيد – من معاني التوحيد – من خصائص التوحيد – أسرار التوحيد – أدلة ملموسة على وجود الله – التكريم الإلهي للإنسان – الأمر بالدعاء – إنكار البدع – الدعوة إلى الله – رعاية الله لعباده – آية خلق الأرض – رجاء الآخرة – خطر الكهان – رحمة الله بعباده).

نأمل أن يجد القارئ في هذه السلسلة – التي نرجو أن ينتظم إصدار باقي أجزائها –  زادا علميا وتربويا ودعويا، وأن يجد فيها الخطيب دعما وسندا، يحقق من خلالهما خطبة بمعايير  يتطلع إليها  جمهور المصلين كل أسبوع، فتكون مفيدة، تتميز بالاختصار غير الممل، والجمال في الصياغة، والتنوع في التناول، والإبداع في الإلقاء…

على سبيل الختم

إن إشراف “مؤسسة الإدريسي الفكرية للأبحاث والدراسات” على إصدار  هذا التراث المنبري، يمثل دون شك علامة فارقة في الاهتمام بتراث علماء أدّوا ما عليهم  من جهاد البلاغ المبين، وهي خطوة من شأنها أن تشكل حافزا لجهات أخرى (مؤسسات وهيأت وأفراد)، من أجل النسج على منوالها، من أجل إسناد المكتبة المغربية بمنتوج علمي وتربوي ودعوي، يحتاج إلى قليل من الجهد، وكثير من العناية، لنقابل عطاء هؤلاء الرجال ببعض الوفاء.

ولعلنا بهذه الخطوة ومثيلاتها، نساهم في الحد من الهدر الذي يتعرض له تراث هائل من الخطب المنبرية، المكتنزة علما وموعظة، توجيها وتبصرة، والتي غالبا ما تُقبر بموت صاحبها. فهل من مدكر؟