توطئة

لا يزال رَحِم هذا الوطن– منذ أن كان – ولودا معطاء، ينجب الرجال تلو الرجال، فتظل أسماؤهم تترى عبر العصور  والأجيال، حاضرة أبدا في ميادين العلم والإصلاح والوطنية، شاهدة على تنوّع نبوغهم، وجميل عطائهم، وغزارة تراثهم الذي لا تنقضي درره وعجائبه.

ولم يكن مطلع القرن العشرين ليشذ عن هذه القاعدة، فقد تعددت فيه أسماء رجال أبلوا البلاء الحسن، فعمّ عطاؤهم وساد نفعهم، وبلغت شهرتهم الآفاق؛ فكان حقا على الأجيال اللاحقة أن تعرف فضلهم، وتعْرِف قدرهم، وتقدّر  نبوغهم وإسهامهم.

ومِن بين مَن وفوا لأعلام هذه المرحلة، والتفت بإكبار  لهذا الجيل، الدكتور محمد رياض رحمه الله، الذي اختار أن يعرّف بشيخ الإسلام أبي شعيب الدكالي، فكان وفاؤه كتابا في جزأين اثنين، اختار له عنوان:  “شيخ الإسلام أبو شعيب الدكالي الصديقي وجهوده في العلم والإصلاح والوطنية مع ذكر ثلة من تلامذته وآثاره”، وهو كتاب شامة في بابه، مفيد في مجاله.

محتوى الكتاب

الكتاب في جزأين اثنين، تجاوز عدد صفحاته 880 صفحة، صدر عن دار النجاح الجديدة، في طبعتين اثنتين، آخرها كان سنة 2009م، وقد جعل الدكتور محمد رياض الجزء الأول من بابيْن: باب تمهيدي، عرّف فيه بعصر الشيخ أبي شعيب الدكالي وموطنه الأصلي، وضمن هذا الباب مباحث أربعة: خص أولها للتعريف بالسلاطين الخمسة الذين عاصرهم الشيخ وهم (المولى الحسن الأول، والمولى عبد العزيز، والمولى عبد الحفيظ، والمولى يوسف، والسلطان محمد الخامس). وخص مبحثه الثاني للتعريف بـالموطن الأصلي للشيخ، حيث عرّف بقبائل (دكالة) ومدارسها، وزوَايَاها، وفصّل في الحديث عن دوْرِها في الجهاد والتربية والصلاح، ثم عرّف ببلد الشيخ وحياته ومراحل تعليمه وشيوخه ورحلاته في طلب العلم بالمغرب، والتحاقه بالأزهر الشريف طالبا ثم مدرّسا، ثم أدرج قصة التحاقه بالحجاز  في المبحث الثالث، حيث تحدث عن رحلة الشيخ العلمية في الحرمين الشريفين، وتصدّيه لتدريس عدد من العلوم والفنون، ليتخرج على يديه تلامذة كثر  من جنسيات مختلفة، تعقّب الدكتور رياض أسماء بعضهم وترجم عددا منهم. وضمن المبحث الرابع والأخير تحدث عن قصة عودته إلى المغرب بطلب من المولى عبد الحفيظ، وما لقيه من حفاوة وتكريم، حيث سيلمع نجم الشيخ تدريجيا إلى أن تقلد منصب وزارة العدل زمن السلطان المولى يوسف، مبينا ما خوّله له هذا المنصب من فرص على مستوى الريادة في التدريس والمشاركة في الإصلاح.

أما الفصل الثاني بمباحثه الثلاثة، فقد خصها الكاتب لجهود الشيخ في العلم والإصلاح والوطنية، مفصلا في العلوم التي درّسها كتفسير القرآن، وعلم القراءات، وعلم الحديث ومصطلحه، والسيرة النبوية، والفقه، وعلوم النحو واللغة، معززا ذلك بشهادات تلامذة الشيخ الذين حضروا دروسه أخذوا عنه. أما جهوده الإصلاحية والوطنية فخص لها المبحث الثالث من هذا الفصل، ليختم الجزء الأول من الكتاب بالحديث عن وفاة شيخ الإسلام أبي شعيب الدكالي وما رافق هذا الحدث من صدى داخل الوطن وخارجه.

أما الجزء الثاني، فهو عبارة عن ملاحق، وجعله من أبواب ثلاثة،الباب الأول: للتعريف بآثار الشيخ المكتوبة، وهي عبارة عن محاضرات وخطب ووثائق بخط يده، وفتاواه وأسانيده الحديثية، فضلا عن عدد من الإجازات والأحكام القضائية وتقاريظ لبعض الكتب. أما الباب الثالث فخصه للقصائد التي قيلت في الشيخ، بعضها في حياته والأخرى بعد وفاته (المراثي). أما الباب الأخير، ففيه جرد لتلاميذ الشيخ حسب مدنهم. ثم خاتمة الكتاب، فملاحق تضمنت مشاركات متعلقة بترجمة الشيخ وبعض صوره التي التقطت له في مناسبات مختلفة.

على سبيل الختم

هذا الكتاب بجزأيْه ترجمة وافية لشيخ الإسلام أبي شعيب الدكالي الصديقي، ورصد ثرّ لعصره، وتعريف نادر بقبيلته دكالة، وتلامذته بالداخل والخارج، وقد بذل فيه الكاتب محمد رياض جهدا مقدرا لم يتسن لغيره – حسب ما أعلم– نظرا لكونه ابن القبيلة (دكالة) وعلاقته بأبناء وأحفاد الشيخ، ولخروجه في الكتابة عنه كما قال: “من قيود الرسميات ونيل الشهادات لأكتب حرا طليقا، ناشدا عين الحق والإنصاف”[1].

إن شخصية في قدر  شخصية أبي شعيب الدكالي تحتاج إلى أعمال أخرى ترصد المزيد من جوانب عبقرية هذا العلَم الفذ من زوايا أخرى غير مطروقة، ففي تنوع تكوينها، وغنى عطائها، ما يغري للاستزادة من البحث والتنقيب، وقد أنصف المؤرخ عبد السلام بن سودة حين قال: “وكل ما وصف به، فالرجل فوق ذلك، ولا يومن به إلا من شاهده، فهو مفخرة من مفاخر المغرب، وترجمته واسعة تستحق مجلدا”[2].

المراجع
[1]  مقدمة الكتاب ص 15.
[2]  عبد السلام بن سودة، سل النصال للنضال بالأشياخ وأهل الكمال، ص 82.