بين يدي التقديم

العلماء ورثة الأنبياء، ائتمنهم الله تعالى على دعوته بعد الرسل، ليكونوا على ثغر الدين وشريعته، يعلّمون من جَهِل، ويرشدون من ضلّ، ويقوّمون من انحرف، أثنى الله عز وجل عليهم في محكم التنزيل، فأنزلهم منزلة رفيعة، حين قال: “شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ وَالْمَلَائِكَةُ وَأُولُو الْعِلْمِ قَائِمًا بِالْقِسْطِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ” [آل عمران: ….] وحين قال:”إنَّما يخشى الله من عباده العلماء” [فاطر:28].

ثم إن العلماء على منازل ودرجات، ولعل أرقاهم منزلة وأرفعهم درجة أولئك الذين جمعوا العلم مع العمل، فحرصوا على التحلّي بمنظومة من القيم تؤطر رسالتهم وحركتهم داخل المجتمع. إذا حدثوا أو درّسوا أو أفتوا كانوا على صلة بواقع الناس،قريبين من معيشهم اليومي، مطلعين على أحوالهم، متفهمين ظروف عيشهم، يدلون إلى الخير، ويرشدون إلى الهداية.

ونحسب أن الفقيه العلامة الدكتور مصطفى بنحمزة أحد هؤلاء، يشهد بذلك أثره العلمي، وعمله الاجتماعي، وقربه من الناس، إنه عالم عامل مشارك، بصم الساحة العلمية بفهمه النيّر، وحضوره اللافت، وعطائه المتنوّع، نخصص له هذه الحلقة، ونعرف بأحد أشهر مؤلفاته.

تقديم الكاتب

العلامة الفقيه الدكتور مصطفى بنحمزة، من مواليد وجدة 17 يوليوز 1949، أحد أبرز تلامذة العلامة الفقيه المربي سيدي بنسعيد مهداوي الواشاني، وهو عمدته، أخذ عنه علوما وفنونا وآدابا كثيرة. مزدوج التكوين شرعي / لغوي / أدبي، حصل على شهادة الإجازة من كلية الشريعة بفاس، وشهادة الإجازة في الأدب العربي من كلية الآداب والعلوم الإنسانية بفاس، حصل على دبلوم الدراسات العليا من كلية الآداب، جامعة محمد الخامس بالرباط: تخصص اللغة العربية في موضوع: “دراسة لنظرية العامل عند ابن مضاء القرطبي”، حصل على دكتوراه الدولة من جامعة محمد الأول بوجدة في موضوع “الحلية فيما لكل فعل من تصريف وبنية لابن عنترة” تحقيق ودراسة. اشتغل مبكرا في مجال الدعوة وتدريس العلوم الشرعية والفتوى، أحد مؤسسي شعبة الدراسات الإسلامية ومدرسيها الأوائل، درس بكلية الآداب والعلوم الإنسانية جامعة محمد الخامس بالرباط، وكلية الآداب والعلوم الإنسانية جامعة محمد الأول بوجدة. ترأس المجلس العلمي بوجدة، والمجلس العلمي الجهوي بالشرق، وأشرف على إدارة معهد البعث الإسلامي للعلوم الشرعية بوجدة، واختير لعضوية المجلس العلمي الأعلى بالمغرب.

اشتهر بنحمزة بحضوره الفاعل على أكثر من واجهة، فعلى المستوى الاجتماعي يعتبر أحد رموزه الفاعلين محليا وجهويا ووطنيا، وعلى المستوى العلمي والدعوي اشتهر بحضور وازن على مدى عقود بدروسه الراتبة بمساجد وجدة وخاصة مسجد حمزة بن عبد المطلب، ومسجد الأمة، فضلا عن التدريس بمعهد البعث للعلوم الشرعية وشعبة الدراسات بجامعة محمد الأول بمدينة وجدة. نشر عددا من البحوث الشرعية وحرر فتاوى في عدد من القضايا المستجدة بالقناة الأولى المغربية وموقع إسلام أون لاين. وبرز كأحد أقوى الفاعلين المؤثرين في اللجنة العلمية لمدارسة قانون مدونة الأسرة بالمغرب عقب ما يسمى “الخطة الوطنية لإدماج المرأة في التنمية”، وكان مدافعا شرسا في انتقاداته للتيار المدافع عن التحرر النسوي، معارضا بشدة لكل تغيير لا يحترم الضوابط الشرعية في مجال الأسرة والأحوال الشخصية.

ألقى الأستاذ بنحمزة ثلاثة دروس حسنية رمضانية أمام العاهل المغربي محمد السادس (1421 و 1423 و1427 هـ)، كما تم توشيحه بأوسمة ملكية تقديرية على مدى سنوات، كان آخرها سنة 2007.

من مؤلفاته:

  • حقوق المعوقين في الإسلام (1993)،
  • نظرة في العوامل التي أسست روح العداء عند الغربيين نحو الإسلام (1996)،
  • الأسس الثقافية لمنع تطبيق الشريعة: المساواة نموذجا (2001)،
  • معطيات حول ظاهرة التنصير (2002)، منشورات المجلس العلمي – وجدة 2002.
  • نظرية العامل في النحو العربي: دراسة تأصيلية وتركيبية، مطبعة النجاح الجديدة-الدار البيضاء الطبعة الأولى 1425- 2004. ·
  • مقدمة من أجل تأصيل التسامح بين المسلمين – جامعة الصحوة الإسلامية الدورة الثالثة- منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية 1414 – 1994.
  • تحقيق كتاب الحلية فيما لكل فعل من تصريف وبنية لابن عنترة – أطروحة دكتوراه سنة 2000.
  • الخطيب وواقع الأمة – مكتبة الطالب – وجدة 2001.
  • الحضور الإسلامي في مجال التربية – مكتبة الطالب – وجدة 2001.
  • كرامة المرأة من خلال خصوصياتها التشريعية – مكتبة الطالب – وجدة 2002. ·
  • تأملات في سورة الفجر – كتاب المحجة- فاس 1423 – 2002.
  • المساواة في البعدين الوضعي والشرعي – مكتبة الطالب – وجدة 2003.
  • شخصية الفقه المالكي – فهم عميق للكتاب والسنة وحماية لعقيدة الأمة. مكتبة الطالب 2004.

فضلا عن مجموعة من البحوث والدراسات المنشورة في مجلات وصحف مغربية وأجنبية ومئات الأشرطة السمعية.

تقديم الكتاب

صدر كتاب “الوجيز في تفسير آي الكتاب العزيز” من الحزب السادس والعشرين إلى الحزب الثلاثين، في 423 صفحة من القطع المتوسط عن دار النشر الأمان بالرباط. وهو تفسير يشرح صاحبه سياق تأليفه بقوله: “نشأت لدي فكرة كتابة تفسير إعلامي مركز يتناول في البدء إيضاح مضامين خمسة أحزاب من القرآن الكريم لمّا سعت وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية بالمغرب إلى تسجيل تفسير صوتي للقرآن الكريم، فعرضت ذلك على من توسّمت فيهم الاستجابة لمشروعها العلمي، وشاء الله أن أكون من بينهم، فكان ذلك فضلا ونعمة من الله عليّ لم أكن أمتلك أمامها إلا أن أستجيب”[1]. وقد أوضح أن تفسير الوجيز هذا يستهدف أجيالا ” تكونت لديهم ثقافة جديدة استوعبوها من خلال تعاملهم مع واقع ثقافي جديد” فكان لا بد من تفسير “تحكمه شروط إعلامية تحرص على أداء الفكرة التي تمثل جوهر النص وعموده وروحه، وتنآى بالزج بالمتلقي في ثقل الملل والسآمة”. ثم إن وضوح الرؤيا ساهمت في هذا الإيجاز الفريد ليلبي حاجة واقعية، إذ الناس “ليسوا في سعة من أمرهم ولا هم متروكون لشأنهم، لأن التيارات الثقافية والمذاهب الفكرية والديانات السماوية والنحل الوضعية تتنازعهم وتتزاحم على استقطابهم، وتبذل في ذلك نشاطا استثنائيا وتعرض نفسها عليهم في تمثلات مغرية جذابة”. وكان من وضوح هذه الرؤيا أيضا، أن صاحب “الوجيز” استحضر أنه وجب النظر إلى القرآن على أنه “مصدر استقاء معرفي، واستمداد قيمي، وتوجيه سلوكي، لكي تتمكن الأمة من مواصلة إنتاج نموذج إنساني مقتنع بكل التصورات والمفاهيم الإسلامية، ومشحون بكل القيم الأخلاقية التي صاغ الإسلام منها شخصية الأمة وخصوصيتها الحضارية”[2]. وعلى ضوء هذه الرؤيا حرر الأستاذ بنحمزة وجيزه هذا، مراعيا الارتباط الوثيق مع المعيش اليومي للناس، إذ لا يلبث أن يفتح نوافذ على واقعهم، فيعرض قضاياهم وانشغالاتهم وهمومهم على مضامين الآيات المفسرة، فيعيد من خلالها بناء المفاهيم والأفكار وإعادة تركيبها في انسجام مع العقيدة السليمة والقيم الهادفة، التي تمكّن المسلم المعني بالخطاب القرآني من أن يعيش حياة سوية، دونما انبهار أو خضوع أو تبعية لما يقصف به يوميا من منتوج غربي مخالف لهويته وقيمه.

ولا يخفى على القارئ اللبيب شغف الأستاذ بنحمزة باللغة والحقول الدلالية للألفاظ، فتكوينه الرصين في العلوم اللغوية مكّنه من نهج أسلوب فريد في التعامل مع الكلمات المفاتيح في الأثمان المفسرة، إذ يقف عند دلالاتها، وربما بنيتها الصرفية، ومعناها المعجمي ثم السياقي، كل ذلك مع استحضار القضايا الرئيسية للثمن، والتذكير بالخيط الناظم بين القضايا السابقة وأحيانا اللاحقة، وخاصة ما كان له صلة بمجال العقيدة.

أما عبق التاريخ، سواء منه ما تعلّق بالأمم السابقة أو الأمة الإسلامية، فيتم التعامل معه بمنهج يقوم على حسن الاستثمار وعرضها على الواقع المعيش بأسلوب ينبئ بسعة الاطلاع، والمواكبة اليومية لمستجدات واقع الناس، إنه مسكون بهذا الواقع، لصيق بتفاعلاته شأنه في ذلك شأن العلماء العاملين، الذين يخالطون الناس ويعيشون همومهم، ويتقاسمون معهم انشغالاتهم.

على سبيل الختم

إن “الوجيز في تفسير آي الكتاب العزيز” يخبر برحلة مباركة بدأها الأستاذ مصطفى بنحمزة مع التفسير، بالمسجد الجامع بالمدينة العتيقة، فمسجد حمزة بن عبد المطلب، ثم مسجد الأمة الذي لا زال يلقي فيه دروس التفسير إلى يومنا هذا. ولأنني حضرت بعض هذه الدروس على مدى أكثر من ثلاثة عقود، فإنني أؤكد أن دروس التفسير في المسجد هي على نفس المنوال الذي أعدّ به الأستاذ بنحمزة كتابه “الوجيز” مع ما يقتضيه الإلقاء من ارتجال وإطناب ولغة تناسب القام.

ولعل قِسْما عظيما من هذه الدروس ما زال مسجلا على الأقراص، يحتاج إلى همم الشباب من طلبة الأستاذ ومحبيه، من أجل توضيبها والعمل على تحويلها من مسموع إلى مقروء، مع ما تحتاجه هذه العملية من صبر وأناة ومراجعة وتنقيح، لكن فائدتها ستكون جمة دون شك. ترى، هل تجد هذه الصيْحة صدى؟ لننتظر.

المراجع
[1] مصطفى بنحمزة: الوجيز في تفسير آي الكتاب العزيز، دار النشر الأمان بالرباط - ط 1 / ......... ص 5.
[2] أنظر مقدمة الكتاب من ص 5 إلى ص 8.