بين يدي التقديم

عقيدة التوحيد هي أصل الأصول، ودعوة الأنبياء جميعا، هي مبتدأ كل دعواتهم ومختتمها، وبالتبع، كان درس العقيدة وما يزال وسيبقى أجلّ العلوم وأفضلها باتفاق أهل العلم، كيف لا وموضوعه هو التعريف بالله تعالى ذاتا وصفات وأفعالا. ومما يشهد على عناية المسلمين بهذا الدرس: اهتمام كبار علماء الأمة به، والكمّ الهائل من المصنفات الذي تزخر به المكتبة العربية والإسلامية عبر العصور مطبوعا ومخطوطا، مفصلا ومختصرا، منظوما ومحررا.

وها هي أصول هذا الدرس وفروعه ومسائله ما تزال -إلى اليوم- مادّة أساسية في عدد من المعاهد والجامعات، وإن كان الأمر في بعده البيداغوجي يحتاج إلى نقاش ليس هنا موضعه. وتهمنا الإشارة هنا إلى تجدد الاهتمام بهذا الدرس في عصرنا الحاضر، حيث أصبح بفضل بعض الأعلام، درسا مثمرا معرفيا وإيمانيا وتربويا بعد أن كان منحصرا في مجال الاختلاف والجدال النظري الكلامي.

ولعل من أبرز الأسماء التي ضخت دماء جديدة في هذا الدرس، وأعطته رونقا وجلالا وجمالا ومعنى متجددا وحياة، الأستاذ العلامة الشيخ مولاي المصطفى البحياوي حفظه الله، فقد استطاع بما حباه الله تعالى من قدرة فائقة على صوغ التعابير وسبكها، وغزارة المحفوظ وقوة الاستحضار، أن يحبّب هذا الدرس إلى قلوب طلبة العلم، وأن ينقلهم من دهشة صارفة، إلى إقبال منقطع النظير.

تعريف بصاحب الروض

الشيخ العلامة مولاي المصطفى البحياوي، الإدريسي الحسني نسبا، المراكشي مولدا ونشأة، الطنجي دارا وقرارا. من مواليد 1954م، نشأ وترعرع في بيت علم، كان والده مولاي أحمد إمام وخطيب مسجد أبي عمرو القسطلي بمراكش، وهو عمدته في حفظ القرآن برواية ورش وقالون، فضلا عن مبادئ علوم العربية والفقه والتفسير. وقد اشتهر مولاي المصطفى منذ صغره بالذكاء والفطنة ممّا أهّله لمجالسة كبار علماء مراكش ممن كانوا يترددون على بيت والده، ويأخذ عنهم ويستفيد من دروسهم ومناظراتهم. ومن هؤلاء: الفقيه مولاي أحمد الكنتاوي، والشيخ المقرئ محمد بن إسماعيل، والشيخ أسميج الضرير، والعلامة الفاروقي الرحالي، والعلامة عبد السلام المسفيوي، والشيخ أحمد أملاح، والشيخ الحاج الهاشمي السرغيني، والشيخ عبد العزيز الزمراني وغيرهم كثير.

تخرج من مدرسة المعلمين، ثم المركز الجهوي للدراسات اللغوية والأدبية بمراكش، وبعد سنوات من مزاولة التدريس، التحق بالمعهد الوطني لتكوين المفتشين، ليتم تعيينه – بعد التخرج – مفتشا على جهة الشمال ومشرفا على التعليم الأصيل واللغة العربية. فاختار مدينة طنجة دارا وقرارا. وما تزال عامرة بعطائه إلى يوم الناس هذا.

كان حفظه الله حيثما حلّ وارتحل، بدءا بـ “أكلموس” بجبال الأطلس، مرورا بواد زم وخريبكة وطنجة وشفشاون وتطوان، يجمع بنجاح فائق بين عمله الوظيفي، وتدريس العلوم والقراءات والدعوة والإفتاء.

درّس مولاي المصطفى البحياوي فنونا وعلوما منها: التفسير والحديث والعقيدة والسيرة النبوية والشمائل المحمدية والتاريخ والسلوك والأصول واللغة والقراءات والدراسات القرآنية، ونفع الله به داخل المغرب وخارجه، إذ تخرج على يديه أفواج من الحفظة والأئمة وطلبة العلم.

يخطب مولاي المصطفى الجمعة إلى يومنا هذا بمسجد الإمام الشاطبي بطنجة، ويدير بها معهدا للقرآن الكريم وعلومه، وهو أستاذ كرسي الإمام ابن عطية في التفسير الذي تبثه قناة محمد السادس للقرآن الكريم، وأستاذ بمعهد محمد السادس للقراءات والدراسات القرآنية بالرباط.

تقديم الكتاب

صدر الكتاب في سفر واحد عن منشورات البشير بنعطية بفاس في 368 صفحة، سنة 2021م، في إخراج أنيق بديع، ضمن سلسلة (أمالي الإمام البحياوي) التي يعدّها ويقدمها الحاج محمد قاسمي السجلماسي. وخصص ربع محتوى الكتاب لتقديمه، وللتعريف بصاحبه مولاي المصطفى البحياوي، ولعل السر في ذلك، أن هذا الإصدار هو الأول في هذه السلسلة، وقد أجاد معدّه وأفاد في تحرير هذا الفصل الخاص بالتعريف بصاحب الكتاب وأثره العلمي والدعوي والتربوي.

وضمّ هذا الفصل مطالب كثيرة لامست سيرة صاحب روض الإلهيات (اسمه ونسبه ونشأته – بعض شيوخه – سيرة ومسار – شهادات في حقه) وعرفت بأثره العلمي والدعوي والتربوي (درس العقيدة – درس التفسير – درس القراءات – درس الحديث – درس السيرة – درس الأصول – درس التزكية – نهجه في خطبة الجمعة – مكانة العلم عنده من خلال سيرته).

أما باقي الفصول فأحد عشر فصلا:

  • أولها: للتعريف بروض الإلهيات والمنهج المعتمد في تنزيله من خطاب مسموع إلى كتاب مطبوع، مع تبيين السبب في الاقتصار على الفصل التمهيدي ومقطع الحمد. وفيه مباحث: 1- في التعريف بروض الإلهيات 2 – أهم المسائل والقضايا التي شكلت محور الاهتمام على امتداد دروس روض الإلهيات 3 – المنهج المعتمد في تنزيل نص روض الإلهيات 4 – ذكر السبب في الاقتصار على الفصل التمهيدي ومقطع الحمد من روض الإلهيات.

وبعد نوافذ عدّة خصصها لإطلالة جامعة على روض الإلهيات، جاءت باقي الفصول تحت العناوين التالية:

  • فصل في ذكر المنهج المعتمد في دراسة موضوعات روض الإلهيات وفيه مسألتان، الأولى: المصدر الأساس في علم الاعتقاد هو القرآن الكريم. والثانية: في بيان أن مباحث العقيدة كلها إلهية.
  • فصل في بيان المبادئ العشرة لعلم الاعتقاد، وفيه مسائل وفوائد.
  • فصل في بيان موضوع الدراسة ووجه تسميتها بـ “روض الإلهيات” ومعيار اختيارها: وفيه أربع مسائل وفائدة في أن ذكر الآخرة يثمر دوام التعلق بالله.
  • فصل في بيان بعض ما يختص به اسم الجلالة: “الله” جل جلاله، وفيه مقطع ومدخل ومسألتان.
  • فصل في ذكر بعض جوانب العظمة في فاتحة الكتاب وفيه أربع مسائل.
  • فصل في بيان بعض ما يتصل بالعقائد الإلهية في طالعة سورة الحمد البهية، وفيه ثلاث مسائل وفائدتان.
  • فصل في بيان ما يتعلق باشتقاق الاسم الكريم “الله” جل جلاله وبيان معانيه وخصوصياته، وفيه ثلاث مسائل.
  • فصل في بيان حيثيات الحمد في فاتحة الكتاب، مع بيان صفة الوجود العلي وأدلته، وفيه ثلاث مسائل، وفوائد في بيان سبل التعرف إلى ربوبية الله للعالمين.
  • فصل في بيان بعض صور المثاني في فاتحة الكتاب، وفيه ثلاث مسائل.
  • فصل في بيان دلالة ” إياك نعبد وإياك نستعين” على أن الحمد المطلوب منا يتحد بالعبادة، وفيه ثلاث مسائل وفوائد في بيان أن التسبيح بالحمد معرفة، والسجود انقياد وإذعان.
  • فصل على مشارف الختم وفيه ست مسائل.

وفي الفصول جميعها علم عزير، وتحتاج مادتها إلى تركيز ومدارسة وحسن استيعاب، لما فيها من درر وفوائد جمّة، تصلح لتكون مادة للنقاش في مجالس راتبة بين طلبة العلم، إذ قدمت درس العقيدة بطريقة بيداغوجية، وأسلوب بليغ، ولغة رصينة.

على سبيل الختم

إن كتاب “روض الإلهيات” عنوان جديد شائق، لمبحث عتيد فائق. روض مشوق معشوق. روض رائق النسبة، سابق الرتبة. روض تؤم مقاطعه المختارة التعريف بجناب الله العلي جل جلاله في باب الكمال والجمال والجلال. روض بين يديه مقطع الحمد الأجلّ، الذي صُدّر به الوحي المنزل. روض قطب أقطاب مباحثه هو الإله جل في علاه، وهو جذرها وأساسها[1].

وإن عرض عناوين فصول الكتاب على هذا المنوال، إنما اقتضته منهجية التقديم التي اخترناها وقدّمنا بها كتبا سابقة؛ وهو لا يعدو أن يكون صورة “بانورامية” لما تضمنه هذا السِّفر النافع من مباحث عقدية في تنظيم ممنهج دقيق متناغم، تفضي فصوله بعضها إلى بعض، وتشد مباحثها بعضها البعض. لكن وبكل تأكيد، فإن هذا التقديم لا يغني عن قراءة هذه المباحث، لأن في قراءتها والاطلاع عليها نصيبا وافرا من شهي الفوائد ونخبها، خاصة أن اللغة التي كتبت بها هذه المباحث لا تكاد تجدها في مباحث مماثلة، فيها من الجزالة والامتاع والإقناع ما يدل على علو كعب صاحبها عمّره الله بالعافية وحرسه بعينه التي لا تنام. آمين.

المراجع
[1]  المصطفى البحياوي، روض الإلهيات: ص 8 – 9 بتصرف.