مقدمة

تعتبر قبائل “صنهاجة” من أهم المجموعات البشرية الأمازيغية المشكلة لساكنة منطقة شمال إفريقيا، إلى جانب المجموعتين الأخريين؛ مصمودة وزناتة. وبحسب النسابين والمؤرخين المهتمين بأنساب المجموعات البشرية الأمازيغية تلك، فإن قبائل صنهاجة أو صناكة أو زناكة (إزناكن)، تنتمي إلى جماعة البرانس، إلى جانب أخواتها مصمودة وأوريغة (هوارة) وأوربة وازداجة وعجيسة، إضافة إلى هسكورة وجزولة ولمطة[1]. ورغم شهرة هذه النسبة والتقسيم الثنائي للأمازيغ إلى بتر وبرانس، فإن الأمر لا يحظى بالإجماع بين المهتمين بالأنساب، الأمر الذي يضعف الثقة في تلك التقسيمات والتفريعات المتفرعة عنها. خصوصا أن بعض تلك الفروع تنسب للبتر تارة وللبرانس تارة أخرى، بل منهم ما يحاول أن يجد لنفسه نسبا عربيا رغم ثبوت أمازيغيته، وهو حال قبائل صنهاجة التي حاول النسابة العرب وبعض نسابي صنهاجة أنسهم نسبة القبائل إلى حمير العربية باليمن.

معنى إسم صنهاجة” أو “إزناكن”

وعلى عادة الباحثين حول تاريخ المغرب ومنطقة شمال إفريقيا، فإن هناك أيضا اختلافا بينا بين هؤلاء حول معنى  إسم أو كلمة “صنهاجة”. ورغم هذه الإختلافات حول دلالة الإسم فإن الجميع متفق على أن الكلمة من أصول أمازيغية وتم تعريبها. فنجد ابن خلدون يعتبرهم “من ولد صنهاج وهو صناك بالصاد المشمة بالزاي والكاف القريبة من الجيم. إلا أن العرب عربته وزادت فيه الهاء بين النون والألف فصار صنهاج، وهو عند نسابة العرب من بطون البرانس”[2].

أما المؤرخ علي صدق أزايكو، فيرى أن إسم “صنهاجة” أو “إزناكن”، يبدو أنه لا يحيل على نسب معين، بل يحيل على خاصية وطابع يغلب على نشاطهم. ويقترح في هذا الباب فرضيتين. الأولى؛ تؤكد أن مفرد إزناكن Izênagen هو أزناك  azênag، وهي كلمة أمازيغية مركبة من مقطعين: ehen=azn  والتي تعني “خيمة الجلد” ومن egen التي تعني المغيرون أو الذين يشنون الغارات. وإذا تم دمج المقطعين نحصل على كلمة إزناكن (ezên + egen – ezênegen – izênagen)، والتي تعني حسب أزايكو خيام الأشخاص الذين يغيرون أو يداهمون، وهذا النوع من النشاط شائع جدا بين البدو في الصحراء[3]. أما الفرضية الثانية فتقوم على اعتبار كلمة مفرد إزناكن Izênagen كلمة أمازيغية مركبة أيضا من مقطعين: مقطع: azn الذي يعني بعث وإيفاد، ومقطع egen الذي يعني تجمع لقوات غير نظامية من أجل القيام بغارة بغرض النهب. وبهذا تعني الكلمة “الذين يقومون بالغارات الحربية بغرض السلب[4].

أما مولاي التقي العلوي فيعتبر أن كلمة صنهاجة أو إصنهاجن هي الصيغة المعربة للفظة “صناكة” أو “إصناكن” الأمازيغية. وحتى تكون تلك اللفظة ملائمة لألسنة العرب، “نطقوا بالحرف البربري صادا محضا أو زايا خالصة، مع أن نطق ذلك الحرف ينبغي أن يكون بينهما. ونطقوا بالكاف المعقودة جيما ثم أقحموا بين النون المشددة والمد الطويل هاء فصارت صنهاجة”[5].

مناطق الإنتشار وأنماط العيش

يطلق عادة لفظ صنهاجة لدى المؤرخين والنسابين على مجموعات واسعة من سكان شمال إفريقيا، وفي مناطق تمتد من حوض النيجر جنوبا إلى البحر الأبيض المتوسط شمال، ومن المحيط الأطلسي إلى غدامس بطرابس الغرب (ليبيا)، فهم حسب ابن خلدون “من أوفر قبائل البربر، وهو أكثر أهل الغرب لهذا العهد وما بعده لا يكاد قطر من أقطاره يخلو من بطن من بطونهم في جبل أو بسيط، حتى لقد زعم كثير من الناس أنهم الثلث من أمم البربر[6]. وهذا الانتشار الكبير على مستوى جغرافية المنطقة وكذا كثرة بطونهم وفروعهم، بحيث يرفع بعضهم عدد المجموعات القبلية التي تنتسب إلى صنهاجة إلى سبعين قبيلة، وقد جعل ذلك بعض الباحثين يشكون في رجوع كل هذا الحشد من المجموعات البشرية إلى أصل حقيقي واحد، ودليلهم على ذلك اختلاف الألسنة والبيئة السكنية وأساليب المعيشة التي تمارس عند الجميع. فصنهاجة الشمال بكورة طنجة وأزمور وحوض ورغة (الريف الأوسط) يتسم نمط عيشهم منذ القدم بالإقامة والإستقرار والأخذ بأساليب الحضارة، بينما صنهاجة الرمال وصنهاجة الجبال الأطلسية هم من البدو الرحل المعروفين بالرحالة الكبار[7].

وعلى العموم فيمكن تصنيف صنهاجة حسب نمط عيشها إلى فئتين كبيرتين:

  • الأولى: صنهاجة الرمال أو صنهاجة اللثام: يقضون حياتهم في الترحال ولا يعرفون طريقا للإستقرار، لا يعرفون فلاحة ولا فاكهة. يقتاتون باللحوم والألبان. يقضي الواحد منهم حياته كلها دون أن يتذوق خبزا ولا ما يماثله. والتي كانت تعيش في المناطق الصحراوية المجاورة للسودان الغربي أو يسمى بصحراء الملثمين والتي يحدها المحيط الأطلسي غربا وتادمكة من الجنوب الشرقي وتوات من الشمال الشرقي، والسوس الأقصى ووادي درعة شمالا ونهرا السينيغال والنيجر جنوبا. أما أكبر قبائلهم فهي كَدالة ولمتونة ومسوفة، بالإضافة إلى بني وارث ولمطة وتاركة (ترغة) وكزولة[8]. وإلى المجموعة الأخيرة ينتمي القائد الروحي والزعيم الأول للمرابطين عبد الله بن ياسين، الذي ووحد فصائلهم  وبطونهم وجمع شملهم.

وهناك فئة قريبة من صنهاجة الرمال أو صنهاجة اللثام، وهي فئة تعيش حياة وسطى بين الإستقرار والترحال، فرحلتهم قصيرة، وبيوتهم ثابتة ومتحركة، وهذه الفئة هم صنهاجة الجبال (الأطلسين الكبير والمتوسط) والواحات (درعة وسجلماسة)، وقد كان تفصلهم عن إخوانهم صنهاجة اللثام قبائل زناتة الذين زحفوا على واحات سجلماسة ودرعة والحواشي الجنوبية للأطلس الكبير إلى أن جاء عبد الله بن ياسين (ق 5ه/11م) وفك عنهم حصار المغراويين الزناتيين[9]، وأصبحوا الآن ينتشرون بفعل حركيتهم الدائمة على الأراضي التي تمتد من جبل صاغرو جنوبا، إلى سهول سبو وأبواب الرباط شمالا[10].

وبفضل الحركية التي عرفتها هذه القبائل في اتجاه الشمال أيام الدولة المرابطية، فقد استقرت فروع عدة منهم في مناطق مختلفة من المغرب بالريف والشاوية ودكالة وعبدة وفي سوس.

  • الثانية: صنهاجة الشمال أو صنهاجة البحر الأبيض المتوسط وما يقاربه، وهي التجمعات التي تسكن في مجموعات قارة وبيوت ثابتة، وحياتها تتميز بالإستقرار والإقامة الدائمة، والأخذ بأساليب الحضارة وما يتبعها من فلاحة وتجارة وصناعة[11]. وقد كانت تعيش هذه التجمعات الصنهاجية في المنطقة التي تمتد من مضيق تازة وحوض ورغة جنوبا إلى شواطئ البحر الأبيض المتوسط شمالا، ومن المرتفعات التي تقع جنوب مليلية المحتلة شرقا إلى ضفاف المحيط الأطلسي غربا. وتبقى أصول هذه المجموعة غير واضحة لقدم استقرارها في المنطقة، كما لا يوجد هناك ما يدل على أي ارتباط بينها وبين صنهاجة الصحراء والواحات والجبال. فصنهاجة الشمال مباينة لصنهاجة الجنوب سواء كان ذلك في الأخلاق والعادات ونمط العيش، مما يعني أن العلاقة بين التكتلين الصنهاجيين هي علاقة حزبية ولفية وحدتها المصالح المشتركة والدفاع عن النفس، وهي بذلك فليست عبارة عن تجمعات عرقية وسلالية ترجع كلها إلى أصل أو جد مشترك[12].

أمجاد صنهاجة/إزناكن

بالنظر إلى الإنتشار الواسع لقبائل صنهاجة على طول خريطة الشمال الإفريقي، فإنهم تمكنوا خلال فترات عدة من تاريخ المنطقة من تأسيس كيانات سياسية بعض كان مستقل وبعضها كان تابعا لكيانات سياسية أخرى، خصوصا في الفترة الإسلامية. وتعتبر مملكة أوداغشت (بموريتانيا الحالية) أول تنظيم سياسي تبلور فيه تحالف قبائل صنهاجة الصحراء بزعامة قبيلة لمتونة خلال القرن الثاني ه/الثامن م، والتي أسسها تلاكَاكَين اللمتوني، وقد استمرت هذه المملكة إلى بدايات القرن 4ه/10م، فتشتت شمل صنهاجة اللثام مرة أخرى. وقد استمروا في ذلك إلى أن تكتلوا من جديد خلال العقد الثالث من القرن الخامس الهجري /القرن 11م حول زعيمهم محمد بن تيفاوت اللمتوني[13].

وتبقى أهم لحظة تاريخية تم فيها توحيد الصنهاجيين توحيدا حقيقيا وأصيلا،  وتكتلت فيه شعوبهم على نطاق شامل، وأسسسوا فيها لنهضة كبرى، هي الفترة التي استقدم فيها خليفة وصهر محمد بن تيفاوت يحي بن إبراهيم الكدالي عبد الله بن ياسين الكزولي (من الأطلس الصغير) “فهو الذي نفخ فيهم من روحه الدينية، وتعهد نبتتهم التي غرسها بيده وسقاها بتعاليمه القيمة وتربيته الصارمة”[14]. وبذلك يعتبر عبد الله بن ياسين الجزولي أول من تمكن من توحيد جميع قبائل وبطون صنهاجة الصحراء وتأسيس حركة المرابطين، وفيما بعد تأسيس الدولة المرابطية الممتدة الأطراف؛ من السودان الغربي جنوبا والأندلس شمالا إلى المغرب الأوسط شرقا.

المراجع
[1]  العلوي مولاي التقي، أصول المغاربة، إعداد وإخراج علال ركوك وحفيظة الهاني، منشورات المعهد الجامعي للبحث العلمي، الرباط، 2016، ص 50.
[2] ابن خلدون عبد الرحمان، كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ون عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر، المجلد6، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، ط1، 1981، بيروت، مرجع سابق، ص 201.
[3]Azaykou Ali Sidqi, Histoire du Maroc ou les interprétations possible, Publication du Centre Tarik Ibn Zyad, 2008,Rabat, p16
[4] Azaykou Ali Sidqi, Histoire du Maroc ou les interprétations possible, Ibid, p16-17.
[5] العلوي مولاي التقين، أصول المغاربة، مرجع سابق، ص 54-55.
[6] ابن خلدون عبد الرحمان، كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر في أيام العرب والعجم والبربر ون عاصرهم من ذوي السلطان الأكبر، مرجع سابق، ص 201.
[7] العلوي مولاي التقي، أصول المغاربة، مرجع سابق، ص 55-56.
[8] محمد حاجي، معلمة المغرب، ج 16، منشورات الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر، 2002، ص 5563-5564.
[9] العلوي مولاي التقي، أصول المغاربة، مرجع سابق، ص 61.
[10] العلوي مولاي التقي، أصول المغاربة، مرجع سابق، ص 64.
[11] العلوي مولاي التقي، أصول المغاربة، مرجع سابق، ص 57.
[12] العلوي مولاي التقي، أصول المغاربة، مرجع سابق، ص 119-120.
[13] محمد حاجي، معلمة المغرب، مرجع سابق، ص 5564-5565.
[14] العلوي مولاي التقي، أصول المغاربة، مرجع سابق، ص 60.