مقدمة

وَهَبنا الروائي البارع المرحوم (محمد أنقار 1946 – 2018) نصَّا يَنبض تاريخًا وثقافةً وحيويةً، ويفيض جمالا وبلاغةً، ويَجمَعُ بين لباقة الكلمة وقساوة الواقع المعيش، مرتفِعا عن ألفاظ دروب البارْيو وبذاءات صِبيته، تتجمَّع بين دَفَّتيه حقيقة الوقائع والواقع وتدَفُّقات الخيال والإبداع، عنونه بـــ “باريو مالقة”[1].

أكبر من مجرَّد “رواية”

هذا العمل الأدبي الجميل مدوَّنة لتاريخ الهامش، تاريخ البسطاء والمهمَّشين وأصاغِر القوم، يرتقي لمصاف الكتب التاريخية التي اختصت بالميكرو تاريخ، على غرار مصنفات الإمام الرهوني والعلّامة محمد داود[2] والأديب ابن تاويت والمختار السوسي وابن زيدان[3] وأبو القاسم الزياني والمؤلَّفَ السِّـيَـرِي للتّـهامي الوزاني.[4]

إننا إزاء عالَــمٍ صغير اسمه (باريو مالقه)، تدور أحداث الرواية في العَشر سنوات الأخيرة من عُمر الحماية الإسپانية. المدة تمتد إلى الوراء كلما تقدَّمنا في قراءة الحوار الذي طالما جمع بين الفقيه الصنهاجي والإسكافي عبد الله في جلساتهما المسائية وهما يَستحضران الماضي العريق للحارة ولحاضرة تطوان، ويَسترجعان فصولا من حياة الوليّ الجليل سيدي طلحة الدرّيج[5] والعالم الصالح أبو الحسن علي بركة المعروف اليوم لدى الساكنة بـ”سيدي عْلِي بَركة”. وتُــمتِّعنا الرواية بأحداث مَعيشة شيقة تُغطي 67 فصْلا.

مَن مرّ بحي الباريو _ كما تُحبُّ العامة اليوم تَسْميته اختصاراً _، أو توطَّــنَه أو نزل به ثم ارتحل عنه، أو رَبطَته علاقات بقاطنيه؛ فإنه لا شكّ سيجد نفسَه في هذه الرواية الماتعة، ماضيها أشبه بحاضرها، إذ لا تتغير الحارة إلا بطيئا، وأسماء الأعلام والأماكن والأزقة تفرض نفسها آتية من زمن الحماية فما قَبله.

تسْرَح الرواية بأحداثها وأبطالها (المَديني، الشريف، نور الدين، سلّام، محمد العربي، الخَضِر، الصُّردي، طامو، الصنهاجي، خديجة، قدّور الريفي، عويشة، خوانيطّا، ماري كارْمن، ومِيرثِيديس، الغالية، زينب، مصطفى..) في مساحة جغرافية تمتدّ من ضريح سيدي طلحة إلى جامع مزواق، وتتَّـسع باتِّساع حركة الفاعلين في الرواية، إلى خارج باب العُقلة التاريخي، فالمدينة العتيقة، مرورا بحومة سينما إسپانيول، عروجا على مدرسة السيدة پيلار _ التي ما تزال قائمة إلى اليوم قُبالة كوميسارية عين خبّاز _، نزولا إلى حيّ لوّاضة أو أَغواضة، فالحيّ المدرسي _ الذي دشّنه الملك محمد الخامس في أول زيارة له إلى تطوان يوم 9 أبريل 1956 _، فالوادي الكبير أسفل المحنّش، صُعُدا إلى ما وراء سيدي البَهْلولي، التي كنّا نَنطقها صِغارا “سيدي البَهْروري”!، وكم عشِقنا دُنُوَّ فصل الربيع للتوجه جماعاتٍ إلى الطبيعة الخلابة والمجال الرّحيب لسيدي البهلولي، نصطاد العقارب ونُجمِّعها في القَناني ونَمْخَضُها مَخْضا إلى أن تقترب من حافة الموت. وقد ثارني كَون هذه العادة قد زاولها أطفال الرواية بنفس الإخراج، غير أنهم كانوا يحرِقون ما يتجمّع لديهم من عقارب، بينما كنا نحن نحقنها بمادة مُخدِّرة ونحتفظ بها في قارورات زجاجية ريثما نعرضها في درس الطبيعيات بالمدرسة!

التأريخ لحي الباريو؛ حارة الإسبان ومُلتقى ساكنة تطوان

إنَّك كقارئٍ وقاطن بحيّ باريو مالقه؛ تُرافق الأبطال البسطاء، الفقراء، من ساكني براريك مْريبْطو وأرْض مُصْطفى وبَراريك الحمّام وعَقبة شَاطَة وغرسة الورِيقة، وعلى ما بينك كقارئ وزمَنِهم؛ فإنك تخطو خطْوَهُم أنَّـى صَعدوا أو نَزلوا، لأنّ الأماكن كلها في الباريو تحمل إلى اليوم أسامي الماضي. ما عدا التغيير الذي طرأ على الشوارع وبعض الأزقة حيث أخَذت أساميها العربية بعد أنْ باشر المجلس البلدي المغربي الأمور بعد الاستقلال.

إنّ هذا الحي الأثير الذي عُرف لدى التّطوانيين بضاحية سيدي طلحة، سيصير بدء من 1930 يحمل اسم باريو، عندما أقدم رجل أعمال إسپاني على بناء مُجمّع سكني وكنيسة في قلب حي سيدي طلحة حَمل اسم “باريو وكنيسية سان أنطونيو”، وما نزال نمرّ اليوم على المجمّع، فنلج المسجد المسمى سيدي طلحة أو مسجد غْلِيسيا _ولا أدري كيف استساغ الناس جَمْع اسمين مُقدَّسين على مكان عبادة واحد هو اليوم في حكم المسجد الإسلامي! _، ونغادره عبر شارع عبد الكريم الخطابي الذي كان يحمل اسم “مـحجّ ڨــارِيلّا”. وشوارع أخرى كــــ(أونِيصِيمو رِضُونضو، الخِنِراليسمُو، فرانكو، لونيطا، إِسْكالِيناطا..)، فيما حَمَل ملعب ترابيٌّ معروف اسم (إنْخِنْـيِـيُروسْ)، ولطالما نظّمنا فيه حصص كرة القدم، كانت آخرها موسم 2016، ومن ثَمَّ؛ شملت تسمية باريو مالقة كل الحارة، وصارت معروفة بهذا الاسم.

نَرى ونلمس مراتع صبانا ونحن نتابع مغامرات سلّام وشلّة طُرّيطا، وكثيرا ما تزاحمنا على صنبورَي هاته السقاية لملء “بالوناتنا الهوائية” بالماء كي نرشق بها بعضنا، والمارِّين في الطريق العام. هاته الساحة التي كانت مَجْمع صِبية الباريو، قريبا من حانة خايْمي، ومصطبّة السوسي ودكان الإسكافي ودرب المطيلي الشّهير. وعلى يَسارهم ينتصب حيّ الكاريان، وتمتد طريق سمسمة كالأفعى التائهة، وفي ما وراء براريكهم؛ درب ماروخا وعقبة شاطة فجبل درسة.

يَستحضر الكاتب تاريخ أشهَرِ مدارس الحارة؛ ابتدائية سيدي أحمد الزّواق، التي درسنا بها ست سنوات، والعائدة بتاريخ ميلادها إلى سنة 1953، والحاملة اسم العالِم والقاضي البارز والرجل المقرَّب من الخليفة السلطاني؛ سيدي أحمد الطاهر الزواقي (1860-1952). ولَكَم استوعَبَت هاته المؤسَّسة العريقة من شرائح مجتمعية مختلفة الانتماء الجغرافي والثقافي، ووفّرت لهم محاضِن التعايش والتواصل، وخرّجت متميزين ونابغات ومجتهدين.. وفيها ترعرعت آمال وأحلام صبية الباريو، الحالمين في الانتقال إلى المعهد الإسلامي أو ثانوية القاضي عياض لاحقا، أو في أكاديمية لاإِسْپِـرانْـــثا الحُرّة.

ومنذ أنْ توافَدَ الإسپان بكثافة على الحارة جنْـبا إلى جنب مع الريفيين والغماريين وبعض المهاجرين من مْجاطة وسراغنة ورحامنة وفيلالة والهَبط ودكالة والقصر الكبير وأحواز تطوان أواخر الأربعينات؛ ازدهرت الحارة ورأى فيها الاستعمار جَنّة العاصمة تطوان، وفضاء مفتوحا للشمس والريح مُشبَعا بالسِّيمات المتوسطية. فأقبلوا على بناء دكاكين تجارية، ومستودع الماء، ومستشفى عسكري، ومجموعة پالينيو السكنية التي نطلق عليها حاليا اسم “ديور المخزن”، ونادِي للتزحلق وآخر للملاكمة، وصيدلية كْريسير، ومطبعة كْريماديس، ومخبزة، وكُشكَيْنِ لبيع المجلات والجرائد الأجنبية، ومعمل الحلوى، وبَنوا عمارة كاصَارُّوصْ، وأوصلوا إلى مَدار طُرّيطا _ بمحاذاة مخبزة العياشي حاليا _طْرولي كهربائي عِوض حافلات خوان ريكو التي كانت تجوب الحارة في العشرينات والثلاثينات.

يَعزف الكاتب على وتري الحساس؛ حين حديثه عن سينما ڨـــيكتوريا، رمز الباريو الثقافي الصلب، بتفاصيل مثيرة وعجيبة، تأخذ بالألباب كأنني وكثير من أبناء جيلنا أعيشها لقطة بلقطة. من ذلك؛ أنّ سينما ڨـــيكتوريا كانت تَعرض كل صباح أحد ابتداء من التاسعة صبيحة مخصصة للأطفال الذين لم يتجاوزوا العاشرة من عمرهم، ثمن تذكرة الدخول وَقتها بسِّيطة واحدة، وأنَّ صِبية الحي بل وحتى مراهقي المدينة كانوا يتحلّقون حول السبورة الشهيرة حين عَرْضها صورا لأفلام مُبَرمَجة للعرض؛ مكسيكية وإيطالية وإسپانية وأمريكية أحيانا، تستهويهم، تنقلهم من عوالم الباريو الواقعية إلى عوالم الغرام والأبطال الخارقين والمَعالم الطبيعية والجمال النِّسوي الجذّاب.

لقد أدْركنا هذا الحال؛ وعشنا لحظات جميلة نتجاذب أطراف الحديث مع أصدقاء الحي في سنيِّ التمدرس الإعدادي، حول ملصقات الأفلام الهندية، والأمريكية والفرنسية، وننتظر بفارغ الصبر توفُّر الدراهم الكافية لمشاهدة العروض في يومها الموعود. في الطابق السفلي والعلوي للسينما الأثيرة، تعرفتُ _بإعجاب _على معظم أفلام شاه روخان، وأمير خان وسيف علي خان وكارينا كاپور وهيرتيك روشان وچوڨــيندا ومادهوري داكسيت الفنانة البارعة، وأكشاي كومار وسلمان خان وسُونيل شوطي وأنطونيو بانديراس وهوبكنس وواشنطن وجون طْراڨــولطا وجوني ديپ وجوليا روبرت وسيلڨـــيستر ستالون وجاكي شان وغيرهم، طيلة أعوام لغاية سنة الباكلوريا، وتكاد تفاصيل الازدحام لحجز التذكرة، وسيماء حارس البوابة ومَشاهِد العَربدة عند انسدال الستار، والكلمات النابية عند دخولك دقائق بعد انطلاق العرض، واْلتهام الزريعة والكاوكاو أثناء مشاهدة الأفلام؛ تتشابه إلى حدِّ التطابق مع خمسينات القرن العشرين حيث تدور أحداث الرواية.

وقد كانت ثمة قاعات أخرى للسينما بتطوان؛ كـ (أڨــينيدا ومونُومِنطال وإسپانيول وباهِيّا وناسيونال المعروف بالمسرح الوطني، ومِيسون والمنصور الواقعة أسفل باب العقلة) أُغلِقت معظمها بعد الاستقلال، ما خلا ڨــيكتوريا الشامخة وإسپانيول الفاتنة وأڨـــينيدا الأنيقة ومونومنطال المتواضِعة.

أحوال المجتمع ومَعيشهم اليومي؛ إسبانيين وتطوانيين

عرّفتنا الرواية على الجانب الاجتماعي والمعيشي لمختلف فئات الباريو وساكنة المدينة _ ما خلا ساكني المدينة العتيقة _، فمِن الغجريين الإسبان مَن كان مصدر رزقه بيع الأثواب والأواني، أو الجولان في الدروب وشاطئ مرتيل لبيع التفاح المُغلَّف بالحلوى الحمراء وحلوى pilulin de la Habana، ومنهم من كان يَرعى الجديان والخِراف على قراريط لأهل حي الطرانكات وباب التوت، ومنهم من يصنع المكانس القصبية ويشحذ السكاكين، وهي أحوال تتقاطع مع حياة الضّنك والصمود والكفاح التي كان عليها أغلب ساكني براريك الباريو، وصبيان الحارة، بين الاشتغال لساعات طويلة في معمل الإسمنت أو الحلوى، وقضاء الساعات في خدمات منزلية لأثرياء الأسپان من قاطني الحارة والمدينة، أو ببيع الأثاث القديم والنبش في مطارح الزبالة؛ وأشهرُهما مزبلة كاصَارُّوس وخردة ماريـپُـوصا، أو جمْع قِطع النحاس والأسلاك وحرقها واستخلاصها وبيعها _ وقد كنا نفعل ذلك بدورنا ونبيعه في الغرسة الكبيرة أو حومة العيون لنوفِّر مؤونة دخول السينما أو مشاهدة مباراة في مقهى شعبي _، فيما كان آخَرون يمتهنون بيع السّمك أو بيع التّين الشَّوكي في فصل الصيف.

لـم يكن من شيء ينغّص حياة هذه الفئات المكافِحة والقرويين باعة الخضر والفواكه واللَّبن والبَـيْـض البلدي القادمين من طريق سمسة والنقّاطة وصدّينة غير ذاك الجابي الظالم الملقَّب بـعبد القادر مُول الوْرِيقة؛ الذي يَأخذ ضريبة الطريق لفائدة المجلس البلدي مقدارها بسّيطة لكل فلاح وبائع وتاجر يمر من سمسة إلى بلاصة الباريو فالمدينة، صباحاً. ما عدا في الصباحات الشتوية العاصفة، إذ تنقطع الحركة في باريو مالقه وينعدم المارّة.

ومن المظاهر الاجتماعية والثقافية لباريو عصر الحماية؛ إقدام الإقامة العامة الإسپانية على إحياء الاحتفالات الرسمية بيوم 18 يوليوز[6] من كل سَنة في الساحة الواسعة غرب سوق حي مجموعة فرانكو، في جوٍّ من الرقص وشرب الخمر وعزف الأغاني وانتخاب ملِكة جمال باريو مالقة. ويُتابع الحفلَ الشبانُ والأطفالُ المغاربة، والنصارى، وحشود من ساكني المدينة، ويرافقون الموكب الختامي وهو يسير في طريق ڨــاريلا، نزولا عند سور المستشفى العسكري، ويُشيِّـعــونَه هناك.

نصٌّ حيٌّ متجدِّد

إنّ هذا العمل الأدبي الماتع، المُصاغ بلغة سهلة ممتِعة، قريبة من  السياقات النفسية والاجتماعية والأصول الثقافية لساكني باريو مالَقَهْ؛ يَفتح للمُعاصرين نافذة الإطلال على ماضي الحارة، وغِنى تَعَدُّد ررافدها الثقافية، وقِيم قاطنيها، ومسلكيات الانحراف والمُعاكسات والتناقضات التي يعيشها الفرد بين مقاومة الوجود الأجنبي والاستيلاب الحضاري والثقافي نحوه، وتَكشف لنا عن طبيعة حوارات جارات البراريك، وصعوبة تربية الأبناء والبنات، ونَكَد الفقر وهشاشة فقراء الإسپان الذين كانت تَعُولهم كنيسة سان أنطونيو صباح كل أحد بكمية من الطعام ومِقدار من المال.

ونتتبّع في النص الأدبي العلاقات الغرامية لـ (سلّام) و(المديني) و(محمد العربي)، وحَمْل (خديجة) خارج إطار الزواج، واستقامة (مصطفى) الأمّي الذي لا يعرف الكتاب ولا الإيمان، وشهوة (عمر) المِزواج..، وتَـنَمُّر الفتيان ضد (إدريس) ذي المواهب الفنية والغنائية، وفصولا مِن تعنُّت الفتيات الإسپانيات وتمنُّعهنّ دون الوقوع في غرام “المُورو التّطواني”، وقضاء ساعات البطالة بتغييب العقل في تدخين سجائر الشِّيسْطير وإِلِغَـنْـطي الرخيصة في مقهى عْماريطّو أو مقهى الرِّطِـيرو.. وطرائق المغادرة الصامتة للإسپان فجرا وليلا نحو الجزيرة الخضراء وإسپانيا، بعد الاستقلال، وتَحَوُّل مصائر فتية الباريو أصدقاء سويحة طرّيطة، الذين ألْـقت الأقدار ببعضهم خارج أرض الوطن، وببعضهم في مناصب عمل مهمة، وبعضهم في مواجع فشل علاقات الحبّ مع الگاوريات!.

المراجع
[1] أنقار محمد، باريو مالقا، رواية، المركز الثقافي العربي، الطبعة الثانية.
[2] داود محمد، مختصر تاريخ تطوان، منشورات معهد مولاي الحسن، تطوان، مطبعة المهدية، الطبعة الأولى 1953.
[3] ابن زيدان عبد الرحمن، إتـحاف أعلام الناس بجمال أخبار حاضرة مكناس، تحقيق الدكتور علي عمر، مكتبة الثقافة الدينية، الطبعة الأولى 2008.
[4]  الوزاني التهامي، الزاوية، منشورات مكتبة بيت الحكمة، تطوان، تقديم الدكتور عبد العزيز السعود، الطبعة الأولى 2020.
[5] التاريخ الوطني لمدينة سبتة والدور الريادي لأعلام تطوان؛ سيدي طلحة الدريج نموذجا، مجموعة مؤلِّفين، منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، الطبعة الأولى 2018.
[6] أنقار محمد، باريو مالقه، مرجع سابق.