مقدمة

تأسست إمارة بنو مدرار بسجلماسة في سياق تاريخي كان عنوانه الأبرز انطلاق شرارة ثورة الخوارج الصفرية بزعامة ميسرة المطغري، الذي بادر بإعلان ثورته بطنجة ضد الولاة الأموييين على المغرب بإقليميه طنجة وسوس، وخاصة في إقليم طنجة الذي كان على رأسه الوالي الأموي عمر بن عبد الله المرادي الذي “أساء السيرة وتعدى في الصدقات والعشر وأراد أن يخمس البربر وزعم أنهم فيء للمسلمين، وذلك ما يرتكبه عامل قبله، وإنما كان الولاة يخمسون من لم يؤمن ولم يجب للإسلام”،[1] وقد كان هذا الوالي أول ضحايا ثورة ميسرة المطغري حيث قام بقتل عمر المرادي، ثم سار إلى سوس وقتل عاملها أيضا إسماعيل بن عبيد الله. وقد أعلن ميسرة ثورته باسم مذهب الخوارج الصفرية، فاجتمعت قبائل المغرب كافة على بيعته بالخلافة سنة 122ه/739م وخوطب بأمير المؤمنين.[2] وقد أعقب هذه المرحلة الثورية مرحلة تأسيس مجموعة من الكيانات السياسية؛ كإمارة بني صالح النفزية بنكور، وإمارة بني طريف المصموية بتامسنا (برغواطة)، وإمارة بني مدرار المكناسية بسجلماسة، وكذا الإمارة الإدريسية، وغيرها من الإمارات الأقل شأنا ونفوذا. يشار إلى أن هذه الإمارة عرفت بتسميات أخرى غير بني مدرار، كإمارة سجلماسة وإمارة بني واسول.

تأسيس دولة بني مدرار

ارتبط تأسيس إمارة بني مدرار المكناسية بشخصية أبي القاسم سَمْكُو بن واسول المكناسي الذي اشتهر في قبيلة مكناسة (زناتة) بلقب مدرار. وقد كان والده عبد الله من أصحاب طارق بن زياد الذين رافقوه في فتح الأندلس. وقد ارتحل سمكو إلى المدينة فالتقى بالتابعين كما حضر في القيروان دروس الداعية الخارجي عكرمة البربري حيث تعمق في أصول المذهب الصفري (مذهب خارجي) وصار من رجال ثورة ميسرة المطغري الذي ثار على ولات بنو أمية في المغرب وسياساتهم.[3]

وفي سنة 140ه/757م، وعلى إثر اجتماع زعماء الخوارج مع سمكو بن واسول والذي تمخض عنه اقتطاع منطقة سجلماسة من نفوذ الأغالبة ولاة العباسيين في القيروان، تمت مبايعة عيسى بن يزيد الأسود إماما (140-155ه/757-771م)، ثم شرعوا في بناء مدينة سجلماسة. ثم انضمت إليهم قبائل مكناسة المنتشرة بنواحي سجلماسة، ثم تبعتهم بطون زناتة وقوم عيسى بن يزيد الأسود. وهكذا ولدت دولة بني مدرار. وفي سنة 155ه/771م، وبسبب بعض الخلافات الداخلية أجمع أهل الحل والعقد في الدولة (زعماء قبيلة مكناسة) على قتل عيسى بن يزيد الأسود وإسناد شؤون الإمارة لسمكو بن واسول (155-168ه/771-784م).[4]

فترة التوسع والإزدهار

وفي سنة 168ه/784م بويع ابنه إلياس بن أبي القاسم الملقب بأبي الوزير فاستمر في على رأس الإمارة إلى سنة 174ه/790م، ثم جاء بعده خلفه اليسع الملقب بأبي المنصور (174-208ه/790-823م)، وذلك بعد حسم هذا الأخير للصراع الذي نشب بينه وبين أخيه إلياس. وفي عهد اليسع توسعت رقعة إمارة بني مدرار حيث توسعت حدودها في اتجاه منطقة درعة وتمت السيطرة على معادنها. كما وضع هذا الأمير يده على مناجم النحاس بتيحمامين الواقعة بالجنوب الغربي من مدينة سجلماسة، كما أحكم سيطرته على المسالك التجارية عبر منطقة مسوفة في اتجاه مصادر الذهب والرقيق ببلاد السودان الغربي، وبذلك تحولت سجلماسة والإمارة المدرارية إلى مركز يتحكم في مختلف المسالك التجارية سواء المتجهة نحو شمال وغرب المغرب والبحر الأبيض المتوسط والأندلس، أو في اتجاه  إلى القيروان (المغرب الأدنى) عبر تيهرت (المغرب الأوسط). كما أصبحت بذلك تتحكم في تدفق البضائع والسلع على شبكة الطرق التجارية التي تربط المغرب ببلاد السودان وإفريقية والأندلس. ونتيجة لذلك ازدهرت سجلماسة وتوسع عمرانها واستقطبت أفواجا مهمة من المهاجرين الأندلسيين ومن الشام ومن مناطق أخرى من المغرب الأقصى، كما ازدهرت وتكاثرت على طول المجاري المائية وحول العيون مزارع الحبوب والقطن وبساتين النخل والأعناب وحقول الخضر، مستفيدة من موقعها بين نهرين متفرعين عن واد زيز.[5] كما كانت المدينة بمثابة “دار سكة” للمغرب خلال فترات زمنية طويلة ابتداء من فترة حكم الإمارة المدرارية الصفرية (القرن 2ه/8م) واستمرت إلى أواخر الدولة المرينية وبعدها (القرن 9ه/15م)[6].

وقد انعكس الإزهار الإقتصادي الذي عرفته سجلماسة على المجتمع المدراري، فساكنة مدينة سجلماسة أغنياء يباينون ساكنة باقي مناطق المغرب في المخبر والمنظر كما قال ابن حوقل، أما البكري، فيذكر أن الذهب عندهم جزافي يتبايعونه بلا وزن. ومن مظاهر الرقي الإجتماعي عندهم كثرة الحمامات، وظهور أصناف راقية من الأطعمة التي كانت الخادمات “الزنجيات” يتفنن في صنعها.[7] ومظاهر الازدهار هاته أكدها أيضا الحسن الوزان، الذي ذكر أن سجلماسة كانت “مدينة متحضرة جدا، دورها جميلة، وسكانها أثرياء بسبب تجارتهم مع السودان. وكان فيها مساجد جميلة، ومدارس ذات سقايات عديدة يجلب ماؤها من النهر، تأخذه الناعورات من واد زيز وتقذف به في قنوات تحمله إلى المدينة”.[8]

وفي مقابل ذلك، فقد كانت هناك أيضا فئات اجتماعية أخرى كانت تئن تحت وطأة البؤس والفاقة، وخصوصا جيوش الرقيق التي يستوردها التجار من السودان للخدمات الفلاحية والمنزلية أو لخفر القوافل التجارية وكذلك للعمل في المناجم.[9]

فترة الضعف والأفول

وفي عهد الأمير مدرار بن اليسع الملقب بالمنتصر (208-253ه/823-867م)، دخلت إمارة بني مدرا مرحلة التوترات والإضطرابات السياسية والخلافات المذهبية بين الخوارج الصفرية والخوارج الإباضية. وقد جاءت هذه الإضطرابات نتيجة الصراع على الحكم بين ابني مدرار بن اليسع ميمون بن بقية (تقية) وميمون بن أروى (الرستمية)، وقد نشب هذه الصراع في حياة أبيهما الذي لم يخف ميله إلى ميمون ابن الرستمية وتنازل له عن الحكم، ولكن الصراع حسم لصالح ميمون بن بقية بفضل دعم شيوخ مكناسة، بالنظر إلى كون أمه مدرارية مكناسية، في حين كانت أم ميمون ابن أروى رستمية (من بني رستم الإباضيين). ثم استقرت الأوضاع مع مجيء الأمير اليسع بن ميمون (270-297ه/883-909م)،[10] بعد وفاة أخيه محمد بن ميمون، الذي حكم لمدة سبع سنوات من سنة وفاة والده ميمون بن تقية، أي من سنة 263ه إلى 270ه/876م-883م.

وبوفاة محمد بن ميمون وتولي أخيه اليسع بن ميمون الحكم دخلت الإمارة المدرارية في فترة الخضوع لتدخلات الدولة الفاطمية الشيعية. فبسبب موقعها وازدهارها وغناها فقد كانت سجلماسة أول هدف للفاطميين، فبمجرد إعلان خلافتهم بادر أبو عبد الله الشيعي سنة 296ه/908م بمهاجمتها وقتل أميرها وتحرير إمامهم عبيد الله المهدي ومبايعته، وقد كان مسجونا في سجلماسة خلال فترة اليسع بن ميمون، بل وألحقوا المنطقة بخلافتهم وعينوا ابراهيم بن غالب المزاتي واليا لهم عليها[11]، لكن بنو مدرار اغتالوه، وعوضوه بأمير من سلالتهم وهو الأمير الفتح بن ميمون (298ه-300ه/910م-912م)، والذي كان إباضي المذهب عكس أسلافه الصفريين[12]. ولم تتوقف حملاتهم بعدئذ عن احتلال وقتل أمرائها وتفكيك نظمها السياسية، وفي الأخير اهتدوا إلى حل وسط بقبول استمرار بني واسول على رأس الإمارة مقابل الحفاظ على مصالحهم الجبائية[13]. فقد أمر عبيد المهدي الفاطمي واليه على تيهرت مصالة بن حبوس بالتوجه نحو سجلماسة فاقتحمها واحتلها وقتل أميرها سنة 309ه/921م أحمد بن ميمون، وعينوا عليها عدة ولاة من بني مدرار.

وفي خضم هذا الصراع، وفي وضع تحول فيه أمراء الإمارة المدرارية إلى صنائع بيد الفاطميين، تحرك الأمير المدراري محمد بن الفتح بن ميمون الملقب بالشاكر لله (332-347ه/943-958م) لوضع حد لهذه الحالة فقام إلى إبطال دعوة الفاطميين ونبذ المذهب الصفري وانحاز إلى مذهب أهل السنة والجماعة (المذهب المالكي) فتسمى بأمير المؤمنين سنة 336ه/947م، وضرب العملة باسمه، وسماها بالشاكرية. إلا أن الفاطميون قاموا بإجهاض هذا التحول باحتلالهم المدينة من جديد.[14]

كما كانت الإمارة هدفا لأمويي الأندلس، فعمدوا إلى احتلالها على يد حليفهم خزرون بن فلفول المغراوي سنة 366ه/976م الذي تمكن من القضاء على أمراء بني مدرار.

المراجع
[1] ابن عذاري المراكشي، البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب، ج1، بيروت، 1983، ص 52.
[2] القبلي محمد (إشراف وتقديم)، تاريخ المغرب تحيين وتركيب، منشورات المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب، الرباط، ط1، 2011، ص 150.
[3] القبلي محمد (إشراف وتقديم)، تاريخ المغرب تحيين وتركيب، ص 155.
[4] القبلي محمد (إشراف وتقديم)، تاريخ المغرب تحيين وتركيب، ص 155-156.
[5] القبلي محمد (إشراف وتقديم)، تاريخ المغرب تحيين وتركيب، ص 156.
[6] مزواضي عمر، مدينة سجلماسة.. عاصمة الذهب ودار سكة المغرب، منصة معلمة، على الرابط: https://bit.ly/416Ji5G.
[7] رضوان مبارك، معلمة المغرب، ج5، منشورات الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر ومطابع سلا، 1992، ص 1560.
[8] الحسن الوزان، وصف إفريقيا، ترجمة محمد حجي ومحمد الأخضر، ج2، دار الغرب الإسلامي، بيروت، ط2، 1983، ص 127.
[9] رضوان مبارك، معلمة المغرب، مرجع سابق، ص 1560.
[10] رضوان مبارك، معلمة المغرب، مرجع سابق، ص 1559.
[11] ابن عذاري المراكشي، البيان المغرب في أخبار الأندلس والمغرب، ج1، بيروت، 1983، ص 206.
[12] ابن خلدون عبد الرحمن، كتاب العبر وديوان المبتدأ والخبر...، ج 6، بيروت، 1986 ص 270.
[13] رضوان مبارك، معلمة المغرب، مرجع سابق، ص 1559.
[14] القبلي محمد (إشراف وتقديم)، تاريخ المغرب تحيين وتركيب، ص 157.