بين يدي التقديم

كانت الأسرة وما تزال وستبقى واحدة من مؤسسات التنشئة الاجتماعية والإنتاج الحضاري التي راهنت عليها الأمم عبر التاريخ من أجل ضمان بقاء الجنس البشري واستمرار نوعه، ولا توجد مؤسسة في تاريخ النحل والملل والحضارات، حظيت بمثل ما حظيت به هذه المؤسسة، وذلك لكونها أهم وحدة فى النظام الاجتماعى، مهما اختلف حجمها، وتنوّعت بنيتها، ممتدة كانت أو مركّبة أو نواة، لأن الجميع على وعي تام بأهميتها، ما لم يمس الفطرةَ الإنسانيةَ تشوّهٌ أو مسخ.

وقد أسال الاهتمام بالأسرة والعناية بها وبشروط حمايتها والعمل على استمراريتها مدادا كثيرا، فجميع الديانات والحضارات والمدارس الفلسفية لها في قضية الأسرة رؤية وتصور ووجهة نظر. ولم يشذ الإسلام عن هذه القاعدة، إذ يمكن القول بأن تراث المسلمين فيه من الغنى الممتد في الزمان والمكان ما يكفي من التشريعات والأحكام والقوانين والأنظمة لبناء كيان أسرة متماسكة، مسؤولة.

وها هو الإنسان المعاصر  يعاني اليوم، أكثر من أي وقت مضى محنا ومتاعب شتى، مسّت كيانه النفسي والاجتماعي والثقافي والقيمي… بسبب (التشوّه السريالي) الذي مسّ مفهوم الأسرة، وحاد بها عمّا هو متعارف عليه منذ أن اكتمل وعي الإنسان بأهمية هذه النواة، وفهم أنها رهان بقاء عنصره، ودوام قيمه السامية، وسلامة كيان اجتماعه وتجمعه.

تقديم الكتاب

وكتاب “الأسرة في التصور القرآني” من الحجم الصغير، عدد صفحاته 208 صفحة، صدر  سنة 2015م ضمن منشورات “مركز الدراسات الأسرية والبحث في القيم والقانون” بدعم من “مؤسسة عبد الله عبد الغني للتواصل الحضاري”، عن مطبعة النجاح الجديدة بالدار البيضاء، وقد حاز هذا الكتاب الجائزة الأولى للمركز عن سنة 2013م .

وانطلاقا من عتبة العنوان، نفهم أن الكاتبة اختارت معالجة قضية الأسرة انطلاقا من “التصور القرآني” لا ” التصور الإسلامي”، إذ يستوقفنا مصطلحان اثنان: الأول (الأسرة) وهي المؤسسة الاجتماعية محط الدرس والمعالجة،  والثاني (التصور القرآني) ويقصد به الإطار المرجعي الناظم لبناء هذه المؤسسة. وبذلك تكون الكاتبة قد حددت موضوع البحث ووجهته، مجلّية هذا الاختيار  في مقدمة الكتاب بقولها: “ولما كان الغرض في هذا البحث التصور الكلي (القرآن) لا الحديث الفقهي الفروعي (السنة) لم أعمد إلى السنة أصالة، وإن كانت هناك مواطن لا تنجلي دون النظر الحصيف والبيان القويم في سنة النبي الكريم صلى الله عليه وسلم”[1]. وفي انتصار واضح لهذا الاختيار  تشير إلى أن ” كتاب الله تعالى هو المؤسس للتصورات، والموجه للمناهج، والمجلي للغايات، فهو حاكم على كل فهم أو معرفة تدعي وصلا بالإسلام”[2].

الكتاب من أربعة فصول:

  • الفصل الأول: المصطلحات القرآنية في موضوع الأسرة، وفيه أربعة مباحث: تناولت في الأول التحديد المعجمي والتحديد الاصطلاحي. وفي الثاني، ناقشت مفهوم الزوجية في القرآن. وفي الثالث، أوردت مفاهيم تنتمي لحقل الأسرة فذكرت: مفهوم الأهل والذرية والميثاق الغليظ واللباس، لتخلص إلى أن مفاهيم الأسرة ترتكز على المسألة العلائقية، وأن زاوية النظر إلى أطرافها تتمّ من خلال النظر إلى موقعه في الخلية الأسرية. أما المبحث الرابع، فطرحت فيه إشكالا ما زال محط اهتمام الدارسين والباحثين، والمتمثل في السؤال: هل الأسرة في القرآن نووية أم ممتدة؟ لتنتهي إلى أن ” القرآن الكريم” لا يفرض نمطا معينا للأسرةّ نووية كانت أو ممتدة” وإنما يحرص على بيان الحدود والقيم التي تؤطر العلاقات الناتجة عن الزواج المشروع، الأمر الذي يجعل العلاقات مركبة ومتشابكة، تتداخل فيها العلاقة الزوجية بعلاقة المصاهرة والنسب…”[3]
  • الفصل الثاني: مقاصد الأسرة في القرآن، وفيه مبحثان، الأول: المقاصد الكلية، وتحدثت فيه عن مقصدي العبادة والعمران. أما المبحث الثاني: المقاصد الجزئية، فأوردت فيه خمسة مقاصد وهي: حفظ النسل، حفظ النسب، الإحصان والعفاف، السكن والاستقرار، التعارف. وكان لها مع كل مقصد وقفات معززة بآي كتاب الله الكريم.
  • الفصل الثالث: الفضاء الأخلاقي للأسرة: وهو في نظري أغنى الفصول وأكملها، وفيه توقفت عند عدد من الأخلاق ذات الصلة بالأسرة، منها: أخلاق الزوجية، أخلاق البنوة، أخلاق الأبوة، أخلاق الأخوة، أخلاق القرابة، وتحت كل نوع من هذه الأخلاق عناوين فرعية وتفاصيل دقيقة مفيدة جدا.
  • الفصل الرابع: الوظائف الأساسية في القرآن، وفيه تساءلت الكاتبة عن طبيعة الأدوار  بين الزوجين، هل هي تكاملية أم تفاضلية؟ ثم تحدثت عن نوعين من الوظائف: وظائف مشتركة: – الولاية – الرعاية – التربية. ووظائف خاصة بالرجل، وأخرى خاصة بالمرأة.

على سبيل الختم

لقد أبانت الكاتبة جميلة تلوت عن مقدرة عالية في اسنباط عدد من المفاهيم، ونحت مصطلحات ذات الصلة بالأسرة انطلاقا من الذكر الحكيم، وتتبّعت بدقة تفاصيل مكونات الأسرة بدءا بالزوجية، مرورا بالأبوة والذرية، وانتهاء بالقرابة. وخلصت إلى أن مفهوم الزوجية “مركزي في الحقل القرآني، وهو مبني أساسا على وحدة الأصل واختلاف الجنس”. وبذلك يكون هذا البحث إضافة نوعية في مجال الدراسات الأسرية من منظور قرآني صرف، ولعل الباحثة تكمل ما بدأته، فتشتغل بنفس الحرفية على مفهوم الأسرة في السنة المشرفة لتكتمل الغاية، وتعم الفائدة.

المراجع
[1] جميلة تلوت، الأسرة في التصور القرآني، ص 9.
[2] جميلة تلوت، الأسرة في التصور القرآني، مرجع سابق، ص 8.
[3]  جميلة تلوت، الأسرة في التصور القرآني، مرجع سابق، ص 64