مقدمة

مُنذُ عهد السلطان الحسن الأوّل (1873م–1894م) ومحاولات الإصلاح تتوالى ناصِبةً العَزم على درْء التهديدات الخارجية والارتخاء الدّاخلي وأزمة النظام التقليدي بمستوييه، البنيوي، أي طبيعة النظام الاجتماعي والاقتصادي والسياسي، والذهني، أي منسوب الوعي بالذّات وقصورِها وردود الفعِل تُجاه كابوس التفوق الأوربي، خاصة لَـمَّا وَجد المغرب نَفسَه وحيداً في مواجَهة كبار أوربّا، ومحاطاً بجوارٍ مغاربِي مُـستَعْمَر، ووافِدةً عليه بشكل قسري إملاءات إصلاحية تُهدِّد عمقه التاريخي والإستراتيجي ومكوّناته الوطنية وهويته الدينية، عندها حاول رَمز السلطة إدخال إصلاحات شمِلت مختلف الميادين، كالإدارة والجيش والاقتصاد وإصلاح نظام الأمَناء وإنفاذ البِعثات الـعِلمية إلى أوربا وأمريكا وتركيا ومصر؛ إلا أنَّ صلابة التخلف على المستوى الداخلي وتنامي مظاهِر الفساد وانعدام الفعّالية الحضارية وغياب مطالِب تَحتية للإصلاح، واختلال التوازن بين ضِفّتَي الـمتوسِّط وتنامي النزعة الإمبريالية لكثير من الـدُّول الـمشارِكة في مؤتمر مدريد (1880م)؛ حالَت دون سَرَيان مفعول سلسلة الإصلاحات الحسَنية، كما كان لانتقال المغرب في المرحلة الدقيقة بين وفاة السلطان وتولِّي المولى عبد العزيز الـحُكم أثرٌ سلبي بيِّنٌ في دخول البلاد طور إصلاحٍ محكوم بمنطق الضغط الخارجي الـمتصاعِد _ الذي يجد أصوله في متوالِية التدخلات والخسائر الرهيبة في واقِعة إيسلي 1844م، ومعاهدة 1856م، وحرب تطوان 1859م– 1860م، ووِفْــق بيكلار 1863م، ومقررات مؤتمر مدريد 1880 م_ والحاجة للانفتاح على الغرب.

مبادرات النخبة ومساهمات العِلية

وجَد المغرب نفسه مَطْلع القرن العشرين خائضاً لُـجَجَ إصلاحاتٍ في سياق ثقافي واقتصادي وسياسي متأخِّر تماما عن السياق الأوربي، وانْبَرى للقيام بفريضة الإصلاح السياسي، بجُرأة، ومرجعية علمية، وانحياز لأصالة وتاريخ البلد؛ رجالٌ من طينة الإصلاحيين الكِبار. منهم السيد عبد الكريم مراد، والأخوان تيمور، وأعضاء جماعة لسان المغرب، مرورا بــالاستقصا لأخبار دُول المغرب الأقصى”[1]للمؤرّخ العارف بأحوال المغرب وإشكالاته أحمد الناصري، وظهرت مشاريع إصلاحية مبكِّرة، نبَّهت إلى ما كان عليه حال المغرب وما يَلْزَمه لتجاوز الضغوط العسكرية والسياسية والاقتصادية التي كبَّلته منذ سنوات، منها:

  • مشروع السيد عبد الله بن سعيد الذي قدَّمه لسلطان المغرب سنة 1906 مُركِّزا فيه على وسائلَ ومسائلَ وثوابِتَ وأركان لا يقوم الإصلاح دونها، أبرزُها: هوية الأمة باعتبارها أساس كل إصلاح، العدل رُكن كلِّ إصلاح، اللامَركزية ودورها في الإصلاح؛
  • مشروع جماعة لسان المغرب المرفوع إلى السلطان المولى عبد الحفيظ سنة 1908، الذي عُدَّ في طليعة بواكير مشاريع الدساتير[2] المتقدِّمة في تاريخ المغرب الراهن، لتركيزه على جوانب فاتَ على المذكِّرات الإصلاحية السابقة الانتباه إليها، مما جعله مشروعاً متميّزاً في زَمنه ومَطالبه وغاياته، والتِقاءه مع سابِقيه على أرضية قضايا أو عناصر أساسية كــ: تأكيده على كَون الهوية الإسلامية هي أساس كل إصلاح، وحَضُّه السلطانَ تقريب الكفاءات العلمية وتَولِيتِها المناصب السياسية وتدبير الشّأن العام، واشتراطاته المتنوِّرة في نوعية وطبيعة مَن سيحملون عُضوية مجلس النواب، وتطرُّقه لأوّل مرة لمسألة الحريات العامة وقضية الحمايات الأجنبية.[3]
  • مشروع الشيخ عبد الكريم مُراد الـمتأثِّر بحالة إصلاحية سياسية ودستورية شهِدها عَصر التنظيمات والأحكام العدلية في الدولة العثمانية.
  • صرخة السلطان عبد الحفيظ العلوي في كتابه داء العطب قديم[4].
  • كما يمكن اعتبار “البَيعة الحفيظية” حَلقة لا تنفصِل عن سِلسة المشاريع الإصلاحية في هذا الطور الحساس من تاريخ المغرب، نظراً لكونها اشْتَـرَطَت على الراعي شروطا هامة، ورَبَطَت مسألة إنهاء السلطة الروحية والزمنية للسلطان مِن لدُن العلماء الذين صاغوا الوثيقة بإنجاز السلطان لمضامين “البيعة الـمَشروطة”[5]، والتي راَمت فيما راَمت؛ إنفاذ الإصلاح في البلاد.

نموذج مرجعي لمذكرات الإصلاح الدستوري

لعلَّ من بين المشاريع الجديرة بالتأمل والتعلم منها، وتخصيصها بالحديث كنموذج مرجعي؛ مشروع الحاج علي زنبير السلاوي الذي اختار له توقيتا وعنوانا دالاًّ حِفظ الاستقلال ولَفظُ سيطرة الاحتلال، انصبَّ على التذكير بضرورة القيام بإصلاح سياسي يَحفظ سيادة واستقلال البلاد، وتعيين أعيانٍ لتحرير الدُّستور، والدعوة للمساواة القانونية بين الرعية، وإصدار الـعفو العام عن الثائرين والخارجين على السلطان والـمخالِفين في الرأي. فمن يكون المصلح المثقَّف علي زنيبر؟

علي بن أحمد زْنِــيــبَــر الأندلسي جذوراً، السلاوِي مَنشأً، الفاسي سَكناً، وافَق ميلاده بسلا سنةَ 1844 انهزامَ المغرب في معركة إيسلي، وكأنّ الرجل وُلِدَ في سياق التدهور، ليكون له إسهام في مرحلة التطوّر. لا تَذكُر المراجِع معطياتٍ أوفى عن مرحلة صِباه، ومسار تَعلُّمه، إلاّ أنّها تُنبئنا أنّه حَجَّ مَعية والِديهِ وعمّه وهو ابن سَبع سنين، وانتمى إلى الطّريقة القادرية في شبابه، ثم انتقل منها إلى الطريقة الدرقاوية، فــ”كان صوفيا مَحْضاً متمسِّكاً بالشريعة قولاً وعملا، جَهوراً بالحقّ، باذِلاً جُهوده في أداء النصيحة”[6].

وتُخبِرنا المصادر أيْضاً برحيله إلى مِصر، وتَوطُّنه في مدينة الإسكندرية بدءً من سنة 1879م، بغَرَضِ ممارسة التجارة لسنوات، كانت سببا في توطيده لعلاقاته متينة مع التجار والحِرفيين والمغارِبة المُقيمين بمصر وبالمجتمع الإسكندَري، فعايَشَ خلال مُقامِه ذاكَ الأطوار الأخيرة من عُمْرِ الأسرة الخدّيوية، وكانَ شاهِداً على قيام الثورة الـعُرابية (1881م – 1882م) ضد الاحتلال البريطاني. ودام مُقامه بمصر 23 سنة، وأرض الكِنانةِ آنذاك تَعوج وتموج بالتيارات الفكرية والنقاشات الأدبية والتّأثيرات الاجتماعية والسياسية للثورة الـعُرابية، والصُّحف تُواكِب صراعَ الأفكار في الساحة، والبلاد تستقِطب النخبة الفكرية والدينية في الوطن العربي، وقد ساهم هذا الـجوّ في احتِشادِ الأفكار في عقل السيد علي، وتأثُّره بحالة الإصلاحات السياسية والاجتماعية، فارتَبط بالعالم الإسلامي وقضاياه، انطلاقاً من القاهرة، وتشبَّع بالحرية، وعلى رأسها حرية الاستقلال عن الاحتلال.

عاد الرّجل إلى بلاده سنة 1904، فقضى في طنجة عاما كاملا، وانتقل بعدها إلى فاس، حيث استقرَّ فيها عشرة أعوام، حاملا هَمَّ النهوض الحضاري والإصلاح السياسي، ومُتخَماً بالمقولات النظرية للإصلاحية العربية. غير أنَّ أكثَر ما دَعا إليه في أوساط النخبة وذوي القربى؛ الإصلاح السياسي والدستوري.

لقد عاصَر ابن زنيبر ثلاثة سلاطين علويين، وأحداثاً تاريخةً هامة، منها وفِقْ بيكلار والجزيرة الخضراء، وثورة بوحمارة، وضُغوط الاستعمار العسكرية والسياسية والتجارية، وعَزْل السلطان عبد العزيز بن الحسن، والبَيعة الحفيظية الـمشروطة، ثم معاهدة الحماية، وسَنتينِ من عُمْر الاستعمار الفِعلي للمغرب.

وطْأةُ هاته الأحداث والمسارات دَفعته ليستشعِر معنى القيام بمسؤولية الـمثقَّف، فكَتَب، وراسَل المخزن والباشاوات وأصدقاءه من الإصلاحيين والعلماء، وانخرط بقلِمه وفِكره في الزمن الإصلاحي بمغرب ما قبل الحماية، وهذا ما يدل حسب تعبير الباحث مُصطفى بوشعراء على “قُوّة شخصيته، وعُلوّ كَعبه”.

الغيرة الوطنية والمبادرة الإصلاحية

جَسّد السيد علي اليَقَظة المغربية في مرحلة دقيقة من تاريخ الوطن، ووضَع _ بما أقْدَم عليه من صياغة مشاريع إصلاحية _ نفسَه في طليعة الرّعيل الأوّل للإصلاحيين المغاربة، حيثُ بادرَ في زمنٍ مبكِّر إلى تقديم مذكرة إصلاح سياسي ودستوري اختار لها توقيتا وعنوانا دالاًّ حِفظ الاستقلال ولَفظُ سيطرة الاحتلال“، ويعود الفضل الكبير في تعريفِ المغاربة والباحثين بمشروع المذكِّرة الإصلاحية هذه؛ للمؤرِّخ المقتدر محمد المنوني رحمه الله، وذلك في مقالٍ مِن عشر صفحات نَشره في مجلة دار النّيابة[7] سنة 1984.

مذكرة الإصلاح التي تَـقدَّم بها السيد علي زنـيبر جاءت في توقيتٍ دالٍّ وصِيغَت في عبارة أكثر دلالة، والسياق حاكِم كما يُقال، فقد أثَّرت مُخَرجات معاهدة الجزيرة الخضراء سنة 1906 في الرأي العام الوطني، وفي النخبة المثقّفة، وكانت ردود الأفعال متفاوِتة إزاءها، وإزاء الإملاءات الخارِجية، إضافةً لسياق الضّغط العسكري على المغرب، الذي دُشِّنَ بقَصْفِ واحتلال شَرقه، ثم مدينة الدار البيضاء، والشّروع في التّضييق على السُّلطان تارةً، وإغراءه تارة أخرى.

جاء مشروع المذكرة الإصلاحية في (31) بَنْداً[8]؛ ردّاً على الدعاوى الإصلاحية الأوربية، وجواباً ناقِداً على مُخرجات الجزيرة الخضراء ومساعي الاحتلال المباشِر للمغرب، وانصبَّت المذكّرة على التّذكير بضرورة القيام بإصلاح سياسي يَحفظ سيادة واستقلال البلاد، وتَعْــيِـين أعيانٍ لتحرير الدُّستور، والدعوة للمساواة القانونية بين الرعية، وإصدار الـعفو العام عن الثائرين والخارجين على السلطان والـمخالِفين في الرأي. أما دلالة الصياغة فيُلخِّصها العنوان الواضح القاصد حِـفْـظُ الاستِقلال ولَـفْظُ سيطرة الاحتلال“.

مذكرة الإصلاح الدستوري؛ العناصر والمبادئ والتوجهات

جَعل الحاج علي في طليعة الأهداف الإصلاحية لمشروعه؛ الذبُّ عن حياض الاستقلال الوطني، لأنّ “وِحدة الاستقلال هي الأصل” كما ورد في مقدِّمة المذكّرة. ثم أبْرَزَ اقتراحاتِه الإصلاحية في عِدّة نقاطِ، أهمّها:

  • أولوية انتخاب لجنة مِن أحرار الأمّة وأرباب الفكر والقريحة لبَسْطِ مُتعلَّقات الإصلاحات الـعمومية، وهو هنا كان يَدعو لتكوين لجنة مُنتَخَبة لا مُعيَّنة، فيبدو في نظرنا ونَظر أصحابه آنذاك ونَظر المخزن؛ مُتجاوِزاً لعصره؛
  • ضرورة التّعجيل بتحرير مشروع دستور للبلاد، وتفعيل المساواة القانونية بين أفراد الرعية والمساواة في الجبايات والضّرائب لتعميم مضمونها، كما ورَد في البند التاسع من المذكِّرة؛
  • رَفْض التّبعية لأي دولة أجنبية، مهما كان الوضع الدّاخلي للمغرب؛
  • ضرورة استعمال اللّسان العربي نُطقاً وكتابةً في جميع دَواوين الحكومة بَرّاً وبَحراً، مع إدخال كَمْ لُغة أجنبية لضرورة الوقت، بشَرْطِ عدَم انفرادها بشيء يُخرِجها عن سُلطة الإجراءات العربية العمومية كما جاء في البند الثالث، وهنا نلمَس مَدى استيعاب الكاتِب لأهمية الاستقلال اللغوي للأمّة؛
  • توحيد نظام البوليس، وحَصْر السّلطة التنفيذية في الحكومة المحلية (يَقصد الوطنية/المركزية) ومُراقَبة رِجالها على كل مَصلحة، وهو هنا يُحيل على ما يُعرَف اليوم بعملية رَبْط المسؤولية بالـمحاسَبة؛
  • تمتيع جميع أفراد المجتمع بما أسماه “ثَمرة وسائل العَدل في كل حال”، والعدل كما هو معروف أساس الـمُلك، ومِن ضمانات الاستقرار الـمجتمعي؛
  • ضَرورة اعتماد الاستِحقاق عند التكليف أو التوظيف في المصالح العليا والدنيا؛ فالرجل هنا يُقدِّر قيمة تكافؤ الفُرص والعناية بالكفاءات بما لهما من عظيمِ الأثَر في سيران عجلة البلاد، إداريا وسياسيا واقتصاديا؛
  • وُجوب تأسيس بنك باسم الحكومة المغربية، وعدم الاسْـتِـقْـراض مِن الخارِج إلا بَعد البحث اللازم. ومنْع أيّ مراقبة أجنبية على الإجراءات الداخلية والخارجية للحكومة العَزيزية _ نِسبة للسلطان عبد العزيز _، وهو هنا ينبِّه إلى أهمية سيادة القرار السِّياسي، وعدم القبول بالتدخل في الشؤون الدّاخلية للدولة؛
  • اتّخاذ التدابير اللازمة لإدخال فُنون الـمعارِف العصرية، وأنواع الصنائع الحديثة، وما يَزيد الأمّة تَقدُّما في الأمور التجارية والاقتصادية؛
  • وجوب البَحث عن حليف دولي وُدِّي، بقَصْد “الـمعاضَدة و”المساعدة” بتعبير الكاتب؛
  • اتّباع منهج التَّدرّج في إنفاذ الإصْلاحات في كل القُطر المغربي.

وفي ثنايا مذكِّرة الإصلاح السياسي التي قُدِّمت للسلطان عبد العزيز؛ يُعطِي السيد علي زنيبر أمثلة للمخزن عن الدّول الحرّة المستقِلة ونِظامها وقُوّتها إلى ذلكم العَهد، فيَذكُر سويسرا واليونان وبلغاريا والرومان وصِربيا واليابان، ليَشحَذ هِمم السلطان والمخزن للاقتداء بها، وبهَدَفِ دفْع الطّوارئ وجَلْب الـمنافِع ووقاية الوطن وحِفْظ الاستِقلال.

الأرجوزات صِنْـو المذكرات

لم تنكمِش جهود “المفكِّر الوطني” كما وَصَفه الأستاذ أبو بكر القادي عندَ صِياغة مذكّرة للإصلاح السياسي والدستوري وتقديمها للسّدة العالية؛ بل قَضى رَدحا من عمره يُراقِب عِلل المجتمع والدولة، ويَبْحَثُ إمكان النهوض من وِهدة السُّقوط الذي كان قادِما بشكل حتمي، ويُحاوِر ويُراسلِ في شأنِ إدخال الإصلاحاتِ ثُلّةً من المثقَّفين والإصلاحيين، وينكبُّ على الكتابة، مُحرِّراً مذكّرته الإصلاحية الأخرى إتحاف القُـرّاء بنتيجة الـخَضْراء“، وناظِماً ديوانه “مُنتخبات المشتاق مِن أرَج رُوح الأشواق“، وهو المخطوط الذي حَقَّقه حفيدُه السيد أبو بكر الصّـبيحي، فأطْلَعنا على الجانب الشّاعِري والإبداع الشِّعري في شَخصية الحاج علي زنيبر، الذي نَظَم “قصائد وطنيات، يَتجاوب فيها مع الأحداث المغربية، فيُندِّدُ ويتألَّم، ويَطرح الحلول، في أسلوبٍ يتّسِمُ بالغيرة القومية والـحَمِية الإسلامية”.[9]

ومن أشعار السيد زنيبر قوله:

أعِدْ نَظَراً فيما تَقَرَّرَ عَـرْضُــــــــــــــــــــــــهُ ** على السُّدَّةِ العلياءِ من ساسةِ العَصْرِ

ولا تَخْشَ إلّا اللهَ في كلِّ ما تَرَى ** فإنّ انتِهاجَ العَبْدِ تَرْضِيةُ الـحُــــــــــــــــــــــــــــــــرِّ

فَضلاً عن أرجوزة بعنوان إنارة الأذهان بشمُوس العِرفان، وموشَّحة شعرية بعنوان الإشارة في تحسين الإدارة، مَدَح فيها حكْم السلطان عبد الحفيظ، وقَدّم فيها النّصائح المفيدة في حسْن الرئاسة والسياسة، ودعا لضرورة الأخذ بتطوّر العلوم المعاصِرة، ونَــبَّهَ إلى الـمَخاطِر الاستعمارية الـمُحدِقة بالمغرب، ومنها قوله:

شَخِّصوا الدّاءَ الدّفينَ الـمُستَـتِرْ ** وافْحَصوا التَّركيبَ مِن طَبْعِ العِلَـلْ

وابْحَثوا بَحْثَ طبيبٍ مُـقتَــــــــــــــــدِرْ ** فاعْتِلالُ الجِسمِ من فَرْطِ الــكَــسَلْ

كما دبَّجَ أرجوزةً أخرى قيِّمة في شأن الإصلاح الـمُتوخّى إنفاذه في البلاد عَـنونَها بــ مِصباح الفَلاح لمراجَعة الإصلاح“.

خاتمة

لقد كانت هذه المذكِّرات والأرجوزات والكتابات ذات الكثافة الإصلاحية بالغة الأهمية، وجَّهها صاحِبُها لمن “يهمُّه حِفْظُ استِقلال مملكة الأقصى من عُدوان الاستِبداد، الذي هو ضَرْبٌ من الاحتلال”. ونَـبَّه بها “على وُجوب دَرْسِ لائحة الإصلاح العام للوقوف على أسرار مَبناها” حسب تعبيره. كما كانت هذه المساهمات القيِّمة والاستِباقية؛ أهمّ دليل على أنّ السيد علي زنـيـبر كانَ حَقَّا من الماهدين الإصلاحيين الأوائل، ورائدٌ من روّاد المغرب الحديث الذي يستحِقُّ أن تَنْبَرِي الأقلام لترجمة سيرته، وتعريف المغاربة بإسهامه، وأنْ تهتمَّ الجامعات والبحوث الجامعية بالكتابة عن رسائله الجامعة النافعة.

توفِيَ الحاج علي بعدَ أن ناهَز السّبعين، وذلكَ بِمسقِط رأسه بمدينة سلا، يوم 25 مايو 1914، بعد أنْ وَقَع المغربُ فريسة احتِلالَين أجنبيين، وعُزِل سلطان البلاد، ولَم تَنفعِ الدّعوات الإصلاحية المبكِّرة ولا المذكِّرات التي سالت في سبيل تحبيرها أوديةٌ من المداد وأوقاتٌ ثمينة من عمر خِيرة الرّجال، في شيء.

المراجع
[1]  الناصري أحمد، الاستقصا لأخبار دول المغرب الأقصى، طبعة دون تاريخ، ولا اسم الناشر، نسخة إلكترونية.
[2] كافي أحمد، مشاريع الإصلاح السياسي بالمغرب في القرنين التاسع عشر والعشرين، دار الكلمة للنشر والتوزيع، ط1، 2013، من الصفحة 147 إلى 231.
[3] قانون التجنُّس بصيغة المذكِّرة.
[4] عبد الحفيظ بن الحسن العلوي: "داء العطف قديم"، حققه وضَبطه محمد الراضي كنّون الحسني، طبعة بدون تاريخ، نسخة إلكترونية.
[5] ابن زيدان عبد الرحمن: "إتحاف أعلام الناس بجمال وأخبار حاضرة مكناس"، تحقيق الدكتور علي عمر، الجزء الأول الطبعة الأولى، منشورات مكتبة الثقافة الدينية، 2008، ص: 518.
[6] "موسوعة الحركة الوطنية والمقاومة وجيش التحرير بالمغرب"، الجزء الثاني، المجلد الأوّل، منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير.
[7] مجلة "دار النيابة"، فصلية وثائقية دراسية تُعنى بتاريخ المغرب، المطابع المغربية والدولية، طنجة، عدد 1984.
[8] كافي أحمد، مشاريع الإصلاح السياسي بالمغرب في القرنين التاسع عشر والعشرين، دار الكلمة للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 2013.
[9] المنوني محمد، مظاهر يقظة المغرب الحديث، الجزء الثاني، مطبعة الأمنية بالرباط، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، الطبعة الأولى 1973.