مقدمة

محمد بن عبد الهادي بن محمد المنوني، علامة وفقيه، ومؤرخ رائد في تاريخ المغرب وحضارته، وبحاثة من الطراز الأول في التنقيب وفهرسة وتحقيق المخطوطات والمصادر والوثائق التاريخية النادرة والغميسة. ويعتبر في عداد الرموز الثقافية والرعيل الأول من الفقهاء والأساتذة، أمثال: عبد الله كنون، وعلال الفاسي، والمختار السوسي، ومحمد الفاسي، ومحمد داود، وعبد الرحمان بن زيدان… كما أنه أستاذ لأجيال متعددة من الباحثين في تاريخ المغرب، وهو أيضا مؤلف متعدد المواهب والمعارف، وساهم بشكل كبير في إغناء المكتبة المغربية وخاصة في تاريخ المغرب وحضارته. وقد كانت معرفته بمصادر تاريخ المغرب وبما تحتويه المكتبات في المغرب من أنفس المصادر التي تهم تاريخ المغرب وحضارته؛ سواء كانت مكتبات عامة أو مكتبات خاصة، وفي مختلف المدن المغربية، الأمر الذي أهله ليكون خبيرا متمكنا في شؤون المكتبات المغربية. وقد انعكست خبرته تلك في مجال التأليف والنشر الذي نشط فيه المنوني بشكل كبير مقدما خدمة لا تضاهى في مجال التنقيب عن مصادر تاريخ المغرب، وفهرستها وتوظيفها في أبحاثه بشكل مكثف[1].

النشأة والتكوين العلمي

ولد العلامة والفقيه والمؤرخ محمد المنوني فجر يوم السبت 24 شوال عام 1333/4 شتنبر 1915، في حي الحمام الجديد بمدينة مكناس. وينتمي المنوني إلى أسرة عريقة من الشرفاء بمدينة مكناس، حيث تستوطن منذ أزيد من ستة قرون، وهي أسرة المنونيون. وينتمي العلامة إلى فرع أبي الحسن علي بن منون الشريف الحسني وهو منسوب إلى فرع قاسم بن المولى إدريس الثاني.[2] وللمنونيين رسوم وظهائر عديدة بعضها قديم وبعضها الآخر حديث لعدد من ملوك الدولة المغربية. وبفضل مكانة الأسرة كان بعض أفراد الأسرة يحضرون بيعة السلاطين وخاصة السلاطين العلويين، وغيرها من مظاهر الاحترام والتوقير لهم. وقد اشتهرت الأسرة في مكناس بإنجاب عدد مقدر من الأعلام الذين كانت لهم دراية واسعة بالحساب والتوقيت، والاشتغال بالتدريسن والعدالة، ونظارة الأوقاف، وكان بعضهم من فقهاء المدينة البارزين.[3]

وفي مدينة مكناس بدأ دراسته بحفظ القرآن الكريم، وأخذ مبادئ العلم ومتونه عن مشاهير علماء المدينة في حلقات التدريس وسرد الكتب. وقد استمرت هذه المرحلة التعليمية، والتي تغطي من المرحلة الابتدائية إلى المرحلة الثانوية ما بين عام 1919 وعام 1938. وقد تنقل الطفل محمد المنوني خلالها بين عدة “كُتَّاب” ومساجد؛ ككتاب جامع الحجاج بحي حمام الجديد، وكتاب مسجد زنقة “تيبربارين”، وكتاب مسجد درب صدراته. وقد تمكن خلالها من حفظ عدد من المتون العلمية على يد والده وخاصة “المرشد المعينلابن عاشر، و”ألفية ابن مالك”، و”الجمل” للمجرادي، والسُّلَّم” للأخضري، و”الإستعارة” للطيب ابن كيران، و”المقدمة الصغرى” للسنوسي…[4]. ومن العلماء الذين أخذ عنهم المنوني دروسه: الحاج المختار السنتيسي، والشيخ محمد الحسين العرائشي، والعلامة أحمد بن عبد السلام بن شقرون، والفقيه أحمد بن محمد غازي، والشيخ بن المبارك الهلالي، وغيرهم كثير، حيث أحصى في ترجمته لنفسه ثمانية عشر عالما. [5] وقد كان لوالده دور كبير في النهل من عدد كبير من العلماء في المجالس التي كان يصحبه إليها، في عدد من مساجد مكناس وفي الزاوية الكتانية، وحتى إلى خارج مدينة مكناس كفاس والرباط.[6] وقد تلقى المنوني خلال هذه الفترة طيفا واسعا من المعارف العلمية: من فقه وأصول، وعقائد، وتصوف، والنحو، والتصريف، ومبادئ الحساب، وكذا الشعر والتاريخ.

وفي الفترة الممتدة من عام 1938 و1943 رحل المنوني إلى مدينة فاس لينهل من علم جامعة القرويين، حيث انخرط فيها في التعليم العالي في الدراسة الحرة والنظامية، فاخذ العلم في حلقات عدد من العلماء والمشايخ المشاهير، من أمثال: المفسر الحسن بن عمر مزور، والشيخ محمد ابن الحاج السلمي، والشيخ عبد العزيز بن احمد الحسني، والعلامة النحوي محمد بن سودة المري، والشيخ محمد الجواد الصقلي، والشيخ محمد عبد الحي الكتاني، وشيخ الإسلام محمد بن العربي العلوي، وغيرهم كثير، فنال سبع عشرة إجازة من هؤلاء المشاهير، كما نال منها “شهادة العالِميَّة”،[7] بتاريخ 24 جمادى الآخرة 1362ه/28 يونيو 1943م. وخلال مقامه بالقرويين سكن المنوني عدة مدارس: بدءا بمدرسة الصفارين، ثم مدرسة السبعيين، والمدرسة المحمدية. وقد بلغ عدد من أخذ عنهم المنوني في القرويين تسعة عشر عالما.[8]

الوظائف التي شغلها المنوني

لم يتأخر انخراط محمد المنوني في أسلاك الوظيفة كثيرا، فبعد خمسة أشهر فقط من تخرجه من القرويين عين مدرسا في القسم الإبتدائي بالمعهد المكناسي أول افتتاحه، وذلك يوم الإثنين 23 ذي القعدة 1362ه/23 نونبر 1943م. وبعد استحداث القسم الثانوي بالمعهد أضيفت مهمة تدريس “مختصر خليل” في هذا القسم للمنوني لطلبة السنة الأولى من الثانوي. ليتفرغ فيما بعد للتدريس في القسم الثانوي فقط مكلفا بتدريس اللغة العربية وآدابها أساسا، وكذا دروس جغرافية إفريقيا. وقد استمر في مهمته تلك إلى نهاية السنة الدراسية لعام 1953 -1954، وذلك قبل أن يتم اعتقاله في فترة العطلة الصيفية ابتداء من 8 غشت 1954 وحكم عليه بالسجن والنفي من مكناس وفصل عن التدريس بالمعهد، قبل أن يعود مرة أخرى إليه بعد الإستقلال ابتداء من يناير عام 1956. واستمر في عمله بالمعهد مدرسا للأدب العربي وتاريخ المغرب، وفيما بعد مفتشا إلى دجنبر من عام 1961، لينتقل للعمل في الخزانة العامة (المكتبة الوطنية حاليا). وابتداء من مارس سنة 1962 بدأ بالإشتغال في الخزانة الحسنية بالرباط وذلك إلى يونيو من عام 1970 حيث عين رئيسا لمصلحة المخطوطات داخل وزارة الثقافة، حيث استمر في وظيفته تلك إلى غاية 1974، قبل أن يعود مرة أخرى إلى الخزانة الحسنية. وابتداء من الموسم الجامعي 1988-1989 عين أستاذا للتعليم العالي بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط. [9]

وارتباطا بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، فمن المواقف التي تروى حول الظلم الذي تعرض له محمد المنوني من طرف أحد عمداء هذه الكلية، ويتعلق الأمر بمنعه من متابعة دراسته الجامعية هذه الكلية وذلك “لأن العميد اعتبر الشهادة التي حصل عليها من جامعة القرويين دون مستوى الإجازة التي تمنحها جامعة محمد الخامس. كان الأستاذ المنوني قد نجح بتفوق في الإمتحان الكتابي للسلك الثالث ولكن الأستاذ أحمد العبادي، وهو من المشرفين على هذا البرنامج، طلب منه أن يتغيب عن الإمتحان الكتابي لأنه تلقى أوامر من العميد ليرسب خريجي جامعة القرويين. علق على هذا الموقف قائلا: لن أسمح له في الدنيا ولا في الآخرة”.[10] لكنه بعد هذا الظلم في حقهن،وبعد نحو عقد صار يدرس في كليات جامعية ودار الحديث الحسنية، وبعد عقدين سيصدر مرسوم ملكي بتسميته أستاذا للتعليم العالي مدى الحياة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط –جامعة محمد الخامس.[11]

إنتاجاته وآثاره العلمية والفكرية

بالنظر إلى سعة الأفق العلمي لمحمد المنوني، فقد تنوعت انتاجاته وتعددت بين الفقه والتاريخ واللغة والفلك والطب، فأنتج للمكتبة المغربية قرابة مائتي بحث ودراسة وكتاب. وبسبب تعدد هذه الإنتاجات وتنوع موضوعاتها سنكتفي بإيراد أهمها:

  1. العلوم والآداب والفنون على عهد الموحدين (أو حضارة الموحدين)، 1950.
  2. من حديث الركب المغربي، 1953.
  3. مظاهر يقظة المغرب الحديث (جزأين)، 1973.
  4. فهرس المخطوطات العربية في الخزانة العامة بالرباط، 1974.
  5. وثائق ونصوص عن أبي الحسن علي بن منون، 1976.
  6. منتخبات من نوادر المخطوطات بالخزانة الحسنية بالرباط، 1978.
  7. ورقات عن الحضارة المغربية في عصر بني مرين (أو ورقات عن حضارة المرينيين) ، 1980.
  8. المصادر العربية لتاريخ المغرب: من الفتح الإسلامي إلى نهاية العصر الحديث، 1983.
  9. فهارس مخطوطات الخزانة الحسنية حسب أرقامها على الرفوف، 1983.
  10. دليل مخطوطات دار الكتب الناصرية بتمكَروت، 1985
  11. الإمام إدريس مؤسس الدولة المغربية (بالاشتراك مع عبد الله كنون، علال الفاسي، عبد الهادي التازي)، 1988.
  12. المصادر العربية لتاريخ المغرب: الفترة المعاصرة، 1989.
  13. تاريخ الوراقة المغربية: صناعة المخطوط المغربي من العصر الوسيط إلى الفترة المعاصرة، 1991
  14. قبس من عطاء المخطوط المغربي (ثلاثة أجزاء)، 1999.

كما نشر المنوني عددا كبير من الأبحاث والدراسات والمقالات في عدد كبير من المجلات والجرائد المغربية والعربية: وخاصة مجلة دعوة الحق ومجلة المناهل ومجلة تطوان ومجلة البحث العلمي ومجلة المغرب…، كما ساهم بمواد ومقالات في معلمة المغرب وموسوعة التراث المغربي، وكذا عدد كبير من العروض والمداخلات في عدد كبير من الندوات والمؤتمرات والمحاضرات العلمية والفكرية داخل المغرب وخارجه.[12]

ولأن المنوني رائد متميز في علم المخطوطات والوثائق فقد خلف خزانة كتب نادرة من عيون المخطوطات والطبوعات اشتراها الملك محمد السادس من ورثته فألحقها بالخزانة الحسنية بالرباط وهي مفهرسة لتكون رهن إشارة الباحثين والمهتمين، وضمنها رسائله الشخصية المتبادلة مع الباحثين في المغرب وفي المشرق ومع العديد من المستشرقين في كثير من الدول الغربية وهي مصنفة ومفهرسة تبلغ 3000 رسالة ووثيقة، وهي ثروة هائلة ورصيد فكري متميز.[13].

التكريمات والجوائز            

نال محمد المنوني، نظير أعماله البحثية المتميزة ومساهماته القيمة في الميدان العلمي والفكري، عدة جواز وتكريمات:

  • الوسام الملكي: وسام العرش من درجة فارس (1968).
  • جائزة المغرب الكبرى للكتاب من طرف وزارة الشؤون الثقافية (1969).
  • الوسام الملكي: سام العرش من درجة ضابط (1987).
  • جائزة المغرب الكبرى للكتاب: جائزة الاستحقاق الفكري من وزارة الشؤون الثقافية (1988).
  • جائزة الإمام عبد الحميد بن باديس من مركز دراسات المستقبل الإسلامي بلندن (1992).
  • وسام المؤرخ العربي من اتحاد المؤرخين العرب (1993).

وفاته

توفي العلامة محمد المنوني يوم السبت 16 جمادى الأولى عام 1420ه/28 غشت 1999 بمدينة الرباط ووري الثرى بضريح جده علي بن منون بحي روى مزين بمدينة مكناس عصر اليوم الموالي. وخلف رحمه الله- خمسة أنجال، بنتين؛ وهما رجاء وفوزية، وثلاثة أبناء؛ وهم: محمد عبد الهادي، ومحمد عز الدين، ومحسن.

المراجع
[1] بن عبود امحمد، الأستاذ محمد عبد الهادي المنوني: الباحث والعالم والإنسان، ضمن: التاريخ والفقه أعمال مهداة إلى المرحوم محمد المنوني، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، تنسيق محمد حجي، مطبعة النجاح الجديدة،ط1،  2002، الدار البيضاء، ص 86-87.
[2] أفا عمر، معلمة المغرب، ج21، منشورات الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر ومطابع سلا، 2005، ص 7295.
[3] الهلالي محمد باسر، معلمة المغرب، ج21، منشورات الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر ومطابع سلا، 2005، ص 7296-7297.
[4] المنوني محمد، قبس من عطاء المخطوط المغربي، لمجلد الرابع، دار الغرب الإسلامي، ط1، 1999، بيروت، ص 1407-1409.
[5] المنوني محمد، قبس من عطاء المخطوط المغربي، مرجع سابق، ص: 1410 وما بعدها.
[6] محمد بن عبد الله آل رشيد (جمع وتعليق)، من كوكب المغرب: العلامة محمد بن عبد الهادي المنوني، دا البشائر الإسلامية، بيروت، ط1، 2004، ص 72-75.
[7] أفا عمر، معلمة المغرب، مرجع سابق، ص 7297.
[8] المنوني محمد، قبس من عطاء المخطوط المغربي، مرجع سابق، ص: 1424 وما بعدها.
[9] محمد بن عبد الله آل رشيد (جمع وتعليق)، من كوكب المغرب: العلامة محمد بن عبد الهادي المنوني، مرجع سابق، ص 99-101.
[10] بن عبود امحمد، الأستاذ محمد عبد الهادي المنوني: الباحث والعالم والإنسان، مرجع سابق، ص 89.
[11] محمد بن عبد الله آل رشيد (جمع وتعليق)، من كوكب المغرب: العلامة محمد بن عبد الهادي المنوني، مرجع سابق، ص 15-16.
[12] مجلة دعوة الحق، الأعداد: 370-371-372، منشورات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية، 2002 و2003.
[13] أفا عمر، معلمة المغرب، مرجع سابق، ص 7296.