بين يدي الكتاب

كان الفقيه العلامة المؤرخ محمد بن عبد الهادي المنوني -رحمه الله- رجلا عالما ملء السمع والبصر، سخّر حياته العجيبة الثرة الهادئة لقراءة التاريخ، والعمل على نفْض غبار الإهمال والنسيان عن المخطوط، بل ونفْخ الروح فيه ليُبعث حيا من جديد… ما ظنك برجل بسط يده في تاريخ المغرب بكل عصوره، وعلا كعبه في تراثه المطبوع والمخطوط. وصار ملاذا للدارسين والباحثين مغاربة وأجانب، يحفهم بتواضعه الجم، ونبوغه الخارق، ويجلل مجالسه بصوته الخاشع الذي تزيّنه لثغة تزيد السامع حرصا على مزيد انتباه، وكبير متابعة.

عاش رحمه الله دهرا يعرّف بأصول الكتب مطبوعها ومخطوطها بحدق لافت، لا يعزب عنه شارد منها ولا وارد، خبيرا بخطوطها، يعرِف أسماء مؤلفيها وألقابهم وكناهم، ويفري نسخها المحفوظة و(المنهوبة)، عارفا بخزائنها الخاصة والعامة، وباختصار شديد، كان رحمه الله فهرسا ناطقا متنقلا يمشي على رجلين.

قدم رحمه الله للمكتبة العربية عطاء زاخرا نافعا، كتَب في التاريخ مصنفات، وحقّق وثائق ومخطوطات، وسجل حضورا لافتا بأبحاثه ودراساته في عدد من المنابر المغربية والعربية منها: العلم، الرأي العام، الميثاق، مجلة تطوان، مجلة أبعاد فكرية، البحث العلمي، دعوة الحق، مجلة دار النيابة، مجلة كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، أوراق (المعهد الإسباني للثقافة)، مجلة معهد المخطوطات (القاهرة)…

ومن أروع الشهادات في الرجل، شهادة الدكتور محمود الطناحي يقول:” أما المنوني والكتاني (يقصد محمد إبراهيم الكتاني) فقد قدّما للتراث العربي في المغرب يدا باقية، وأثرا مذكورا، فكم اكتشفا من مخطوطات، وكم صححا من نسبة كتب لغير أصحابها، ولولا خوف الإطالة، لذكرت من هذا وذاك الشيء الكثير. ثم كانت مساعدتهما المخلصة، وعونهما الكريم لكل من يرد المغرب، أو يستفتيهما من خارجه، فلم يحجبا علما، ولم يبخلا بنصح”[1].

تقديم الكتاب

من التفاتاته الذكية، وإبداعاته الألمعية رحمه الله، كتابه “من حديث الركب المغربي”، وأصل هذا الكتاب من قسمين اثنين، صدَر قسمُه الأول (ماضي الركب المغربي) سنة 1953م، عن دار المخزن بتطوان، وحاز”جائزة مولوية” كما هو مسطر على الغلاف، على أن يصدر القسم الثاني (حاضر الركب المغربي) فيما بعد “بالمطبعة الملكية تحقيقا لوعد ملكي” كما أوضح المؤلف في المقدمة. وقد اختار رحمه الله مصطلح “ركب الحاج” تسميةً لهذا النوع من الرحلات المغربية الجماعية إلى الحجاز، في حين استعمل غيرُه تسميات أخرى مثل: “ركب الحج” أو ” ركب الحجيج” أو “الركب النبوي”.

وقد ارتبط ذكر هذا الركب بشعيرة فريضة الحج باعتبارها ركنا من أركان الإسلام، وهو ركن تعلق به المغاربة عموما، وخلدوا ذكره في عدد من كتب التاريخ ومصادر الأدب، وأفاضت في وصف مستوى تعاطي المغاربة مع هذه الشعيرة، التي حدد بعض الباحثين أسباب تعلق المغاربة بها، ووقفوا على أسبابهالتي نورد منها سببيْن اثنين فقط[2]:

1- البعد عن قبر رسول الله: وهو عامل شكل حافزا لمزيد من التعلق بهذه البقعة الطيبة ذات الشخصية الجغرافية المتميزة، التي انجذبت إليها قلوب المسلمين من كل بقاع الدنيا،  وقد كُتب لهذا الانجذاب أن يتحول إلى نزعة كان لها حضور مكثف في تاريخ الخطاب الأدبي في الغرب الإسلامي ليترجم نظما ونثرا، ويتبرعم ألوانا شعرية وفنونا نثرية.

2- النفَس الصوفي: وهو نفَس لا تكاد تخطئه العين، حيث نجد تجلياته بادية على مضمون الكتابات التي خلدت هذا النوع من الرحلات، والتي حرص عدد غير قليل من أعلام الصوفية على المساهمة بشكل قوي في بلورة معالم بنية قصائدها الشعرية، وتحديد مسار معجمها. وقد استوقف هذا النفَس عددا من الباحثين الذين عالجوا هذا التراث من زوايا نظر وخلفيات فكرية وفنية وعقائدية مختلفة.

ويأتي كتاب (ركب الحاج المغربي ) في سياق رصد هذا التعلق، لكن من زاوية نظر المؤرخ، وهي زاوية فريدة شكلت لبنة في صرح اهتمام المغاربة بشعيرة الحج ومتعلقاته. وهو كتاب ألّفه صاحبه بمناسبة “الذكرى الثالثة والعشرين لعيد العرش المغربي، وجعله” تعليقا على الرسالة الملكية الموجهة للحجاج المغاربة في تلك السنة”[3].

وبالرغم من أن الكتاب صغير الحجم لا يتجاوز مائة وأربع صفحات، إلا أنه مفيد في بابه، مرجع في مجاله، إذ أن المرحوم المنوني، ذكر فيه نشأة الركب المغربي، وعرّف بأول ركب (الركب الصالحي) الذي كان يخرج من آىسفي، ثم عرّف بالركب الفاسي، وهيئته، وشاراته، وكيفية الاستعداد لخروجه، وطريقة الاحتفال به، وذكر صرتَه وهديتَه ورسالتَه إلى الحضرة النبوية، وأمراءَه، ثم أشار إلى الركب السجلماسي الذي “كان يخرج من سجلماسة ويذهب فيه أهل تافيلالت ومن انضاف لهم، وهو ركب قديم” (الكتاب، ص 32)؛  والركب المراكشي و “كان يخرج من مراكش ويذهب فيه أهل البلدة ونواحيها وغيرهم، ويسلك طريقا مبيّنة في رحلة السراج المراكشي” (الكتاب ص 36) ؛ ثم الركب الشنقيطي وهو ركب “تأسس بعد عمارة هذه الجهة، وكان يسافر سنويا، ويمشي فيه كل من أراد الحج من سائر جهات شنقيط” (الكتاب، ص 39) والبحري ” ومن أمثلته الركب الذي سافر فيه الفقيه الأديب محمد بن علي الرافع الأندلسي التطواني عام 1096هـ، فقد أبحر من تطوان قاصدا الديار المقدسة، ثم رجع على هذه الطريق حتى نزل بالمرسى المذكورة” (الكتاب، ص 40)، ليختم الكتاب بإيراد نماذج من الشعر في الحنين إلى البقاع المقدسة، وأورد في هذا الباب قصائد لكل من: القاضي عياض وابن بقي السلوي ومالك بن المرحل ومحمد بن الأمير العزفي السبتي وأبي عمران الزياتي وآخرين. كما ساق نماذج من التهنئة بالحج، فضلا عن نماذج من الرسائل التي درج المغاربة على تدبيجها وإرسالها إلى الروضة الشريفة وصاحبها عليه الصلاة والسلام. وتحت عنوان: ” الرحلة العامرية” أورد المنوني رحمه الله قصيدة للشيخ أبي عبد الله محمد بن الحاج منصور العامري ثم التلمساني، وهي قصيدة “تبيّن بتدقيق الطريق التي كان يسلكها الركب المغربي، أو بالأحرى الفاسي” ( الكتاب، ص 88) .

على سبيل الختم

قدّم الفقيه العلامة المنوني رحمه الله من خلال أعماله وبحوثه، شخصية فذة انفردت بمنهج خاص في التعاطي مع أحداث وقضايا ذات صلة بالحضارة المغربية، حيث يظهر جليا مخالفته لمنهج أعلام المدرسة التقليدية أمثال الناصري، وابن زيدان، وإن كان يحسب عليها، ويُعتبر أحد أعلامها. ولعل أسلوب تعاطيه مع “ركب الحاج المغربي” يقربنا من منهجه في كتابة التاريخ، القائم أساسا على إبراز الهوية الحضارية والثقافية للمغرب الرسمي والشعبي، والتي لا تزيد المغربي إلا ثقة في ماضيه، واعتزازا بهويته وحضارته.

المراجع
[1] محمود محمد الطناحي، صفحات من التراث والترجم واللغة والأدب – دار البشير. ط 1 – 2002، ص 113.
[2] تفصيل ذلك في كتابنا :  " المديح النبوي في الغرب الإسلامي: ألوان وأعلام". وهو قيد الطبع.
[3] محمد المنوني، من حديث الركب المغربي، مطبعة المخزن، تطوان، 1953، ص 5.