مقدمة

لقد شكلت القبيلة موضوعا للعديد من الدراسات والأبحاث الأنثروبولوجية والسوسيولوجية، حيث يعرفها الأستاذ “رحال بوبريك” على أنها مجموعة بشرية مكونة من قسمات (فخدات وبطون وأعراش…) ومجموعات اجتماعية يجمع بينها رابط القرابة الدموية (سواء كان حقيقي أو وهمي) من خلال الانتماء إلى جد مشترك[1]، حيث تتأسس القبيلة بصفة عامة على ثلاث محددات رئيسية[2] وهي: النسب الذي قد يكون دموي من خلال نظام القرابة أو تعاقدي من خلال التحالفات، والتراب الذي يمتاز على عكس المجال  بكونه موضوع سلطة تمارس عليه، وكذا بكونه محددا وذا تسمية، والاشتراك في القيم والتمثلات والمبادئ والتقاليد والممارسات الاجتماعية والنظام الرمزي. والقبيلة ككيان سياسي واقتصادي واجتماعي ارتكزت في تدبير شؤونها على المستوى الداخلي والخارجي على العديد من المؤسسات أبرزها آيت الأربعين.

أصول نشأة آيت الأربعين

يشير الأستاذ “محمد سالم بن الحسين بن عبد الحي” أن نشأة آيت الأربعين فرضتها بالأساس الظروف السياسية التي امتازت بها المناطق الصحراوية آنذاك، “وذلك أن الرقيبات لما تناسلوا وكثر مالهم وانتشروا وصاروا قبائل شتى وناشبتهم أطراف الرماح اجتمعوا وتشاوروا في أمرهم. فاتفق رأيهم أنهم إذا نزل بهم أمر مهم كالخوف يجتمعون في مكان واحد ويختارون رجالا من أعيانهم ويقدمون عليهم رجلا منهم معروفا بالشجاعة والجرأة وحسن الرأي ويكون معه رجال اختارهم من القبيلة. والجماعة يسمونها أيت أربعين. والرجل يسمونه المقدم”.[3]، حيث ساد هذه المناطق ما يسمى ب “الغزي” بين القبائل. وهنا يوضح الأستاذ رحال بوبريك أن الاتجاه نحو الغزي والحرب عند أهل هذه المناطق ليس ناجما عن عدوانية كامنة فيهم بقدر ما هو نمط إنتاج  قائم بذاته يضمن الثروة من خلال الغنائم؛ وهذا هو القصد الظاهر أو المباشر من الغزي، غير أنه هناك قصد آخر خفي يتجلى في كون حالة الاستعداد الدائم للحرب عند جميع القبائل تحول دون وقوعها، وهذا ناتج عن شعور كل قبيلة أن باقي القبائل مستعدة للمواجهة ما يجعل جميع القبائل تتراجع عن فكرة الغزي. وعليه، فالاستعداد والإمكانيات الحربية من عدة وعتاد تعد من آليات التوازن داخل المجتمع القبلي. وبالتالي، تدخل نشأة آيت الأربعين في إطار استعداد القبائل للهجومات المحتمل شنها عليها.

آيت الأربعين شروط الانضمام والمهام

بعيدا عن جدلية التسمية؛ فهناك من يعيد تسمية آيت الأربعين إلى عدد الأعيان المنزويين في إطارها أي أربعين رجلا، وهناك من يعيدها إلى سن هؤلاء الأعيان الذي يجب أن يكون فوق الأربعين سنة، شكلت شروط الانضمام لجماعة آيت الأربعين وكذا أدوارها السياسية والاجتماعية المنوطة بها موضوع اهتمام الكثير من الباحثين، وذلك نظرا لما تعكسه هذه الشروط والأدوار من منطق تفكير بنية المجتمع القبلي.

شروط الانضمام:

نظرا لطبيعة الحياة داخل المجتمعات القبلية الصحراوية المتميزة بالحضور القوي للهاجس الأمني وما يفرضه من ضرورة الاستعداد الدائم لأي تهديد محتمل خاصة في غياب سلطة مركزية، جعل هذه القبائل تفرض شروطا دقيقة للانضمام إليها يمكن إجمالها في ما يلي: أن يكون الشخص فوق سن 40، وأن يكون صميم النسب أي غير داخيل على الجماعة، وأن يكون حاملا للسلاح، وأن تكون له ثروة. وما قد نستشفه من هذه الشروط هو ما يتعلق بالحرص الشديد على الولاء والخبرة العسكرية، فأن تكون صميم نسب وحاملا للسلاح أهم بكثير مما قد تملكه من ثروة وجاه، وهذا بحد ذاته يعكس طبيعة الأوضاع السياسية بالقبائل “في بيئة تشكل الحرب فيها القاعدة وليست الاستثناء[4] سيكون لزاما على القبائل تعيين أشخاص موثوقين وكذا أكفاء بهدف المدافعة عن ترابها”.

الأدوار والمهام التنظيمية:

يشير الأستاذ رحال بوبريك أن آيت الأربعين ليست مجرد جهاز “تقني” يقوم بصياغة القوانين ويسهر على تنفيذها (السلطة التشريعية والتنفيذية)، بل تتعدى ذلك بكثير حيث تشغل وظائف سياسية بالغة الأهمية، ففي غياب سلطة مركزية ترد العدوان والمظالم كان لزاما استحداث آلية من شأنها الاضطلاع بهذه الوظائف ضمانا للسير الطبيعي للنظام الاجتماعي القبلي، حيث تستمد آيت الأربعين من النصوص الشرعية الدينية ومن الأعراف المتداولة. وبالتالي، لقد استمدت الجماعة أهميتها من كونها، كما يقول الأستاذ محمد سالم بن الحسين بن عبد الحي، قد حلت محل الحاكم[5] سواء في إطار تدبير العلاقات بين أفراد القبيلة (محليا) أو في إطار التعامل مع باقي القبائل و كذا المخزن والزاويا[6]…،حيث تضطلع الجماعة كمؤسسة كفيلة بالتحكيم والتدبير والتصريف العام للقرارات[7] بعدد من الوظائف؛ منها ما هو تنظيمي غايته تأطير العيش المشترك، ومنها ما هو تحكيمي غايته رأب الصدع و البث في النزاعات، ومنها ما هو دفاعي غايته تحصين الحدود والمراعي مع القبائل المجاورة[8].

وعلى المستوى الداخلي تعمل آيت الأربعين على حل النزاعات التي قد تتعلق بالماء أو الأرض وغيرها من وسائل الإنتاج، حيث تعمل وفق منطق ديمقراطي يسمح للجميع بالمشاركة وبحرية إبداء الرأي والدفاع عن المصلحة الشخصية، ما يجعل من القرارات التي تنتهي إليها “الجماعة” تكون ذات طابع إلزامي وذلك نظرا لكونها قرارات تعبر عن رغبة الأغلبية[9]، وهذا ما يفسر سبب اللجوء لبعض أشكال التراضي التقليدية كطلب العار والمزاوكة وغيرها… التي والتي تعمل على تجديد أرضيات التفاوض بغية ضمان السلم الاجتماعي وتنفيس الاحتقان[10]

أما على المستوى الخارجي، فانطلاقا من وجهة نظر انقسامية (كما جاء بها كل من إيفانز بريتشارد وإرنست غيلنر)، فإن ما يحكم الجماعة في علاقتها بباقي الجماعات هو عامل الانشطار والانصهار، وذلك وفق مبدأ التعارض التكاملي “أنا ضد أخي، وأنا وأخي ضد أبناء عمنا، ونحن وأبناء عمنا ضد من في الأرض جميعا”[11]، وهذا ما يفسر لماذا تسود أجواء الحرب بين القبائل (الإنشطار) كما يفسر أيضا بعض أشكال التحالفات بين الجماعات القبلية من قبيل “اللف” الذي هو عبارة عن اتحاد قبلي يؤسس للدفاع عن المصالح العامة للقبائل..، حيث يبنى على أساس كتابة عقد يسمى “أمقون”، وهو اتحاد مؤقت مبني على المصالح الآنية[12] (الانصهار).

المراجع
[1] رحال بوبريك، زمن القبيلة: السلطة وتدبير العنف في المجتمع الصحراوي، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، الطبعة الأولى، 2012، ص 9.
[2] رحال بوبريك، زمن القبيلة: السلطة وتدبير العنف في المجتمع الصحراوي، مرجع سابق، ص 10.
[3] محمد سالم بن الحسين بن عبد الحي، جوامع المهمات في أمور الرقيبات، المعهد الجامعي للبحث العلمي، 1992، ص 76.
[4]رحال بوبريك، زمن القبيلة: السلطة وتدبير العنف في المجتمع الصحراوي، مرجع سابق، ص 22.
[5] محمد سالم بن الحسين بن عبد الحي، جوامع المهمات في أمور الرقيبات، مرجع سابق، ص 83.
[6] عبد الرحيم العطري، تحولات المغرب القروي: أسئلة التنمية المؤجلة، دفاتر الحرف والسؤال، 2009، الطبعة الأولى، ص 59.
[7]عبد الرحيم العطري، تحولات المغرب القروي: أسئلة التنمية المؤجلة، مرجع سابق، ص 61.
[8]عبد الرحيم العطري، تحولات المغرب القروي: أسئلة التنمية المؤجلة، مرجع سابق، ص 62.
[9]عبد الرحيم العطري، تحولات المغرب القروي: أسئلة التنمية المؤجلة، مرجع سابق، ص 61.
[10] عصام الرجواني، "الزواك"، "العار"، "التعركيبة"، "البشارة" .. كيف دبر المغاربة العنف وحفظوا السلم الاجتماعي، معلمة، https://bit.ly/3GtMGQ3 .
[11] عبد الودود ولد الشيخ، القبيلة والدولة في إفريقيا، مركز الجزيرة للدراسات، ص 21.
[12] باسم عبد الحميد حمودي، المناصب الاجتماعية والقوانين العرفية في القبيلة المغربية، جريدة المدى، العدد (06 - 135)، 16 يونيو 2004، https://almadapaper.net/sub/06-135/8.pdf ).