مقدمة

يعدُّ كتابُ “ذاكرة ملك”، إحدى المصادرِ الأساسيةِ التي لا محيدَ عنها لفهم قضية الصحراء المغربيةِ ومسلسل استعادة الوحدة الترابية خلال التاريخ الراهن، وهو في أصله حوارٌ أجراه الصحفي الفرنسي إريك لوران Éric Laurent (1947- …) مع جلالة المغفور له الحسن الثاني (1929-1999)، قُدمت خلاله أجوبة وافية عن مرحلة مفصلية من تاريخ المغرب، ويتعلق الأمر بمرحلة تصفية الاستعمار وتأسيس المغرب الحديث. وقد صدر الكتاب بنسخته العربية سنة 1993، وضم بين دفتيه مئة وثلاثاً وثمانين صفحة.

أطر الملك الراحل إجاباته فيما هو قرين بقضية الصحراء المغربية وفق منهج استقرائي رام استعراض أهم المنعطفات التاريخية، وتفسير حيثياتها بأسلوب منظم دون إهمال لأية جزئية، معللا ذلك بقوله: “كل شيء يمكن أن يوجز في معادلة إلا الإنسان”[1]. واستطاع الحسن الثاني بهذا المنهج، أن يقدم للقارئ ليس فقط إجابات، وإنما رؤى تداخلت فيها الأبعاد الفكرية بالسياسية، والعوامل الداخلية بالخارجية أو عكس ذلك، وأميط اللثام فيها عن الخلفيات الإيديولوجية المحركة؛ كل ذلك مع استحضارٍ لبعد الزمن، والانطلاق من قراءة متأنية للتاريخ، لا سيما وهو القائل في نهاية الأسئلة، أنه لو لم يكن ملكاً لتمنى أن يكون مؤرخاً[2].

ولا غرو أن قضية الوحدة الترابية قد احتلت حيزا مهما من انشغالات الملك الراحل، ذلك أنه كان يرفض أن يترك ملفات بلده الشائكة لمن سيخلفه في الحكم، ولهذا فقد حرص على تولي الحكم وتقلد المسؤولية بكل ما يتبعها من عناء ومشقة ومن خطر على حياته الشخصية.  وستنطوي محاولتنا في هذه القراءة، التعرف على طبيعة العوامل التاريخية التي مكنت المغرب من استعادة جزء مهم من أقاليمه، وبيان مواقف الأطراف الفاعلة وأبعادها الجيوسياسية، وما تبناه المغفور له الحسن الثاني من خيارات تهدف لاسترجاع وحدة المغرب الترابية.

فصل المقال فيما دار بين المغرب والجزائر من مقام

يتضمن كتاب “ذاكرة ملك” خلفية تحقيبية، وينطلق في معالجته لقضية الصحراء المغربية من سنة 1963، وهي السنة التي شهدت اندلاع حرب الرمال بين المغرب والجزائر نتيجة نزاع حدودي بين البلدين، ويشير الحسن الثاني ها هنا إلى أنه في الوقت الذي كان فيه المغرب يبذل جهودا حثيثة من أجل تصفية الاستعمار ومخلفاته، واستعادة وحدته الترابية، كان أحمد بن بلة (1916-2012) -وهو أول رؤساء الجزائر- مصراً على الاستناد للفصل المعروف من اتفاق أديس البابا القاضي بالإبقاء على الحدود كما تركها المستعمر.

ونستطيع أن نتلمس بوضوح، أن الملك الحسن الثاني لم يكن يطمح لاستعادة الوحدة الترابية للمغرب بطرق ملتوية، وهو ما يبرز أنه كان واثقا من شرعية نفوذ المغرب على أقاليمه الجنوبية. ويستعرض الحسن الثاني في هذا السياقِ كيف حاولت فرنسا في عهد شارل دوغول Charles de Gaulle‏ (1890 – 1970) أن تفاوض المغرب بشكل منفرد حول حدوده الشرقية والجنوبية، ذلك أن فرنسا كانت تعتقد منذ وقت مبكر أن الجزائر ستظل مستعمرة فرنسيةً، وأنها ستُلحق بها الصحراء الزاخرة بالثروات الباطنية. ويستذكر الملك الراحل في هذا الصدد جواب المغفور له محمد الخامس حين قال: “إنه من غير الوارد أن أتفاوض في هذه الظروف. فذلك سيكون مني طعناً من الخلف للجزائر المكافحة. إننا سنسوي قضايانا فيما بعد”.[3] من هنا يتضح أن المغفور له محمد الخامس قد كان على وعي تام بدور الجغرافيا التي هي إحدى المعطيات التاريخية الثابتة[4]، وأن الموقع الاستراتيجي للمغرب بالقدر الذي من الممكن أن يكون عاملا إيجابيا بالنسبة لنهضة البلد، إلا أنه قد يكون في الآن ذاته وبالا ولعنة عليه إن هو أساء اختيار السياسة والنهج.

لم ينحُ جلالة الملك الحسن الثاني بعيدا عن هذه السياسة، بل سار عليها بأسلوبه المتميز الذي ينم عن بصيرة ووعي بارتدادات الحاضر على المستقبل؛ فرفض اقتراح الجنرال الكتاني الرامي لشن هجوم يسمح للقوات المغربية التوغل بعمق في الصحراء، وعدل عن الخيار العسكري قائلا: صديقي العزيز. إن ذلك الهجوم لن يجدي نفعا. فأنا أنطلق من مبدأ: أن الإنسان عندما يحارب أحدا فإنما يفعل ذلك ليعيش معه في سلام على امتداد جيل على الأقل. فإن لم نكن متأكدين من أن السلم سيتحقق طيلة ثلاثين عاماً بعد الانتصار على الخصم، فإنه من الأفضل تجنب القيام بعملية عسكرية. وإلا كنا شوهنا الحاضر وعرضنا المستقبل للخطر، وتسببنا في مقتل أناس، وصرفنا الأموال لنعيد الكرّة بعد أربع أو خمس سنوات”[5].

ونريد أن نقف قليلا عند معالم سياسة الملك الراحل الحسن الثاني في تدبيره لملف الوحدة الترابية، فقد كان -رحمه الله- يأخذ بعين الاعتبار أن البلد على مشارف الدخول لعهد جديد، وأن هناك حاجة ملحة لبناء الدولة الحديثة وتحويل المغرب لبلد متقدم يليق بتاريخه العريق، غير أن هذا المطمح التقدمي كان من الممكن له أن يتعثر حال انجرار البلاد نحو الطريق السفلي، طريق الحرب والعنف. ولعل مجانبة منطق القوة الصلبة، كان نابعا من ثقة الملك بأن الحق إنما هو في الجانب المغربي، وهو حق مسنود بأدلة تاريخية دامغة استذكرها جلالته في حواره، حين عاد بنا إلى سنة 1953م، وذلك قبل شهرين من الذهاب للمنفى حين جاء باشا تندوف لتقديم البيعة، وأورد لنا العاهل الراحل كيف أن تندوف وإلى حدود السنة الآنف ذكرها، لم يكن يروج فيها إلا الطابع البريدي المغربي[6]. وعلى ضوء ما تقدم، فقد شجعت المعطيات التاريخية الملك على تبني الخيار الدبلوماسي في حل قضية الصحراء، وآمن بدور الترافع المسنود بالحجج والبراهين والأدلة الدامغة، التي تكون في كثير من الأحيان أكثر فاعلية من منطق القوة، لاسيما وإن كانت هذه القوة موجهة إلى بلد مجاور، ونستحضر في هذا السياق قوله: “اعتقدت دائما أنه ليست لي أية مصلحة في أن يصاب جيراني بالحمى، كما أنه ليس من مصلحتهم أن يصاب المغرب بمرض”[7].

لقد كان من الطبيعي، ومن المنطقي كذلك بعد نيل الاستقلال وبدء عملية تصفية الاستعمار، أن يوضع المغرب في مواجهة مصالح البلدان الأخرى، ومن بينها الجار الشقيق الذي دخل معترك السباق حول الزعامة الإقليمية[8]؛ فالمغرب كانت له حركية دبلوماسية نشيطة، بحيث سهر على احتضان المؤتمر الإفريقي بالدار البيضاء سنة 1961م، وخلال هذا المؤتمر تم تبني المبادئ العامة التي سوف تمثل إحدى اللبنات الأساسية لميثاق منظمة الوحدة الإفريقية. ومشاركة المغرب بشكل فعلي بقيادة الملك الحسن الثاني في مؤتمر حركة عدم الانحياز المنعقد ببلغراد سنة 1961م، هذا دون أن ننسى الدور الذي قام به المغرب في احتضان عدد من القمم العربية، ودور الوساطة الذي كان يقوم به في الصراع العربي الإسرائيلي.

أثار هذا الحضور القوي للمغرب في المشهد الدبلوماسي والسياسي الإقليمي حفيظة عدد من البلدان وفي طليعتها الجزائر، ما أدى إلى تعنت موقفها حيال ملف الصحراء؛ فبومدين وإن ردد باستمرار أنه يريد مغرباً مستقراً مزدهراً، إلا أنه كان يتجاهل بحسب الحسن الثاني أن يزيد على ذلك قوله “شريطة ألا يزاحم المغرب”[9].

والملمح السابق ينقلنا إلى ملمح آخر لا يقل أهمية، ويتعلق الأمر بانعكاسات التحولات الدولية في ظل الثنائية القطبية ووطأتها على الملف المغربي في قضية الصحراء، وعلى النزاع المستجد مع الجزائر؛ فالغربيون كما يصفهم العاهل الراحل لم يكونوا ينتمون إلى معسكرٍ كما هو الحال مع الاتحاد السوفياتي ومن دار في فلكهم، وإنما كانوا ينتمون لمجرد نادٍ، مع بون شاسع في أساليب التضامن بين كل جهة. وفي الوقت الذي كان فيه الجانب الجزائري والمعسكر الذي ينضوي إليه يضم ضمنه أزيد من ستين دولة، ويوفر له الاتحاد السوفياتي كل الاحتياجات اللوجستية[10]، وجد المغرب نفسه إلى جانب بلد أو بلدين، مع دعم مرهون بحسب ما تقتضيه المصالح. وأمام هذا الحال، كان على المغرب تبني سياسة تمكنه من تجاوز هذه الهوة، فراهن على تسيير هذا الملف وفق مبدأ عقلاني يتجاوز الانتماءات الإيديولوجية، وراهن على كسب ملفاته دبلوماسيا مع مختلف الأطراف.

القذافي وجبهة البوليساريو، بين التبني والتبري

لم تكن الجزائر، البلد العربي الوحيد الذي انخرط في مسلسل شد الحبل في قضية الصحراء المغربية، فيروي لنا الحسن الثاني، كيف أنه وغير بعيد عن الإقليم، شهدت ليبيا عقب سنة 1969 انقلابا عسكريا على النظام الملكي بقيادة حركة الضباط الأحرار التي تزعمها معمر القذافي، من هنا بدأ يلوح في الأفق صراع إيديولوجي بين المغرب وليبيا، ذلك أن القذافي كان يعتبر أن كل من يعتلي عرشاً خائناً بالضرورة[11]، وكان كثيرا ما يضايق العاهل السعودي، وكثير الاعتراض على آراء جلالة الملك الحسن الثاني.

لقد تعمدت الوقوف عند هذا الملمح لأنه يكاد يكون أحد أكثر العوامل أهمية لفهم الدور الليبي في النزاع، ذلك أني ممن يفضلون أن يتجاوزوا المنهج الوضعي في التحليل، ومحاولة دراسة العوامل الذهنية والفكرية والإيديولوجية التي أثرت على الحدث التاريخي بشكل أو بآخر. تحذونا الرغبة هنا للوقوف عند إحدى الشخصيات الفاعلة، وهو أحد مؤسسي البوليزاريو ويدعى “الولي”، الذي كان يتابع دراسته بكلية الحقوق بالرباط وينتمي إلى حزب التقدم والاشتراكية الشيوعي السابق، قبل أن يقوم رئيس الحزب السيد علي يعتة بطرده لميولاته التروتسكية، وينتقل بعدها لمتابعة دراسته في ليبيا.

ولما كان الزعيم الليبي رجلا ثوريا تواقاً لمنافحة المستعمر بأية وسيلة ممكنة، ولما قوبل مطمحه بالمشاركة في المسيرة الخضراء بالرفض من قبل الملك الراحل الحسن الثاني الذي كان متفطنا لطبيعة القذافي المندفعة[12]، خاصة وأنه كان حديث عهد بالحكم، مفتقرا للخبرة اللازمة. فقد كان هذا الرفض بمثابة الدافع وراء تقديم الزعيم الليبي الدعم للولي بعد الاتفاق مع بومدين بحسب ما أورده الملك الحسن الثاني في إجاباته، ومن هذا المنطلق وجد “الولي” البلد الحاضن لأفكاره، والداعم له بكل الوسائل اللوجستية لتحقيق التقدم على الأرض.

لم يكن في إقصاء الملك الراحل إذا للزعيم الليبي أية اعتبارات ذاتية، ما عدا شعوره بحجم المسؤولية الملقاة على عاتقه، خاصة وأن المسيرة الخضراء كانت تضم أزيد من 350.000 مواطن مغربي أعزل، ولم يكن للملك -والحال هذه- أن يعرض سلامة شعبه للخطر. ليس هذا فحسب، فالتكوين القانوني للمغفور له، دفعه ليأخذ بعين الاعتبار مسألة الشرعية الدولية، فكانت مبادرته (المسيرة الخضراء) مسنودة بالرأي الاستشاري لمحكمة لاهاي، الذي أقرت من خلاله في 16 أكتوبر 1975م روابط البيعة التي كانت قائمة منذ زمن بعيد بين المغرب وصحرائه. هذا في الوقت الذي لم تستطع فيه الجزائر بحسب عبد الله العروي أن تثبت أي وجودٍ لتعبير سياسي مناهض للمغرب في الصحراء، أو أي حركة سياسية مطالبة بالاستقلال فيها؛ فلو كانت “البوليزاريو” موجودة آنذاك وفق تعبير المؤرخ المغربي القدير عبد الله العروي، لما تجاهلتها محكمة العدل ولكان الأمر على غير ما يريده المغرب[13]، وهذه نقطة رئيسية تمكننا من فهم مشكل الصحراء كما كان مطروحا سنة 1974م.

وصفوة القول أنه -رحمه الله-، قد أبان عن عبقرية فذة وذكاء منقطع النظير في التوفيق بين كل الاعتبارات القانونية والتاريخية والإنسانية، واستطاع بفضل دبلوماسيته أن يتجاوز الخلاف المثار بينه وبين الزعيم الليبي، ودفعه ليكون محايدا من خلال توقيع معاهدة تتعلق بإقامة اتحادٍ إفريقي عربي يكون مقره الرباط، وأمينه العام الزعيم معمر القذافي. وقد أعقب هذا الوفاق، أول زيارة رسمية للزعيم الليبي إلى المغرب سنة 1984، والتي استمرت لثلاثة أيام سويت فيها كل المشاكل، وسجل العقيد القذافي شريط كاسيت وجه فيه نداءً للبوليساريو يقول فيه: “أبنائي الأعزاء، لقد كنت أول من أمدكم بالمساعدة، ولكني أعتقد أنكم ترتكبون خطأً، فارجعوا إلى وطنكم الأب، ولدي ضمانة بأنكم لن تتعرضوا لأي سوء”[14].

ويذكر الملك الحسن الثاني في حواره، كيف أوخذ على هذا التحالف من قبل العديد من المسؤولين، وبالأخص الجانب الأمريكي الذي لم يكن يثق بنوايا الزعيم الليبي، فكان رد جلالته: “إسمعوا، إن الأطفال الذين يقتلون في بلدي ليسوا أبناء ولاية ويومينغ أو كونيكتيكت، إنهم مغاربة”[15] كما أشاد بالزعيم الليبي بوصفه رجلا يحفظ وعوده وإن اختلفت الآراء والتوجهات.

إسبانيا في استراتيجيات الملك الحسن الثاني

فيما يتعلق بالجانب الإسباني من النزاع فإنه يكاد يكون أكثر المستويات أهمية، لأن معظم النزاعات ذات الأبعاد السيادية في العالم ترجع إلى الآثار التي ترتبت عن دخول العالم في عصر الإمبراطورية، هذا العصر الذي مثل صعود الهيمنة الإمبريالية وتعاظمها عسكريا اقتصاديا وعلميا وتقنيا، واكتساحها لجميع بقاع المعمور. وقد ينقدح في ذهن القارئ سؤال حول أحوال المنطقة ما قبل هذه الهيمنة، لقد كانت المناطق الجنوبية أرضا ذات هوية تخضع لحكم السلطان، واعتاد سلاطين الإيالة الشريفة تعيين ممثلين عن السلطة المركزية في كل منطقة، إلى أن تم احتلال وادي الذهب سنة 1884م من قبل اسبانيا وإلحاق باقي الأقاليم الجنوبية بعد فرض الحماية، ولهذا فمنذ النصف الثاني من القرن العشرين كانت إسبانيا طرفا رئيسيا في النزاع، ذلك أنها وعلى عكس فرنسا وباقي القوى الاستعمارية قد رفضت بادئ الأمر الانصياع لمقررات الأمم المتحدة المتعلقة بإنهاء الاستعمار وبميثاق حق الشعوب في تقرير المصير، فما كان من جلالة الملك الراحل الحسن الثاني بحسب ما أشار إليه، سوى اللجوء أولا لسياسة الحوار، مع الإقرار بصعوبة الأمر لسببين:

  1. كان للجيش الإسباني توجه يميني متطرف، ولم تكن للمغرب القدرة على مواجهة هذا النوع من الجيوش.
  2. ما عرف عن شخصية الجنرال فرانكو من تصلب في المواقف، يقول الحسن الثاني عنه: “أدركت لماذا أكد هتلر بعد أزيد من أربع ساعات من التفاوض معه – لكي يسمح للقوات الألمانية بعبور إسبانيا في اتجاهها إلى إفريقيا الشمالية – بأنه كان يفضل الذهاب عند طبيب أسنانه للعلاج بدون بنج على أن يذهب للتفاوض مع فرانكو”[16].

ورغم كل ذلك، لم يدخر جلالة الملك الحسن الثاني أي جهد لمحاولة التحادث، وهو الأمر الذي تم من خلال مجريات اللقاء الذي دار بينه وبين الجنرال فرانكو سنة 1971 بمدريد، قدم خلاله العاهل المغربي عرضا هو عبارة عن اتفاق تعاوني، يأخذ بعين الاعتبار سيادة إسبانيا على جزر الخالدات، ومصلحتها في توفير الحماية الإستراتيجية لها. ليس هذا فحسب، بل عرض أيضا إمكانيات التعاون الاقتصادي سواء فيما يتعلق باستثمار الثروات السطحية أو الباطنية التي تزخر بها المنطقة أو فيما يتعلق بالثروة البحرية، وذهب إلى حد اقتراح إقامة قواعد عسكرية إسبانية في إطار اتفاق يتم على قدم المساواة.. وعلى الرغم من سياسة اللين التي انتهجها الملك الحسن الثاني إلا أن رأي الجنرال فرانكو لم يتزعزع، وقد أرجع جلالته سبب ذلك إلى وجود هوة بين جيلين أدت إلى عدم التفاهم، واعتبر أن الجنرال فرانكو كانت تخونه القدرة على استشراف المستقبل[17]. وبالفعل، فقد خسرت إسبانيا الكثير من هذا التعنت، فهي وإن لم تخرج بادئ الأمر بقوة الدبلوماسية وحدها، فقد خرجت بعد ذلك بقوة الواقع الذي فرضته عليها المسيرة الخضراء عليها…

ويورد كتاب “ذاكرة ملك” إشارات تتعلق بظروف استعادة إقليم وادي الذهب سنة 1979م، ومن ذلك ملابسات اللقاء السري الذي كان من المقرر أن يجمع العاهل المغربي في نفس السنة ب”بومدين” في بلجيكا لتسوية قضية الصحراء، إلا أن الأخير سقط طريحا للفراش وتوفي بعد ذلك، ولم تتم تلك التسوية التي كان جلالة المغفور له متشائما حيالها؛ ذلك أن التفاوض كان يتعلق بالجزء العلوي من الصحراء، أما إقليم وادي الذهب فلم يكن الجزائريون سيقبلون أن يسترد المغرب هذا الإقليم، وكان قادة البوليساريو في الآن ذاته يترقبون فرصة أن يخليَهُ الموريتانيون، بعدما كانت اتفاقية مدريد (1975) تقتضي خروج إسبانيا من الأقاليم الجنوبية ليتشارك الجانب الموريتاني والمغربي مهمة تسيير شؤونها. يقول المغفور له الحسن الثاني: “لقد فطنت لذلك وقمت أنا ووزيري في الداخلية إدريس البصري والأركان العامة للقوات المسلحة الملكية بإعداد إدارة محلية انكبت على دراسة الخرائط الجغرافية. وذات صباح باكر، وبعد أن غادر آخر جندي موريتاني برج المراقبة بالداخلة، أقمت جسرا جوياً تم عن طريقه نقل جميع السلطات العسكرية والمدنية والقضائية ومسؤولي الأشغال العمومية”.

خاتمة

وعلى العموم، فقد حافظ جلالة الملك الحسن الثاني طوال مسلسل استعادة الوحدة الترابية على سياسة متأنية مبنية على الحكمة وبعد النظر، ومحاولة تجنب الخيار العسكري ما أمكن، ليس حفاظا على أمن المملكة وحسب، بل حرصا على ألا يعم الخراب كامل الشمال الإفريقي. وقد حذتنا الرغبة للوقوف عند معالم السياسة المغربية في تدبير قضية الوحدة الترابية على عهد الملك الراحل الحسن الثاني، لا لمجرد نزوة نوستالجية، وإنما لتكوين وعي مستقبلي بالسبل القويمة في إدارة النزاعات، وتجاوز الأنماط القديمة التي لا ترى في الحرب والعنف والقوة غير خيارها الوحيد.

المراجع
[1] الحسن الثاني، ذاكرة ملك، حوار مع إيريك لوران، (الشرق الأوسط، ط2، 1993)، ص47.
[2] الحسن الثاني، ذاكرة ملك، مرجع سابق، ص177.
[3] الحسن الثاني، ذاكرة ملك، مرجع سابق، ص48
[4] الحسن الثاني، ذاكرة ملك، مرجع سابق، ص83
[5] الحسن الثاني، ذاكرة ملك، مرجع سابق، ص50.
[6] الحسن الثاني، ذاكرة ملك، مرجع سابق، ص48
[7] الحسن الثاني، ذاكرة ملك، مرجع سابق، ص 84.
[8] محمد القبلي، تاريخ المغرب تحيين وتركيب، المعهد الملكي للبحث في تاريخ المغرب، الرباط، 2011، ص646.
[9] الحسن الثاني، ذاكرة ملك، مرجع سابق، ص52.
[10] الحسن الثاني، ذاكرة ملك، مرجع سابق، ص 116
[11] الحسن الثاني، ذاكرة ملك، مرجع سابق ، ص84.
[12] الحسن الثاني، ذاكرة ملك، مرجع سابق ص86
[13]  Laroui (Abdallah), esquisses historiques, centre culture Arab, 1993, p151.
[14] الحسن الثاني، ذاكرة ملك، مرجع سابق، ص88.
[15] الحسن الثاني، ذاكرة ملك، مرجع سابق، ص86.
[16] الحسن الثاني، ذاكرة ملك، مرجع سابق، ص111
[17] الحسن الثاني، ذاكرة ملك، مرجع سابق، ص112