محمد بن حدو أعطار، من أهم الشخصيات المغربية البارزة في الدبلوماسية المغربية، ومن رجالات الدولة الكبار الذين بصموا تاريخ المغرب في فترة السلطان القوي المولى إسماعيل العلوي (1672-1727م). ورغم الأدوار الكبيرة التي لعبها محمد بن حدو أعطار في علاقات البلاط الإسماعيلي (نسبة إلى المولى إسماعيل العلوي) مع الإنجليز على وجه الخصوص ومع عدد من السفراء الأوربيين لدى المغرب، فإن بن حدو لم يكن له حظ مع المصادر التاريخية المغربية، وذلك عكس المصادر الأوربية التي اهتمت بابن حدو على العموم. فنجد “النقيب المؤرخ مولاي عبد الرحمن ابن زيدان خصص مخطوطته النفيسة (النْزَع اللطيف في التلميح لمفاخر مولاي إسماعيل ابن الشريف)، أفرد الباب الثامن منها لعلائق مولاي إسماعيل السياسية، والثاني عشر لوزرائه، والرابع عشر لذكر عماله، والخامس عشر لسفرائه إلى الدول الأوربية وغيرها…ولكن كل تلك الأبواب كانت لا تحتوي على اسم محمد بن حدو”.[1]

من هو محمد بن حدو أعطّار (العطار)

ينتمي محمد بن حدو أعطار (العطّار) إلى أسرة لها باع طويل في العمل بدواليب الدولة المغربية منذ الدولة السعدية (الزيدانية)؛ فجده كان خادما ببلاط أحمد المنصور السعدي (المنصور الذهبي) وابنه زيدان، بينما اشتغل والده مع عدد من الأمراء السعديين في الأيام الأخيرة للدولة السعدية. وقد ذكر محمد بن حدو في رسالة له إلى ملك انجلترا في سنة 1681م، أنه كانت لجده ووالده علاقات بالأوربيين وإطلاع على شؤونهم، بل إن والدته كانت من “العلوج”، وإن كانت جنسيتها الأصلية غير معروفة.[2]

ويعتقد المؤرخ والدبلوماسي عبد الهادي التازي أن أصول محمد بن حدو أعطار تعود إلى بيت الشرفاء أولا أعطَّار بمنطقة سوس، والذين تقلدوا مناصب عدة في الدولتين السعدية والعلوية، ومنهم أبو عثمان سعيد بن إبراهيم الذي فوض إليه السلطان أحمد المنصور السعدي سنة 1584م/992ه أمر منطقة سوس، والقائد أبو عثمان سعيد بن محمد بن حدّو أعطار، وكذا القائد الحاج علي بن عبد الله أعطار الأسفي الذي كان من المحظوظين لدى السلطان المولى عبد الله بن إسماعيل.[3]

إن الخلفية العائلية لمحمد بن حدو أعطار ولد لديه استعداد وقدرة للتعامل مع الأوربيين، والاهتمام بصفة عامة بكل ما له علاقة بالعلاقات الخارجية والتعامل مع الأجناس الأخرى والتفاوض مع الأوروبيين على وجه الخصوص، الأمر الذي شجع المولى إسماعيل على تعيينه لمهمة الكلام مع ممثلي الدول المسيحية في المغرب في كل ما يتعلق بمشاكل عصره من أمور البحر (الشؤون الخارجية) والتجارة وافتكاك الأسرى والتبادل الدبلوماسي.

سفارة محمد بن حدو أعطَّار إلى إنجلترا

لقد كانت قضية احتلال طنجة من طرف الإنجليز ابتداء من سنة 1661م/1072ه من القضايا الأساسية التي كانت محورا للمباحثات المغربية الإنجليزية في ذلك الوقت. ومن أجل التقدم في مفاوضات وضع حد للاحتلال الإنجليزي للمدينة، عين المولى إسماعيل في دجنبر من سنة 1681م السيد محمد بن حدو أعطار سفيرا له في  لندن وذلك بغرض التفاوض مع انجلترا حول اتفاقية سلم بين البلدين تحل محل عقد الهدنة المؤقت الذي كان يمتد لمدة أربع سنوات، والذي تم توقيعه في مكناس في مارس من سنة 1681م.[4] واستمر مقام بن حدو بالعاصمة البريطانية لندن ما يزيد عن ستة أشهر، حيث لم يعد إلى المغرب إلا في شتنبر من سنة 1682م. وقد كان محمد بن حدو مرفوقا بمساعده الكاتب محمد الوَقَّاش الذي يعتبر من الشخصيات المهمة في العهد الإسماعيلي، كما كان بجانبه في البعثة الدبلوماسية مساعده محمد الحافظ، إضافة إلى ترجمان من أصل إنجليزي كان قد اعتنق الإسلام.[5]

استقبال محمد بن حدو في لندن

وخلال مقامه بالعاصمة الإنجليزية لندن اسْتُقبل أعطار من طرف الملك شارل الثاني -1660م/1685م- (Charles 2nd)  يوم 11 يناير 1682 بقصر وايت هول (White Hall)، وكذا من طرف أعيان الدولة. وقد أورد عبد الهادي التازي وصفا مفصلا لمراسيم زيارة بن حدو للندن ومختلف الأنشطة التي قام بها، وهو الوصف الذي أنجزه السير جوهن إيفيلين (John Evelyn)، ويقول فيه: “لقد شهدتُ استقبال السفير المغربي…، ولقد استقبل من لدن صاحب الجلالة في صالة الولائم، وحضر إلى كرسي العرش دون أن يقوم بأية إشارة من إشارات الإجلال والخضوع، فلم يُطأطئ رأسه ولم يركع أمام الملك… وقد كان يتكلم بواسطة الترجمان الإنجليزي الذي رافقه، وقد كان جميعهم يرتدي ملابس الزي المغربي: قفاطين ملونة وأقمشة حريرية ذات أزرار وعرىً، وقد ارتدوا فوق كل ذلك (حَايْكًا) أبيض فضفاضا بما فيه الكفاية، بحيث يغطي الرأس والجم… وقد جعل السفير على رأسه عمامة خفيفة. كانت أذرعتهم وسوقهم بادية، وكانوا ينتعلون أحذية على نحو ما يفعل الأتراك…”.[6]

واستمر السيد إيفيلين (John Evelyn) في سرد تفاصيل دقيقة حول الملامح الخِلْقية ومظهر السفير بن حدو، وأيضا للأجواء التي مرت فيها مراسيم الإستقبال، ومختلف الزيارات التي قام بها الوفد في لندن. ومن الأنشطة البارزة التي تحدث عنها أفيلين المأدبة التي أقامتها الخليلة الفرنسية للملك شارل الثاني، فقدم وصفا شاملا لكيف سارت أطوار المأدبة وكيف تصرف الوفد المغربي خلالها. ومن الأماكن التي تردد عليها بن حدو وأفراد بعثته حديقة هايد بارك (Hyde Park) الشهيرة وسط لندن، حيث كان يقصدها على صهوة الجواد الذي خصص له، ويقوم صحبة أفراد البعثة ببعض ألعاب الفروسية الجريئة (حركات التبوريدة). كما قام السفير-حسب إفيلين دائما- بزيارة عدد من المسارح الإنجليزية  وشاهد بعض المسرحيات الهزلية، وزار جامعة كامبردج العريقة (Univeristy of Cambridge) وأقيمت له فيها مأدبة من طرف نائب رئيس الجامعة وعمداء الكليات[7]. وقد خلص إفيلين بعد هذا الإستعراض والوصف، إلى مقارنة دالة للسفير المغربي بالسفير الروسي الذي كان يتواجد آنذاك صدفة في مهمة للقيصر الروسي لدى ملك انجلترا فقال إيفيلين: “وباختصار، فإن سلوك السفير الروسي لدى البلاد كان سلوكا فضاُّ وخشناُ، إذا ما قورن بهذا السفير المتمدن”.[8]

نتائج سفارة محمد بن حدو في لندن

لقد ترك محمد بن حدو خلال مختلف لقاءاته في لندن انطباعا جيدا في صفوف النخب الإنجليزية، الأمر الذي حدا بالجمعية الملكية للعلوم (The Royal Society) إلى تخصيص استقبال له يوم 26 أبريل 1682 ومنحت له عضوية شرفية في صفوفها، وذلك بحضور رئيس الجمعية كريستوفر ورن(Sir Christopher Wren) ، كما كتب اسمه في سجل الأكاديمية بالحروف العربية[9].

وعلاقة بالمهمة التي تفاوض بشأنها هناك فقد توصل أعطار في شهر مارس من سنة 1682 إلى مشروع “اتفاقية سلم وتجارة”، وكان يفترض أن تدخل حيز التنفيذ بعد المصادقة عليها من طرف عاهلي البلدين.[10] وقد عاد السفير ابن حدو إلى طنجة ما بين الثلاثين غشت وتاسع شتنبر 1682، ومن طنجة سافر إلى مكناس حيث قدم تقريره إلى السلطان مولاي إسماعيل. ورغم تمكنه من التوصل إلى مشروع “اتفاقية سلم وتجارة” مع ملك إنجلترا فإن السلطان مولاي إسماعيل رفض التوقيع على مشروع المعاهدة الذي توصل إليه أعطار مع عاهل انجلترا الملك شارل الثاني، بل وعبر عن استياءه من الطريقة التي تعامل بها السفير مع الإنجليز، والذي بقى غير معروف بالضبط. لكن أعطار يلقي باللائمة فيما حدث على أحمد بن حدو الحمامي، والذي كان كاتبا بالبلاط الإسماعيلي ومكلفا بتدبير الشؤون الخارجية للدولة ووسيط بين المغرب وممثلي القوى الأوروبية في المغرب، وهو الذي كان وراء التوقيع على هدنة مؤقتة مع الإنجليز بشأن مدينة طنجة سنة 1681م. وبسبب المنافسة بين الرجلين فقد عمل احمد بن حدوا الحمامي على إفساد سمعة أعطار لدى السلطان، فاتهمه بالتساهل في تفاوضه مع الإنجليز واعتبر أن أعطار ربما ذهب بعيدا في صداقته لهؤلاء. فكانت نتيجة ذلك أن غضب مولاي إسماعيل على أعطار وأبعده عن خدمته، بل كاد يفتك به حسب ما أورد أعطار في مراسلاته.[11] لكن يبقى السبب الرئيسي لرفض المولى إسماعيل التوقيع على اتفاقية هو استمرار احتلال الإنجليز لطنجة وكذلك بسبب تعقد مشكلة الأسرى.[12] وقد يرجع السبب أيضا إلى كون السفير ربما كان طمّع انجلترا بأمل بقائها في طنجة، الأمر الذي أغضب المولى إسماعيل.[13]

ورغم، ما وقع بشأن مشروع “اتفاقية سلم وتجارة” مع الإنجليز، فإن هؤلاء اضطروا في الأخير إلى الانسحاب من مدينة طنجة بأمر من الملك شارل الثاني وذلك بفعل المضايقات العنيفة التي فرضها المولى إسماعيل على مدينة طنجة منذ سنة 1679، وأيضا بسبب تخوف مجلس العموم البريطاني في لندن من قيام المالك شارل الثاني الذي كان يتعاطف مع الكاثوليكيين بانقلاب ضد البرلمان، لذا تقرر إخلاؤها سنة 1684 بعد تحطيم كل تحصيناتها، وهو الأمر الذي يتوافق مع رغبة الرأي العام البريطاني الذي استقبل بارتياح تسليم مدينة طنجة للمولى إسماعيل بدلا من سقوطها في أيادي خصوم بريطانيا الكاثوليك.[14] ومن جهة أخرى، فإن بن حدو أعطار استعاد مكانته المتميزة داخل البلاط الإسماعيلي بفضل وساطة أحد القواد المخزنيين الذي كانت تربطه به علاقة مصاهرة. فعاد أعطار إلى صفوف المقربين إلى السلطان بل أصبح من “أهل ديوانه وخاصته”. وهكذا، وخلال العقد الأخير من القرن التاسع عشر كان أعطار هو المحاور  الرئيسي للسفراء الأوربيين في المغرب، وقد استمر في خدمة المولى إسماعيل إلى حدود سنة 1722 عندما استقبل السفير الإنجليزي ستيوارت (Stewart)، ثم لم يعد يذكر له وجود بعد هذا التاريخ.[15] وقد توفي السلطان مولاي اسماعيل بعد خمس سنوات من هذا التاريخ (1727)، ولا يعرف هل امتد العمر بمحمد بن حدو أعطار فيما بعد؟، وقد يكون الزلزال المعروف بزلزال لشبونة سنة 1755م، هو من الأسباب التي أدت إلى اختفاء الوثائق المغربية عن محمد بن حدوا أعطار.[16]

المراجع
[1] التازي عبد الهادي، محمد بن حدو سفير السلطان مولاي إسماعيل لدى الملك شارل الثاني وأول مغربي ينتسب للجمعية الملكية الإنجليزية، الأكاديمية (مجلة أكاديمية المملكة المغربية)، ع2، فبراير 1985، ص: 57-58.
[2] محمد المنصور، معلمة المغرب، ج2، منشورات الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر ودار الأمان، ط2، 2014، ص 520.
[3] التازي عبد الهادي، محمد بن حدو سفير السلطان مولاي إسماعيل لدى الملك شارل الثاني وأول مغربي ينتسب للجمعية الملكية الإنجليزية، مرجع سابق، ص 62.
[4] محمد المنصور، معلمة المغرب، مرجع سابق، ص 521.
[5] التازي عبد الهادي، محمد بن حدو سفير السلطان مولاي إسماعيل لدى الملك شارل الثاني وأول مغربي ينتسب للجمعية الملكية الإنجليزية، مرجع سابق، ص 62.
[6] التازي عبد الهادي، محمد بن حدو سفير السلطان مولاي إسماعيل لدى الملك شارل الثاني وأول مغربي ينتسب للجمعية الملكية الإنجليزية، مرجع سابق، ص 63.
[7] التازي عبد الهادي، محمد بن حدو سفير السلطان مولاي إسماعيل لدى الملك شارل الثاني وأول مغربي ينتسب للجمعية الملكية الإنجليزية، مرجع سابق، صص 63-67.
[8] التازي عبد الهادي، محمد بن حدو سفير السلطان مولاي إسماعيل لدى الملك شارل الثاني وأول مغربي ينتسب للجمعية الملكية الإنجليزية، مرجع سابق، صص 63-67.
[9] التازي عبد الهادي، محمد بن حدو سفير السلطان مولاي إسماعيل لدى الملك شارل الثاني وأول مغربي ينتسب للجمعية الملكية الإنجليزية، مرجع سابق، ص 69.
[10] محمد المنصور، معلمة المغرب، مرجع سابق، ص 521.
[11] محمد المنصور، معلمة المغرب، مرجع سابق، ص 520-521.
[12] بن الصغير خالد، المغرب وبريطانيا العظمى في القرن التاسع عشر (1856-1886)، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، مطبعة النجاح الجديدة، ط2ن 1997، ص 42
[13] التازي عبد الهادي، محمد بن حدو سفير السلطان مولاي إسماعيل لدى الملك شارل الثاني وأول مغربي ينتسب للجمعية الملكية الإنجليزية، مرجع سابق، ص 73.
[14] بن الصغير خالد، المغرب وبريطانيا العظمى في القرن التاسع عشر (1856-1886)، مرجع سابق، ص 42-43.
[15] محمد المنصور، معلمة المغرب، مرجع سابق، ص 521.
[16] التازي عبد الهادي، محمد بن حدو سفير السلطان مولاي إسماعيل لدى الملك شار الثاني وأول مغربي ينتسب للجمعية الملكية الإنجليزية، مرجع سابق، ص 80.