مقدمة

تزخر الثقافة المحلية بمنطقة شمال أفريقيا بطقوس وأعراف وتقاليد متعددة لتدبير حالات النزاع والصراع والحيلولة دون وصولها لدرجات متقدمة. حيث تلعب طقوس طلب الحماية و”رمي العار” وغيرها من الممارسات الاجتماعية أدوارا حيوية في ضمان السلم الاجتماعي ووسيلة لإعادة تعريف وضعيات الصراع وتجديد أرضيات التفاوض لضمان السلم وتنفيس الاحتقان، باعتبارها آليات للوساطة الاجتماعية والسياسية تعبر عن نبوغ العقل المحلي وخبرته الحضارية المتميزة في إنتاج آليات للانتظام الذاتي تضمن توازن المجتمع واستمراريته.

“الزواگ”: ماذا يعني المغربي بالقول “أنا مزاوگ فيك”؟

يُقصد بـ”الزواگ” خروج الشخص من بين ظهراني أهله وقبيلته متغربا طالبا الحماية واللجوء من غيرهم، وقد يكون هذا الفعل إراديا أو تطبيقا لعقاب الجماعة نتيجة ارتكاب الشخص فعل تجرمه الجماعة. وفي المصدر الأمازيغي لكلمة “أزواگ” نجدها تعني طلب الرجل الحماية من الآخر أو الدخول في كنفه استعطافا له وطلبا لعفوه، ومن هنا نجد في الدارجة المغربية عبارة “أَنَا مْزَاوْكْ فيك” بمعنى أنا لائذ بك.[1]

إذن يمكن القول بأن “الزواگ” هو شكل من أشكال الحرم، يتوخى من خلاله “المُزَاوگ” ضمان الحماية من شر يتهدده، سواء كان مذنبا أو في حالة تمرد على والٍ أو سلطان.[2] ولهذه المؤسسات والطقوس تعظيما خاصا في الوجدان الشعبي للمغاربة عبر التاريخ، بل حتى السلطة المركزية لم تكن تتجرأ على انتهاك حرمة هذه المؤسسات والطقوس، دون أن يعني ذلك بأنها لم تقترف انتهاكات من هذا القبيل لفرض هيبتها وسلطتها، وتاريخ هذه المؤسسات حافل بعدد من الوقائع في هذا الباب. فتراجع هيبة الحرم الدينية خلال القرن التاسع عشر وما تلاه أدى إلى أشكال جديدة تؤدي ذات الوظيفة لكن بشكل يؤدي إلى تكريس السلطة المخزنية كالزواگ بالسلاطين وولاتهم رغبة في العفو والأمان.[3]

وفي هذا السياق ظهر ما يسمى بـ “زواگ المدفع” وهو حرم مخزني والمقصود به الاحتماء بمدافع السلطان لإثارة انتباهه لمظلمة، أو طلبا للعفو والصفح، على الرغم من أن السلطة المخزنية كانت ترفض هذا الشكل من الحرم ذي الأصول المسيحية، حيث كان القاضي في كثير من الأحيان يصدر أوامره بالقبض على الجناة.[4]

ولا غرابة في استثمار القوى الاستعمارية آلية التعطيل الممنهج لفعالية مؤسسات الحرم، لتظهر أشكال جديدة من الحرم لغايات استعمارية بشكل أساسي، حيث ظهر ما يسمى بـ “زواگ القنصل”، حيث يحتمي المزاوگ بدار القنصل الأوروبي.[5] وهو الأمر الذي سيؤدي إلى تشكيل فئة اجتماعية هم فئة المحميين المغاربة والتي حظيت بامتيازات الحماية الأجنبية لها، لتنتقل القوى الاستعمارية من حماية العباد إلى حماية البلاد بعد ذلك.[6]

“العار“: اللعنة المشروطة

تعادل كلمة “العار” في العرف المغربي مفهوم الاستجارة وطلب الحماية.[7] فبمقتضى “العار” يصير الشخص المستجار به تحت ضغط معنوي يجعله ملزما لتلبية طلب المستجير وطالب الحماية. وقد جرت العادة عند المغاربة بعدم رد “العار” نظرا للاعتقاد في أن رده يجلب العقاب السماوي الذي قد يصيب من يرده في ذاته أو في ماله أو أهله[8].

وهناك تفسير آخر لمسألة “العار” وهو تفسير اجتماعي محض يعتبر بأن المراد من العار هو السبة التي تنزل بالشخص في أعين المجتمع لإخلاله بقواعد المروءة التي تقتضي المساعدة عند الاستطاعة، فالمسألة لها علاقة مباشرة بالقيم الاجتماعية التي ترتبط أساسا بقيمة الشرف.[9] وفي العموم هناك حالات كثيرة يتم فيها اللجوء للعار، لكن أكثرها شيوعا هو “رمي العار” طلبا للمساندة لدفع عدوان، أو الاقتصاص من معتد، أو كسب حلف لمواجهة خصم.[10]

ولـ”رمي العار” طقوسا خاصة كتقديم ذبيحة أو اللجوء إلى “التعرگيبة” (كما سنرى في المحور الموالي). كما قد تستخدم فيه النساء والأطفال لإبلاغ رغبة المستجير. ولا زال طقس “رمي العار” مستمرا إلى اليوم، بل حتى في الحياة السياسية؛ فنجد في العمليات الانتخابية كيف أن المرشحين في البوادي يلجؤون إلى هذه العادة لكسب أصوات الناخبين أو لطلب دعم الأعيان الذين لهم تأثير سياسي في أوساطهم.[11] وفي العموم يلتقي مفهوم العار بمفهوم الزواگ كونه وسيلة لطلب الحماية والاستجارة، و”كلها آليات كانت تلجأ إليها المجتمعات التقليدية للحد من العنف وضمان توازنات مجتمعية ضرورية، خاصة عندما تغيب القوة السياسية الرادعة”[12].

طقس “التعرگيبة”: كيف يُعزز الدم تحقيق الصلح وإنهاء النزاعات؟

يرجع أصل كلمة “التعرگيبة” إلى فعل “عرقب” ويقال عرقب الرجل الدابة إذا قطع عرقوبها، أي عصب رجلها،[13] ويلجأ الناس في العادة إلى قطع عصب الأرجل الأمامية للدابة ضمن طقوس معينة و”مناسبات خاصة ترتبط “بطلب الشفاعة” أو “طلب العار” وترمز الدابة المعرقبة، وهي منحنية إلى الأمام، إلى وضعية الخضوع التي يوجد فيها المستجير أو طالب العار وإلى إقراره بالضعف والغلبة وبالتالي حاجته إلى الحماية والمؤازرة التي ينتظرها من جهة قادرة على تلبية رغبته”.[14]

وتجدر الإشارة إلى أن هذه الممارسة قد ارتبطت بطقس “رمي العار” والذي يصبح أكثر قوة وفعالية خاصة إذا ارتبط بـ”الذبيحة” وإراقة الدم، حيث يعمد طالب العار إلى إحراج الشخص المستجار به، ويكون بذلك قد “رمى عليه العار” وهو بحسب فيستر مارك بمثابة لعنة مشروطة وفق المعتقدات المحلية قد تحل بالشخص المقصود في حالة عدم الاستجابة.[15] ويتم اللجوء إلى طقس “التعرگيبة” في مناسبات كثيرة، ففي حالات القتل يتقدم بها القاتل بين يدي أسرة المقتول، كما كانت تقوم بها القبائل لطلب نصرة ومساندة قبائل أخرى في مواجهة خصومها. كما تم اللجوء إليها لطلب عفو السلطان، بل قد ذكر ديل إيكلمان بأن قبائل تادلة قد لجأت لطقس “التعرگيبة” سنة 1955 لإيقاف القصف الجوي الفرنسي الذي تعرضت له كنتيجة لأحداث وادي زم في تلك السنة.[16]

“البْشارة”: نظام قبلي لمراقبة اللصوصية وحفظ الأمن

تعتبر “البْشارة” أو “تَبْشارت” باللغة الأمازيغية من الظواهر المعروفة في القبائل المغربية، ويقوم بها “البْشار” أو “أَبْشار” بالأمازيغية، والذي يعني الشخص الذي يأتي بالخبر المفرح، فأصلها العربي يرجع لفعل “بشَّر”.[17] وتتجلى مهمة “البْشَّار” في إخبار من سرقت أغراضه وممتلكاته بمكان وجودها والعمل على استرجاعها، وترتبط مؤسسة “البْشارة” بظاهرة اللصوصية التي لازمت المجتمع القبلي والصراعات التي كان يعرفها.[18] وغالبا ما يكون عند كل قبيلة “بْشارها” ففي قبائل زمور مثلا كان يسمى عندهم بـ “أبشار نقبلت” أو “أسيد نقبلت” أي “ضوء القبيلة”، حيث يتولى مهمة البحث عن المسروقات والإخبار عن مكانها،[19] لكنه يختلف عن دور “البْياع” والذي في الغالب يخدم مصالح اللصوص والسراق حيث يخبرهم بمحتويات الضيعات ليشنوا عليها غاراتهم، في حين أن “البْشار” فهو يخدم مصالح الشخص الذي سرقت ممتلكاته، مقابل أجر معين يتم الاتفاق عليه.[20] وبشأن دورها الاجتماعي تقول رحمة بورقية بأن البشارة هي “آلية من الآليات المتعددة التي كان النظام القبلي ينتجها للمحافظة على توازنه. ففي غياب جهاز منظم للمراقبة ولإثبات الأمن، نجد عددا من المؤسسات تقوم بتلك الوظائف. وإذا كانت اللصوصية مبدئيا هي الاعتداء على الآخرين ومناسبة لانفجار العنف المطلق، فإن هذا العنف لا يصل إلى حده الأقصى نظرا لوجود مؤسسات من بينها البشارة، تقلص دائما من حدته وتعمل على حفظ التوازن وضمان أمن قد يكون مؤقتا”.[21]

المراجع
[1] التوفيق، أحمد. (2014). مادة أزواك. في معلمة المغرب. (الطبعة الثانية. الجزء 2). الرباط: الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر ودار الأمان. ص. 367.
[2] العمراني، محمد. (2014). مؤسسة الحرم في تاريخ المغرب: دراسة تاريخية لمسألة الاحتماء بالمؤسسات الدينية والاجتماعية خلال الفترتين الحديثة والمعاصرة. فاس: مطبعة آنفو-برنت. ص: 76.
[3]  العمراني محمد. مؤسسة الحرم في تاريخ المغرب. مرجع سابق، ص. 84.
[4] Salmon, Georges. (1905). Le droit d’asile des canons. in Revue Archives Marocaines, Publié par la Mission Scientifique du Maroc. Volume III. p. 147.
[5] Ibid. p. 145.
[6]  كنبيب محمد. (2011). المحميون. الرباط: كلية الآداب والعلوم الإنسانية.
[7]  المنصور محمد. (2003). مادة العار. في معلمة المغرب. (الجزء 17). سلا: الجمعية المغربية للتأليف والترجمة ومطابع سلا. ص. 5833.
[8]  المنصور محمد. معلمة المغرب. مرجع سابق. ص 5833.
[9]  المنصور محمد. (2014). مادة التعرگيبة. في معلمة المغرب. (الطبعة الثانية. الجزء 7). الرباط: الجمعية المغربية للتأليف والترجمة ودار الأمان. ص 2411.
[10] المنصور محمد. مادة العار. معلمة المغرب. مرجع سابق. ص 5833.
[11] المنصور محمد. مادة العار. معلمة المغرب. مرجع سابق. ص 5834.
[12] المنصور محمد. مادة العار. معلمة المغرب. مرجع سابق. ص 5834.
[13] المنصور محمد. مادة التعرگيبة. معلمة المغرب. مرجع سابق. ص. 2411.
[14] المنصور محمد. مادة التعرگيبة. معلمة المغرب. مرجع سابق. ص. 2411.
[15]  المنصور محمد. مادة التعرگيبة. معلمة المغرب. مرجع سابق. ص. 2411.
[16] المنصور محمد. مادة التعرگيبة. معلمة المغرب. مرجع سابق. ص. 2411.
[17]  بورقية رحمة. (1991). مادة بشَّار. في معلمة المغرب. (الجزء 4). الرباط: الجمعية المغربية للتأليف والترجمة ودار الأمان. ص 1245.
[18]  بورقية رحمة. في معلمة المغرب. مرجع سابق. ص 1245.
[19]  بورقية رحمة. في معلمة المغرب. مرجع سابق. ص 1246.
[20]  بورقية رحمة. في معلمة المغرب. مرجع سابق. ص 1246.
[21]  بورقية رحمة. في معلمة المغرب. مرجع سابق. ص 1246.