بين يدي التقديم

عرف مطلع القرن العشرين بزوغ أسماء وازنة أبدعت في مجالات معرفية مختلفة، وشكلت النواة الأولى لنهضة ساهمت بشكل معتبر  في الارتقاء بالوعي الجمعي، وفتحت من جديد بابا مشرعا تمّ من خلاله -وعلى مراحل – لفت انتباه المشارقة والعالم إلى نبوغ المغاربة في مجالات معرفية شتى.

وعند ذكر هذه الشخصيات، لا يمكن تجاوز اسم “التهامي الوزاني” كعلَامة فارقة في نهضة المغرب الفكرية والعلمية والأدبية والسياسية، التهامي الوزاني (1903م – 1972م) الرجل المتعدد المواهب، المتنوع التكوين، الفقيه الصوفي المؤرخ الأديب الصحفي، نشأ يتيما فقيرا في حضن والدته وجدته لأبيه، وعلى عادة أبناء جيله، حفظ القرآن الكريم وعددا من المتون في الفقه واللغة والنحو، فشاع اسمه بين أقرانه، واشتهر  بذكائه و فطنته، إذ انكب مبكرا على الدرس والمطالعة، ثم ما لبث أن خاض تجربة صوفية مبكرة وعمره إذ ذاك ستة عشر عاما، غذاها أمران اثنان: إقباله النهم على قراءة كتب القوم، مثل كتاب “الفتوحات المكية ” لابن عربي، وكتاب “الفهرس” لابن عجيبة… ومصاحبة الشيخ إدريس الحراق شيخ الزاوية الحراقية. ثم سرعان ما عاش تحولات عميقة أثْرت حياته، وأغنت مساره، ونوّعت عطاءه، فاشتغل بالدعوة والتوعية الدينية من خلال منابر مساجد تطوان، وبالعمل الوطني من خلال التحريض ضد الاستعمار الإسباني، والعمل السياسي بالمشاركة في تأسيس “حزب الإصلاح الوطني” للمطالبة بالاستقلال بمعية عبد الخالق الطريس، وبالعمل الصحفي من خلال جريدة (الريف)، ثم المشاركة في عملية التجسير الثقافي بين الأدب المغربي والأدب الإسباني من خلال ترجمة أعمال أدبية، فكان له الأثر الواضح في تاريخ الثقافة المغربية المعاصرة، يكفي أن نذكر منها: تاريخ المغرب في 3 أجزاء – التاريخ العام للأطفال – المغرب الجاهلي – الزاوية – فوق الصهوات – سليل الثقلين – الباقة النضرة – مدرسة لوقش – المقاومة المسلحة والحركة الوطنية في شمال المغرب، الرحلة الخاطفة.. مشاهدات ولقاءات في القاهرة سنة 1957، فضلا عن أعمال ما زالت مخطوطة إلى اليوم.

تقديم الكتاب

بعد مرور عقود على طبعته الأولى، (1942م) انبعث كتاب “الزاوية”مثل فينيق يوناني، على مراحل متباعدة ليحوز كل مرة اهتماما جماعيا من لدن عدد من الدارسين والنقاد: (1942م صدور الطبعة الأولى) – ( 1969م مقال عبد الجبار السحيمي يتساءل فيه هل يمكن اعتبار الزاوية أول عمل سردي ذاتي مغربي) ( 1988م ندوة اتحاد كتاب المغرب حول التهامي الوزاني: الكتابة – التصوف – التاريخ، بمشاركة عدد من الكتاب والنقاد المغاربة: إبراهيم الخطيب –محمد الصباغ – أحمد زيادي – عبد الحميد عقار – إدريس الناقوري…) –  (1996م عبد القادر الشاوي يخص الزاوية بدراسة تحت عنوان: الذات والسيرة) – ( 1999م صدور الطبعة الثانية) – (2020م الطبعة…..).

وقد ظل هذا العمل السردي الماتع– في كل مراحله -مستعصيا على التجنيس، إذ قدّمه البعض على أنه رواية، وقدّمه آخرون على أنه سيرة ذاتية، بل ذهب آخرون إلى أنه كتاب تاريخ، بل ميكرو تاريخ.

الزاوية كتاب/رواية

تعددت تعريفات جنس الرواية وتنوعت حد الاختلاف، بل إن باختين يرى أن “تعريف الرواية لم يجد جوابا بعد بسبب تطورها الدائم”، ويعلن روجر آلن: “الرواية نمط أدبي دائم التحول والتبدل، يتسم بالقلق بحيث لا يستقر على حال”، ويقول فورستر: “الرواية كتلة هائلة عديمة الشكل”. لكن هناك عناصر متفق عليها تكاد تجدها كلما تتبّعتها في الإنتاجات الروائية منها: أنها من جنس القصة– أنها تعتمد السرد والوصف والحوار – أنها تتميز  بالنفَس الطويل والسمة الشمولية في الحكي القائم على الإثارة والتشويق والتنوع، وتقديم الشخوص وبنائها على تنوع في المصادر: دين – تاريخ – واقع – تخييل….

وقارئ (الزاوية) يجد نفسه تلقائيا يتدحرج مع كمّ هائل من الأحداث والوقائع والشخوص، يضيق فضاؤها تارة (المسيد – البيت – الزاوية …) ويتسع أخرى (مدينة تطوان – المجتمع المغربي …)، وفي الفضاءين معا تتوالد الأحداث والوقائع في بناء سردي مشوق ماتع. وبذلك لم يتردد عدد من الدارسين في اعتبار (الزاوية ) رواية،  يقول إدريس الناقوري: “أما الحقيقة التي ينبغي تقريرها بشأن الزاوية، أن هذا النص قد لا يكون سيرة ذاتية صافية بقدر ما يمكن أن يكون كذلك رواية، فهي لا ترسم فقط خط سير صاحبها، ولكنها تصوّر كذلك مرحلة وتجربة تاريخية، إنها تتحدث عن الكائن الحقيقي كما يقول أندري موروا” [1] أو كما وصفها اليبوري” إنتاج شبه روائي بالمغرب”[2].

على هذا النحو تعامل باحثون ونقاد في محاولاتهم تجنيس كتاب (الزاوية)، حيث أقنعهم حضور عناصر الخطاب الروائي المتوفرة فيه، فلم يترددوا في تصنيفها رواية.

الزاوية كتاب/ سيرة ذاتية

أدب السيرة الذاتية فن قائم بذاته، له مكونات محددة يعرِفها أهل الاختصاص، يعرّفها فيليب لوجون بأنها “سرد استعادي نثري يخص به شخص ما حياته الخاصة”، ويعرّفها فليب لوجون بأنها عبارة: “عن محكي استرجاعي نثري يحكيه شخص واقعي عن وجوده الخاص عندما يركز على حياته الفردية وخصوصا على تاريخ شخصيته”. وعن خصائصها يقول جميل الحمداوي إنها تمتاز” بمجموعة من الخصائص الدلالية والفنية والجمالية، والتي تتمثل في التركيز على الذات، واستخدام ضمير المتكلم، والمطابقة العلمية، والتأرجح بين المسوغ الذاتي (الحياة الفردية والشخصية) والاستقراء الخارجي (استقراء أحداث الواقع)، وتمثل النثر والكتابة السردية المحكية طريقة في التعبير، والميل إلى استخدام الزمن الهابط، وتشغيل تقنية الاسترجاع (فلاش باك)”.[3]

ويؤاخذ بعض “منتقدي” هذا الجنس بمثالب ثلاثة: كونه أقرب إلى الحقيقة – عنايته بالذات- انحسار  أدبيَّته. إلا أن هذه المؤاخذات لم تحل دون التعاطي معه كجنس أدبي فرض نفسه في سوق الأجناس الأدبية، بل إن مناصريه حاولوا أن يجدوا له حضورا في تاريخ الثقافة العربية، فتلمسوه في ثنايا عدد من الأعمال القديمة منها مثلا: “المنقذ من الضلال” لأبي حامد الغزالي، و”حي بن يقظان” لابن طفيل، “والتوابع والزوابع” لابن شهيد، و”التعريف بابن خلدون ورحلته غربا وشرقا” لعبد الرحمن ابن خلدون… وبذلك لم يجد كثير من الدارسين عناء في إلحاق كتاب (الزاوية) بهذا التراث، ولم يترددوا في اعتباره سيرة ذاتية انطلاقا من علامات لا تقبل التأويل. ومن أبرز الأسماء التي ألحقت (الزاوية) بهذا الجنس: عبد القادر الشاوي، وعبد الحميد عقار، وعبد الرحيم مودن، وإدريس الناقوري، وفريد أمعضشو وآخرون. يقول عبد الحميد عقار: “تعتبر (الزاوية) سيرة ذاتية، يحكمها ما يحكم نسق التعبير السير – ذاتي إجمالا، وذلك لأنها تعبير مباشر عن ذات المؤلف الذي يتماهى داخل النص مع السارد ومع الشخصية الرئيسية”[4]، وذهب فريد أمعضشو إلى ماذهب إليه عقار فقال: “ومن يقرأ (الزاوية) يلمس -عن كثب- طابعها السيري منذ الصفحة الأولى التي يعلن فيها الوزاني هدفه الصريح من كتابة هذا النص دون مواربة”. ويقول في موضع آخر: “أنا الوزاني أعرّفكم وأخبركم بالماضي التاريخي في حكاية ذات طابع تعاقبي مضمونها كيف انخرطتُ في طريق القوم فأصبحت صوفياً/ طُرقيا”[5].

الزاوية كتاب/ تاريخ

من خلال لائحة أعمال التهامي الوزاني، يظهر جليا شغف الرجل بالتاريخ، كأن التهامي استهواه هذا الكهف بعد أن أوى إليه، فلم يكد يغادره. حيثما قلّبت دفاتره المطبوعة أوالمخطوطة، في متونه وحواشيه، وجدتَ أثر هذا العِشق الذي يحضر في كل ما كتَب، ويلفت انتباهك قدرته العجيبة على إعادة إنتاج ما قرأ بسعة نظر المؤرخ ونفَسه وفكره ورؤيته. لقد كان التاريخ من أبرز اهتمامات التهامي الوزاني، اكتسب فيه دربة ومراسا، فحاز أسلوبا فريدا في التعامل مع الوقائع والأحداث والوثائق والنصوص، فأرّخ وهو يكتب ويخطب ويدرّس، وهو  يمارس السياسة، وهو يشتغل في الصحافة، وهو يبدع في الأدب….

و(الزاوية) نص لم يخل من هذا الطابع الذي لازم التهامي الوزاني في كل ما كتب، ونكاد نجزم أن القارئ لا يحتاج إلى جهد ليكتشف ملامح الكتابة التاريخية الثاوية بين أسطر (الزاوية).  يقول الأستاذ اليبوري: “تتألف (الزاوية) من قسمين: محور الأول منهما: ذات المؤلف وتجربته في طلب التصوف ودخوله في الطريقة الدرقاوية، وفيه تتحقق معالم السيرة الذاتية، ومحور القسم الثاني: تاريخ الأشراف الحراقيين بتطوان[6]. ويقول عبد العزيز السعود: “ولا تخلو هذه السيرة الذاتية بجانب التاريخ، فهي تُصور مجتمع تطوان، وتعرف بالأحداث السياسية والظروف العسيرة التي مرت منها المدينة دون إغفال الوضعية العامة للبلاد منذ أواخر القرن الثامن عشر إلى فرض معاهدة الحماية وما تلاها. وعلى الرغم من أن (الزاوية) تقدَّم كنموذج فريد وسابق للسيرة الذاتية فإنها تعطي مادة وفيرة للباحثين في تاريخ تطوان بما وصفه المؤلف وما وقع عليه من أخبار وروايات جديرة بالملاحظة” (ص 12).

على سبيل الختم

هذه هي (زاوية) التهامي الوزاني، نصّ يَنبض تاريخًا وثقافةً وحيويةً، نصّ غنيّ غنى اسمه، ممتد امتداد عطائه، لا متناهي مثل سيرته، متنوع حد الإدهاش. في الزاوية، تجد السرد، والتاريخ، والتصوف، والتربية، والوعي السياسي، والوطنية الصادقة، والثقافة البانية.

حقا وصدقا، هي أهل لأن تُقرأ، أهل لأن يحتفى بها وبصاحبها.

المراجع
[1] إدريس الناقوري، الزاوية أو التهامي الوزاني بقلمه، ندوة اتحاد كتاب المغرب: الكتابة التصوف التاريخ. ص 191.
[2] أحمد اليبوري، دينامية النص الروائي، منشورات اتحاد كتاب المغرب، الرباط. ص 27.
[3] جميل الحمداوي، موقع ديوان العرب، أغسطس 2023.
[4] عبد الحميد عقار، الزاوية بين التجربة والكتابة، ندوة اتحاد كتاب المغرب: التهامي الوزاني، الكتابة -  التصوف - التاريخ. ص 192.
[5] فريد أمعضشو، التقارب بين الروائي والسيرذاتي في الأدب المغربي الحديث، موقع المجلة العربية. عدد 563 – 2023.
[6] عبد الحميد عقار، الزاوية بين التجربة والكتابة، مرجع سابق، ص 195.