توطئة

سيرا على سنة حميدة تعود إلى ثلاثة عقود على الأقل، عمل الأستاذ والمؤرخ والمترجم خالد بن الصغير على ترجمة كتاب على قدر كبير من الأهمية، ويتعلق الأمر بكتاب: “القضاء المتعدد؛ اليهود والمسلمون في المغرب المعاصر”، لصاحبته الباحثة الأمريكية جيسيكا مايا مارجلين Jessica M Marglin، وهي أستاذة باحثة في تاريخ الأديان، والقانون، والتاريخ المعاصر، وأستاذة كرسي روث زيكلير Ruth Ziegler للدراسات اليهودية بجامعة جنوب كاليفورنيا. وقد عمل الأستاذ خالد بن الصغير بنفس الكفاءة التي اشتغل بها على كتبات سابقة، على ترجمة هذا العمل وتقديمه للقراء باللغة العربية، وهو أمر غير مستغرب إذا علمنا أن الأستاذ بن الصغير سبق له أن ترجم عدة دراسات تنتمي إلى نفس الحقل، أي حقل الدراسات التي تتخذ اليهود المغاربة موضوعا لها، بدأها بترجمة كتابي دانييل شروتر (Daniel Schroeter) “تجار الصويرة..” سنة 1997، و”يهودي السلطان..” سنة 2011، ثم ترجمة كتاب “يهود المغرب وحديث الذاكرة” لصاحبه الباحث عمر بوم سنة 2016، ليتبعه بترجمة كتاب الباحثة سارة أبريفايا ستاين “يهود في مهب الريش- تجارة ريش النعام الدولية” سنة 2018.

والكتاب، موضوع هذا التقديم، من منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، وصدر في طبعته الأولى سنة 2021، وذلك ضمن سلسلة نصوص وأعمال مترجمة (رقم 20)، ويقع الكتاب في 452 صفحة. وقد صدر العمل  باللغة الإنجليزية سنة 2017 ضمن منشورات جامعة يال الأمريكية (Yale University) تحت عنوان: « Across Legal Lines, Jews and Muslims in modern Morocco». وقد أنجزب جيسيكا مارجلين بحثها هذا في إطار مشروع بحثي كبير ساهمت في دعمه مجموعة واسعة من المؤسسات البحثية الأمريكية، ولجأت فيه إلى البحث والتدقيق وإلإشتغال على مجموعة واسعة من الوثائق والمخطوطات المنتشرة في الجهات الأربع للكرة الأرضية، وخاصة في أمريكا والقدس وفي المغرب وهولندا وفرنسا؛ سواء كانت وثائق في ملكية مكتبات وخزانات عامة أو في ملكية عائلات يهودية مغربية؛ خصوصا عائلة آل أصرَّاف من مدينة فاس المغربية، وقد كان بعضها محررا باللغة العبرية، والعربية، وبعضها الآخر محرر باللغات الأوربية.

وتأتي هذه الترجمة الجديدة من قبل الأستاذ خالد بن الصغير لمطاردة طموح كبير، يتعلق ب:”الإنفتاح على نتائج الدراسات المعاصرة التي تحققت في بعض الجامعات الأمريكية، ذات الإهتمام بالبحث في المواضيع التاريخية بأبعادها الإجتماعية والأنثروبولوجية والسياسية والإقتصادية وغيرها والمتعلقة بالمغرب” (ص 8-9).

محتويات الكتاب

يتناول الكتاب موضوع العدالة والقضاء في المغرب المعاصر؛ وذلك من زاوية العلاقات بين اليهود المغاربة وجيرانهم المسلمين منذ أواسط القرن التاسع عشر، وذلك عبر تتبع مسار وحياة إحدى البيوتات اليهودية المعروفة بمدينة فاس، وهي عائلة التاجر اليهودي شالوم أصراف (1830-1910)، الذي كان يلجأ، بالنظر إلى عمله التجاري مع المسلمين أساسا، إلى مختلف المؤسسات القضائية المتاحة له في مغرب قبل الاستعمار، إذ لم يقتصر على خدمات بيت الدين اليهودي، بل لجأ أيضا إلى خدمات مجموعة من المحاكم غير اليهودية، بما في ذلك المحاكم الشرعية الإسلامية، ثم المحاكم المختلطة (المحاكم الدولية) (ص 23).

وعبر 452 صفحة التي يتكون منها الكتاب، جاء شكله ومكوناته النهائية، متضمنة، لتوطئة من تحرير المترجم الأستاذ خالد بن الصغير، ثم الشكر والامتنان الذي تقدمت بها جيسيكا مارجلين لمختلف المؤسسات والأفراد الذين ساهموا وساعدوا في إنجاز دراستها وخروجها إلى حيز الوجود. وبعدهما جاءت مقدمة طويلة للكتاب، أعقبها فصول سبعة هي مجموع فصول الكتاب، وخاتمة، ثم البيبلوغرافيا التي اعتمدت عليها الباحثة في إنجاز دراستها.

  • مقدمة الكتاب: رجعت فيها الباحثة إلى بداية قصتها مع البحث وإشكاليته، واختيار عائلة شالوم أصراف، كنقطة الإنطلاق في بحثها حول موضوع تنقل غالبية اليهود المغاربة بين أحضان مؤسسات قضائية مختلفة، غير يهودية في معظمها، لتدلف عبر تجربة آل أصراف إلى رحاب تاريخ أوسع لليهود في أجواء النظام القضائي المغربي وعوالمه على امتداد سنوات القرن التاسع عشر ومطلع القرن العشرين، وذلك قبل وقوع المغرب تحت الهيمنة الاستعمارية الفرنسية والتداعيات القانونية والإجتماعية والاقتصادية على الجماعات اليهودية على وجه الخصوص، وهي الهيمنة التي عرقلت “إمكان لجوء اليهود إلى خدمات المحاكم الشرعية، كما شجعت بذلك أيضا على عزلهم قضائيا عن المسلمين” (ص 51).
  • الفصل اللأول: القضاء وعوالمه في منظور المغاربة اليهود: تناولت جيسيكا في الفصل الأول من كتابها خريطة مفصلة للمحاكم المغربية وكتاب العدل والمسؤولين القضائيين للجماعات اليهودية المغربية، مع الغوص في تفاصيل كيفية اشتغال الجهاز القضائي في المغرب بمختلف مؤسساته ومستوياته. كما قدمت وصفا لكيفية استقبال اليهود على وجه الخصوص، في المؤسسات القضائية المغربية، وكيفية عمل مختلف الأنظمة القضائية المختلفة العاملة بالمغرب في علاقتها المتداخلة مع بعضها البعض ( ص 59 وما بعدها).
  • الفصل الثاني: قانون السوق: خصصته المؤلفة لعائلة آل أصراف وكيف كانت تتعامل مع بعض أطراف النظام القضائي للمسلمين من أجل تيسير عملها التجاري، باعتبارها أحد العائلات المعروفة بالتجارة بمدينة فاس. فأكدت أن التجار اليهود كثيرا ما استخدموا، وبشكل مستمر، مؤسسات قضائية إسلامية محلية، بحكم علاقاتهم التجارية القوية والواسعة النطاق مع زبنائهم المسلمين، وهو ما تؤكده تجربة تعامل آل آصراف مع المحاكم الشرعية حتى بعد وفاة شالوم أصراف وقيام أبناءه بتوزيع تركته عبر اللجوء إلى كتاب عدل مسلمين (ص 123 وما بعدها).
  • الفصل الثالث: تحطيم حدود الصلاحيات القضائية وطمس ضبابيتها: اقتفت فيه الباحثة أوجه التفاعل بين المحاكم العبرية و المحاكم الشرعية الإسلامية، وذلك من خلال تقديم حالات معينة اختار فيها اليهود عرض قضاياهم على أنظار القضاء الإسلامي، مع بعض الحالات التي تتعلق باختيار المسلمين وتفضيلهم استخدام مؤسسات القضاء اليهودية بدلا من المثول أمام محاكم إسلامية. وقد كان من نتائج هذه الحركية القضائية في كلا الاتجاهين أن أسفرت عن تكيف رجال القضاء المسلمين واليهود مع حقائق التعددية القضائية، فحدث نوع من التقارب بين الشريعة الإسلامية والقانون اليهودي (ص 171 وما بعدها).
  • الفصل الرابع: يهودي السلطان: بالاستناد إلى وثائق مخزنية، وقفت الباحثة عن الارتباط الذي كان لليهود بالدولة في شخص السلطان باعتباره الملجأ من أجل رفع المظالم والمطالبة بالتعويض، وذلك باعتباره حاميا لأهل الذمة بين رعاياه، خاصة مع التهديدات الخارجية التي حاولت الاستثمار في انتهاكات مزعومة تجاه اليهود، وذلك لتبرير التدخل في الشؤون الداخلية للمغرب (ص 215 وما بعدها).
  • الفصل الخامس: استئناف الأحكام في عصر دولي: خصصته الباحثة للحديث ودراسة تزايد دور الأجانب في النظام القضائي المغربي، من خلال الوقوف على حجم وأسباب لجوء اليهود المغاربة للدبلوماسيين الأجانب والمنظمات اليهودية العالمية كلما استشعروا خطر سوء المعاملة. وقد تناولت هذه الإشكالية من خلال دراسة أربعة حالات في فترات مختلفة: آسفي 1863، دمنات 1864، نتيفة 1880، دمنات 1884. مع التأكيد على استمرارهم في اللجوء إلى المخزن للمطالبة بحقوقهم (ص 255 وما بعدها).
  • الفصل السادس: التوسع خارج حدود الاختصاصات المحلية: درست فيه الكاتبة علاقة اليهود المغاربة مع المحاكم القنصلية، وحاولت فيه الوقوف على سبب لجوء اليهود إلى المحاكم القنصلية، باعتبار ذلك خيارا إضافيا مُنح لليهود فأرجعت الأمر إلى بطء حركة الجهاز القضائي المغربي. وقد كان من نتائج ذلك أن انفتحت جسور بين المحاكم الإسلامية والمحاكم القنصلية (ص 295 وما بعدها).
  • الفصل السابع: أوهام الشفقة الاستعمارية وزيفها: خصص هذا الفصل للوقوف على مختلف الإصلاحات التي أدخلت على النظام القضائي اليهودي في العقود الأولى للحماية الفرنسية بالمغرب، وتأثيراتها على استراتيجيات اليهود القضائية. حيث فرضت تلك الإصلاحات حدود قانونية حديدية الحركية القضائية لليهود.

خاتمة

ختمت الباحثة دراستها بخاتمة عادت فيها إلى آل أصراف من خلال تتبع بعض الأفراد المنحدرين منها وذريتهم المقيمة خارج المغرب، وهي الدراسة التي حاولت إدراج القانون في سياقات التاريخ الأوسع لتجربة اليهود في شمال إفريقيا الحديثة، وأكدت على أهمية القانون كمحرك لتحقيق اندماج الجماعات اليهودية المغربية في أحضان المجتمع المغربي في فترة ما قبل الحماية، وذلك قبل أن تسهم الحماية وإجراءاتها القانونية في المجال القضائي بفصل اليهود عن المسلمين، وحدوث انقسامات بين الطرفين، وتمهيد الطريق أمام هجرة اليهود ورحيلهم خارج المغرب.