توطئة

ليس من عادة الفيلسوف والمفكر المغربي طه عبد الرحمان أن يكتب في السياسة، ولا أن يشتبك مع أحداثها وتحولاتها، فالرجل اعتاد أن يبحر في حقول المعرفة، مؤسسا لمشروع معرفي نقدي يتأسس على نظرية الأخلاق وبحث سؤالها. فبعد مسار من النقد المعرفي للعقل العربي ونظمه المعرفية، انعطف طه عبد الرحمان لمجاله الحيوي، حقل الأخلاق والقيم، ليؤسس فيه ومنه نظريته الائتمانية، فبسط مفرداتها، ومارس بها ومن خلالها نقده للحداثة، محاولا النفاذ لروحها، والتأسيس لحداثة إسلامية. في كتابه “ثغور المرابطة” حاول طه عبد الرحمن أن يكسر النسق الإشتغالي الذي حكم مساره، مقتحما حقل السياسة، وبشكل أخص، موضوع الأمة في سياق السياسات الدولية والصراعات التي تشق وحدتها، والمحاور التي تنتظمها. في كتاب “ثغور المرابطة” يتأمل، طه، بعمق، في ثلاث صراعات مصيرية راهنة قد تقضي في تصوره على مفهوم “الأمة”، وهي بحسب اصطلاحه، “الصراع الإسلامي ــ الإسرائيلي” و “الصراع الإسلامي ــ الإسلامي” و “الصراع العربي ــ العربي”، وتوسل في هذا التأمل، بنظرته الأخلاقية التي سماها “النظرية الائتمانية” مجددا النظر في جوانب من تاريخ الأمة السياسي، ومقترحا مبادرات رباطية مستمدة من قيم التداول الإسلامي ــ العربي، ائتمانا وإيمانا.

في تحديد المفاهيم وغايات الكتاب

خصص طه عبد الرحمن كتاب “ثغور المرابطة” للتحديات التي تواجهها الأمة العربية والإسلامية، كتاب أراد أن يقارب به فلسفيا، التحديات والرهانات، وافتتح كتابه قائلا: «لم أتعود من قبل أن أتكلم في قضايا الساعة كلما استجدت، لأنني لا أتابعها عن كثب، وإنما أحب أن تفصلني عنها فترة من الزمن، حتى أتفكر فيها على مقتضى التأمل الفلسفي المبني على القيم، لا على مقتضى التكهن السياسي المبني على المصالح، ولكن أحداث الساعة اليوم ليست كغيرها من الأحداث، فالأمتان «الإسلامية»  و«العربية» تتعرضان اليوم لما لم يتعرض له غيرهما من الأمم، إذ تتعلق هذه الأحداث بوجودهما ووجهتهما ومصيرهما، في عالم قلّ حياؤه، ومثل هذه القضايا الكيانية توجب تقديم النظر الفلسفي على التحليل السياسي، فواجب الفيلسوف أن يسابق إلى الاشتغال بها، حتى لا تهلك الأمم الإنسانية بما كسبت أياديها. (الكتاب ص 11)

ويقصد طه عبدالرحمن ب «ثغور المرابطة»: «المرابطة المقدسية هي المقاومة التي تلازم ثغور الأرض المقدّسة لتتصدى لتدنيسها، وتعيد إليها قداستها، وتلازم ثغور الفطرة المؤصّلة لتتصدى لتزييفها وتعيد إليها أصالتها» و«أن المرابطة المقدسية ليست فضاء ماديا بقدر ما هي فضاء معنوي».
الكتاب يخوض، كما ذكر، في تحديات ثلاثة هي: تفريط العرب في القدس، واقتتال العرب في ما بينهم، وتصارع الحكام المسلمين على النفوذ.

ويبيّن من البداية وجهته فيقول: «إن خوضي الفلسفي فيها ليس كخوض غيري ممن يردون الفلسفة إلى التاريخ، أو إلى السياسة، فلا أعرف أحدا من الكتاب العرب المعاصرين تناول هذه التحديات المهلكات تناولا فلسفيا، إن بعضا أو كلا، فقد تركوا سلوك طريق التأمل الفلسفي البعيد والبديع، وانعطفوا على الدراسات غير الفلسفية، سياسية كانت أو تاريخية أو اجتماعية أو إناسية أو أقوامية، وأخذوا يمتحون منها ما استطاعوا أن يمتحوه من الفرضيات والمناهج والنتائج… ويسقطونها على هذه التحديات المهلكات، ويصوغونها في أساليب ركيكة ومستغلقة تدل على قصورهم في استيعاب ما متحوه، فضلا عن تناوله بالنقد الذي يمحّص مناسبته للموضوعات التي أسقط عليها». ثم يبيّن بأن تفلسفه يتأسس على ما نحت له اصطلاحا في كتب سابقة له، وهو النظرية الائتمانية. (الكتاب ص11)

كما يقدم تعريفا إجماليا لها في مقدمته قائلا: «النظرية الائتمانية عبارة عن نظرية أخلاقية تتأسس على حقائق الإنسان التي اشتركت فيها الأديان وتتوارثها الحضارات، سواء أقرت هذه الحضارات بأصولها الدينية أو أنكرت هذه الأصول» (الكتاب ص 12).

والمقاربة الائتمانية مبناها على مبدأ أساسي: «وهو أن لكل شيء بعدين، أحدهما الصورة، وهي المظهر الخارجي، والثاني الروح، وهي الجوهر الداخلي، بناء على أن الروح ( أو الجوهر الداخلي) هي الأصل في تفسير الصورة (أو المظهر الخارجي) وأن الصورة إنما هي تعبير عن الروح، أو إن شئت قلت، هي تصوير لها».

يركز الفيلسوف طه على القضية الفلسطينية ويقاربها انطلاقا من رؤيته التي تأسس عليها مشروعه، وهي رؤية مرتبطة باعتبار المجال التداولي الذي تتموضع فيه العقيدة موضعا محوريا، وينطلق من ائتمانية لمواجهة ما عبّر عنه ببؤس الدهرانية.

محتويات الكتاب

تضمن الكتاب بعد المقدمة العناصر الآتية:

  • الفصل الأول: مرابطة المقدسي: ثغر الصراع الإسلامي الإسرائيلي.
  • الفصل الثاني: مرابطة الفقيه والسياسي، ثغر الصراع الإسلامي الإسلامي 1.
  • الفصل الثالث: مرابطة الفقيه والسياسي، ثغر الإسلامي الإسلامي 2.
  • الفصل الرابع: مرابطة الفقيه والسياسي، ثغر الإسلامي الإسلامي 3.
  • الفصل الخامس: مرابطة المثقف العربي، ثغر الصراع العربي العربي.
  • الخاتمة: الائتمان والإيمان.

من مضامين الكتاب                                          

  • مرابطة المقدسي ثغر الصراع الإسلامي الإسرائيلي: بدل عنوان: «مرابطة المقدسي: الصراع العربي الإسرائيلي» لأسباب منها: أن الأصل في هذا الصراع هو احتلال أرض ليست كالأراضي، إذ هي ملتقى الأديان المنزلة؛ فعلاقة هذا الصراع بالأرض تابعة لعلاقته بالدين، وأن زعماء العرب، طمعا في تثبيت سلطانهم، شرعوا يخططون لا للانسحاب من هذا الصراع فقط، بل لحمل الفلسطينيين على التخلي عن أرضهم، وإنهاء الصراع مع الإسرائيليين بالمرة، وأن صفة “العربي” تُخرج من هذا الصراع « غير العرب من المسلمين»؛ وفي هذا تجن عليهم، وأن الحاجة إلى توسيع هذا الصراع تبدو اليوم ملحة أكثر من أي وقت مضى؛ وصفة “إسلامي” تحقق قدرا معتبرا من هذا التوسيع، لا سيما إذا صرفت من الدلالة على دين مخصوص إلى الدلالة الواسعة على “إسلام الوجه الله”.
  • مرابطة الفقيه والسياسي: ثغر الصراع الإسلامي الإسلامي: بدل “عنوان مرابطة الفقيه والسياسي: ثغر الصراع بين أهل السنة والشيعة”، وذلك لاعتبارات مختلفة.
  • عرض للوسائل التي استخدمها النظامان السعودي والإيراني في ممارسة نفوذهما في العالم الإسلامي، وأيضا عن آفات التسيد التي دخلت عليهما ومواقف الفقهاء والسياسيين من هذا التسيد، شرعنة له أو اشتراكا فيه. كما وضح كيف أن الحاجة تدعو إلى إحداث ثورة أخلاقية في النظامين، وكيف أن هذه الثورة تعيد النظر في علاقتين هما: علاقة “المُستَوْدَعية بالمسؤولية” و علاقة “السياسة بالدين”، وبيان كيف أن هذه الثورة الأخلاقية ينهض بها ” فقهاء جدد” و”سياسيون جدد”، بحيث يتولى “الفقهاء الجدد” إصلاح النظام السعودي، ويتولى “السياسيون الجدد” إصلاح النظام الإيراني.
  • بحث ظاهرة “اقتتال العرب فيما بينهم”، وسماها بـ “الفتنة القابيلية”، موضحا كيف أنها تفتح باب ما أطلق عليه اسم “عالم ما بعد الأمانة”؛ واستعرض مواقف المثقفين العرب المتخاذلة من هذه الفتنة والمتسببة في انتشار “ثقافة الموت”، واصفا إياهم بـ “الانسلاخ”؛ ثم بين كيف أن الحاجة ماسة إلى نوع جديد من المثقفين، هم “المثقفون المرابطون”، فهؤلاء يأخذون بـ”ثقافة الإحياء” التي تنبني على مبادئ ستة أساسية.
  • يواجه الفلسطيني أذى من الأباعد والأقارب لا نظير له ولا تقدير، ومن كيان “إسرائيل” الذي أضحى إيذاؤه كأنه الشر المطلق. والفلسطيني له خصوصية ليست لسواه “إذ أرضه ملتقى العوالم الشهادي منها والغيبي، وإرثه ملتقى الأبعاد، الزمني منها والسرمدي”.
  • الصراع الإسلامي ـ الإسرائيلي أو تفكيك الأذى الإسرائيلي: يصر طه عبد الرحمن على وضع قضية القدس في سياقها الحضاري محاولا نزع العديد من الالتباسات المفاهيمية التي رافقتها، فالقضية بالنسبة إليه هي قضية صراع إسلامي ـ إسرائيلي، وليست صراعا عربيا إسرائيليا.
  • ينتقد طه عبد الرحمن بشدة وصف التطبيع على السياسات الإسرائيلية التي تسعى لربط العلاقات العربية مع الدول العربية، ويرى أنه لا يناسب الفعل الإسرائيلي ووظيفته في «قلب القيم وسلب الفطرة»، لأن فعل التطبيع مرتبط بالمشروعية فيما الاحتلال الإسرائيلي هو إحلال غير مشروع لكيان غاصب داخل الأمة. وقد أريد بالتطبيع مع الكيان الإسرائيلي، بطريق دلالة المطابقة، الارتباط بهذا الكيان بما يجعل وجوده في فلسطين وجودا مشروعا. ويتوقف عند ما يعتبر مؤشرا خطيرا وهو ترسيخ القيم الأضداد وهي إفساد الذاكرة وإفساد الثقة بالذات وإفساد التوجه.

خاتمة

خصص طه عبد الرحمن خاتمة كتابه «ثغور المرابطة» للرد على منتقديه الذين كما قال: «أغاظهم أن يأتلف في نظريتي الطرفان: الفلسفة والإيمان ائتلافا يرقى بالتفلسف إلى أفق الإبداع، لأن عقولهم، حسب قوله، لا تطيق إدراك هذا الائتلاف، لا لأنه يمتنع على إدراك الإنسان، وإنما لأنهم يعانون من «عقدة الدين» بأشد مما يعانيها أولياؤهم من الأساتذة الغربيين». وإذا كانت عقدة الدين قد فتكت بقلوب هؤلاء المقلدة الطاعنين، فجعلتها هواء فهناك عقدة ثانية فتكت بعقولهم، فجعلتها خواء؛ وهذه العقدة الثانية هي: “عقدة المنطق”،  والحال أني سعيت في مجموع تآليفي إلى أن أتقيد بالمنهجية المنطقية بأشكال وأقدار، فباختلاف الموضوعات تارة أصرح بها وتارة أضمرها، تارة أستعمل آليات المناظرة والحجاج، وتارة استخدم الصيغ الصورية والرموز الرياضية. أما الطاعنون، فلما افتقروا إلى هذه الوسائل المنطقية المؤسسة للعقلانية صاروا يتسترون على هذا الفقر المنهجي بطريقين: أحدهما، رفع شعار “العقلانية”، وهم من التحقق بها بعيدون، عسى أن يخدعوا قراءهم، فيحسبوهم مالكين لأسبابها؛ والثاني، اتهامي ب”اللاعقلانية”، مجادلين بغير علم،  فتارة يصفون كتابتي
بـ”التصوف اللاعقلاني” أو “العرفان الغنوصي”، وتارة يصفونني بـ”الأصولي السلفي” أو بـ”الطرقي البدعي”، بحسب الفئات التي يتجهون إليها بخطابهم، إن تحريضا علي أو تنفيرا من إنتاجي.

إن ضعف التكوين الفلسفي للطاعنين المتمثل في “الجهل باللغات الفلسفية وعدم تلقي التعليم الفلسفي بهذه الألسن” و”استبداد الترجمات السيئة بعقولهم بقدر ما حرمهم من القدرة الاستشكالية، وأخرجهم من دائرة المتفلسفة… وهكذا، اجتمعت على الطاعنين في شخصي والمنتهكين لخصوصيتي بسبب النظرية الأخلاقية التي شرعت في تأسيسها منذ كتاب العمل الديني وتجديد العقل، عقد نفسية ثلاث: “عقدة الدين” و “عقدة العقل” و “عقدة النقص”، لا تصيب، مجتمعة من أصابته إلا انسلخ من أخلاقيته التي تحدد إنسانيته.