مقدمة

مائة عام وسنتان تفصلنا عن تاريخ استشهاد بطل معركة الهري وملاحم الأطلس الشامخ؛ محمد بن موحا بن عقا الزياني؛ القائد المُعيّن بظهير صادر عن السلطان الحسن الأول سنة 1887، وأمغار زَيان منذ ريعان شبابه، وشيخ الحروب وكلها وفتاها[1]، حامي الأرض والعرض منذ 1908، ومُوقِف زحف طوابير الجيش الفرنسي ومساعيه الخبيثة لإقرار “سياسات التهدئة” في بواكير الحماية.

قاوم وجاهَد الشيخ الزياني مَعية أبناء قبيلته وشيوخها وزوْجه يطّو وابنته تتريت المجاهِدة، وكافة الشباب الأحرار الذين أعلنوها ثورة شعبية مُسلّحة ضد التوغل الاستعماري في الأطلس المتوسط؛ واستطاع في فترة عصيبة ووجيزة تكوين تحالف قبائلي متين ناهَض الاحتلال إلى آخر رَمق.

زمن المقاومات .. ثقافة الرفض والعصيان لدى قبائل زيان

في سياقٍ عام متّسِمٍ باشتداد قبضة الاستعمار الغاشم على رقعة العالم العربي والإسلامي، وزحف طوابير القوات الفرنسية العسكرية صوب السهول والمناطق الغربية والتخوم الشرقية المغربية؛ وسَنتين بعد جِناية الحماية على الأمة المغربية، انتفَضت قبائل الأطلس المتوسط معلنة الرفض والعصيان لسياسات “التّهدئة”.

من قَلْب الصحراء الأطلنتية؛ أعلن أتباع الزواية الـمعينية بقيادة الشيخ المجاهد أحمد الهيبة بن الشيخ ماء العـينين (تـ 1919) رفضهم لعقد الحماية، وأعلنوها ثورة شعبية ضد الاحتلال، نجحوا في إعطاء دفعة معنوية عالية لكلّ القبائل والمتطوِّعةِ الذين حشَّدتهم حركة الهيبة وهي تتجه صوب مراكش.

وفي الريف، تعقَّبَ الشريف محمد بن محمد بن حدّو أمزيان (تــ 1912) مواطن تغلغل الاستعمار الإسباني وجاهده جهادا مريراً، وما كاد يرتقي إلى الله شهيدا، حتى تسلَّمت أسرة الخطابي لواء المقاومة، واستمرّت في جهادها بتحالُف متين مع قبائل غمارة وجبالة والريف إلى أنْ استسلم الأمير الـكبير محمد بن عبد الكريم الخطابي سنة 1926.

وفي الأطلس المتوسط؛ ورِثَ المجاهد البطل موحا الزياني ثقافة الكفاح وزعامة الجهاد من المنطقة وقبائلها وتاريخها المجيد في المعارك والدفاع عن حوزة البلاد، وأعْلَن بدوره الرفض التام لمعاهدة الحماية، وتحوَّل من قائد مخزني إلى زعيم قبائلي يَـحمل على عاتقه رسالة الدفاع عن الأطلس المتوسط، بَشراً وحَجَراً، وتمكن من تأخير احتلال تادلة ونواحيها إلى غاية 1922؛ وكفاه شرفا بهذه المهمة النضالية الجَسورة، ناهيك عن تعطيله زحف طوابير مانجان، ومواجهتها في معارك بمريرت وسيدي لمين ثم خنيفرة.

ولم يقع موحا فريسة سهلة لسياسة القواد الكبار التي نهجها الجنرال ليوطي والجنرال مْوانيه مع بعض رؤساء القبائل والاتحادات الذين باعوا أنفسهم ودينهم بعَرَضٍ من الدنيا قليل.

توحيد القبائل ومُنازلَة الاحتلال

سيحمل الشيخ موحا الزّياني عِبْء التصدِّي لعمليات الاختراق العسكري للمنطقة مُـحاطاً برجاله ومناصريه من القبائل المجاوِرة، و”كان في جلبابه الأبيض الأصيل، وعمامته الملفوفة حول رأسه بعناية ودِقة”[2] زعيم عشيرة مرهوبة الجانب، يُثير إعجاب مُؤيِّديه ويُشيع الخوف في صفوف مناوئيه، فخاضَ وقادَ معارك طاحنة بزمور وزعير في أبريل من سنة 1912، ومعركـة أخرى جنوب مكناس في ماي من نفس السنة، اشتهرت باسم معركة أكوراي. وعلى تراب بني مطير وبتعاضد من شبانها ومُجاهديها انتصر في معركة إفران بمنطقة سيدي عبد السلام في يونيو 1912، ثم اتجه صوب وادي زم قائداً لمعركة وارغوس سنة واحدة بعد الحماية المشؤومة (1913).

ولما كانت مَساعي الاحتلال لئيمة، تقوم على سياسة الاستيلاء على الأطلس المتوسط باعتباره ممرا إستراتيجيا بين شمال المغرب وجنوبه، والمفْصَل بين شرقه وغربه، وعلى سياسة صيانة مُكتسباتها في الغرب الجزائري، بتأمين وجدة التي دَخلتها منذ 1907، و”اكتساح أراضي المغرب النافع وتأمين سبل تزويد الميتروبول باحتياجاته الضَّرورية من المنتجات الفلاحية والجنود والأيدي العاملة”[3]؛ فإنّ مسؤولية التصدِّي لهذا المشروع ما كان ليضطلع بها غير قادةٍ من طينة الشيخ موحا أوحمو الزياني، وبسياسة توحيد موسَّعة للقبائل والاتحادات الأمازيغية بالأطلس المتوسّط. بحيث وفي غضون سنوات قلائل، وبدافعٍ من كُرْه الـمُحتَلّ الغازي والغيرة على الأعراض والممتلكات؛ سيتمكن أمغار زَيان من إقناع شيوخ القبائل ومُحاربيها الشُّجعان في الانضمام إلى المعارك ضد الاحتلال، وعلى رأسها قَبائل آيت باجي، وآيت حركات بفروعها (إمحزان – إهبار – آيت حدو – آيت امعي) وقبيلة آيت شارط، وآيت خويا، وآيت بوهو، وآيت شخمان وآيت ايسرى المجاورتين له، فضلا عن المقاومين المتطوِّعين الذين انضمّوا إلى الحرب، من بني زعير وبني مطير وكروان وزمور وقبائل شقيرن، التي غلَّبت مصالح القبائل والأطلس فوق اعتباراتها الذاتية، وتيقَّنت من قيمة “الجوامع الإسلامية المشتركة التي كانت توحِّد بين عناصرها [بحيثُ كانت] أصلبَ وأقوى مِن أنْ تنكسر أمام المحاولات [الفرنسية] المغرضة”.[4]

وما كاد يَسودُ “الاعتقاد عند المستعمِر أنّ احتلال خنيفرة والقضاء على المقاومة الزيانية هما مفتاح السيطرة على الأطلس المتوسط بكامله”[5]، وأنّ الشوط الأول للعملية قَد تَم، أيْ باتخاذ خنيفرة قاعدة عسكرية رسمية منذ 1914، ومنصة انطلاق لشن العمليات الجديدة ضد الشيخ الثائر؛ حتّى فاجأهم الزياني بخُطوة الإخلاء والمغادرة الجماعية لقرية خنيفرة صوب جبَل لهري، وهو القرار الذي كان في حينِه إستراتيجيا ودقيقا، اتخذَه أمغار زيان بموافقة شيوخهم، وبعد اعتماد الشورى الداخلية مع كل القبائل المنضوية تحت لواء حركته الـجهادية.

الانسحاب إلى الجبل، استعصاما به واستلهاما من جَلاله وارتفاعه وشموخه لم يكن انسحاب سُكُونٍ وخوف؛ بل استثمره المجاهدون في ترتيب صفوفهم، وتقوية مركزيْ أروكو وأقْلال، والإغارة على قوافل إمدادات العدُو وسلْب ما فيها من المؤن والذخيرة الحربية. وهو بذلك يكون قد استفزَّ الخـصم واستدْرَجه، فالْتَهبت أجواء المواجهة بين الزيانيين والفرنسيين في وقتٍ كانت فيه فرنسا تخوض معارك الحرب العالمية الأولى، فَصَعُبَ عليها “إنهاء فورة الجبل البربري” بتعبير الباحث محمد بن لحسن[6].

لهري.. ذروة المواجهة ودُرَّة معارك الأطلس المتوسط

بعد استكمال عنصُري الوحدة والإرادة في صفوف الـمجاهدين، مع الانتصارات الـمتتاليات التي حققوها على العدو، والاستعصام بالجبل وما صاحبَه من تربُّصات وتحضيرات وتَـمَوْقع سليم في البيئة الجُغرافية التي يعرِفها الزيانيون وحلفاءهم عن ظَهْر قَلْب؛ جاءت اللحظة الـمِفْصلية في مسار الـمنازَلة الميدانية ضد القوات الفرنسية. ولا يستقيم الحديث عن مسار وحياة الشيخ موحا الزياني دون استحضار إسهامه الكبير وانتصاره الشهير في معركة لهري الخالدة، فقد ارتبطت به وارتبط بها وعَلَت باسمه وبوّأته في سِجِل التاريخ النضالي للمغرب مكانا عَلِيًا.

ضاق الاحتلال ذَرعا بانسحاب المقاومين إلى الجبل، وخانَـتْه تقديراته العسكرية والحربية، فظنَّها فُرصة مواتية للانقضاض عليهم، فاقتضت خُطة الكولونيل لافِـيرْدور تقسيم الجيش إلى خمس مجموعات:

الأولى تحت قيادة المقدم كولونا دي ليشا، والثانية تحت قيادة القبطان هونكير، والثالثة تحت قيادة المقدم دوميلا، والرابعة تحت قيادة المقدم فاجس، والخامسة تحت قيادة المقدم كرول، هاته الأخيرة كانت مهمتها البقاء في “خنيفرة لحماية المدينة”[7]، وأراد من هذه الخطّة استغلال الوقت بأسرع ما يكون، فباشَرت قوّاته الهجوم على معسكر الزياني بالهري في السادسة صباحا من يوم الجمعة 13 نونبر 1914، والهدف العام؛ مباغتةُ المجاهد موحا باعتقاله أو قتْلِه.

إلا أنّ الـمفاجئة ستكون مدوِّية، وضِدَّ واضعي الخُطة هذه المرة، بحيث ما هي إلا سُويعات، صبِر فيها الشيخ وأتباعه على فَقْد بعض العناصر الـمقاتِلة؛ ثم استَبْسَل الجميع وأداروا المعركة بكفاءة وشجاعة وحنكة أدّت إلى الفتْك بالقوات الفرنسية، وتعقُّب فلولها الـمدحورة، وتكبيدها خَسارة قَتْلِ قائدِ الحملة والحامية بخنيفرة وصاحب خطة معركة الهري؛ الـكولونيل لافيردور Laverdure.

لم يتوقَّف المجاهدون عند هذا الحد، بل طارَدَوا لاحتلال إلى ما وراء وادي بوزقور، على مشارف خنيفرة، وقد فَقَدت فرنسا في هذه المعركة زُهاءَ 613 قتيلا، و33 ضابطا، ومائتيْ جُندِيٍّ، من أصل 1187 فرد في مجموع العملية الهجومية.

علُـوٌّ في الحياةِ وفي الـمماتِ

ساهمت معركة لـهري في بثِّ قيم الصمود والتحدي في صفوف الـمجاهدين، وأَمَدَّتهم بالثِّقة في نصر الله لهم، وفي استكمال مِشوار الدفاع عن أرضهم، وعدم الرضوخ للفرنسيين لغاية سنة 1922، و”صمدت قبائل زيان لقَنْبَلة الطيران والمدفعية إلى حدود سنة 1920 رغم إمكانات قبائل زيان المحدودة”،[8] وواصلت بقيادة الشّيخ الطاعن الـكِبَر في التصدِّي للاحتلال، حتى ارتقى المجاهِد موحا أوحمو الزياني شهيدا في معركة أزلاك نتْزمورت يوم 27 مارس 1921.

المراجع
[1] العبسي عنترة بن شداد: قصيدة بعنوان "قِف بالديار"، منشورة بــ https://www.aldiwan.net/poem222.htmlــ
[2] زروال ريم، موحا أوحمو؛ تتريت زيان، منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، الطبعة الأولى 2019، ص 8.
[3] ابن لحسن محمد، معركة لهري 13 نونبر 1914؛ صفحات من الجهاد الوطني، مطبعة أنفو برانت، فاس، طبعة نونبر 2001، مراجعة الأستاذ الفقيه الإدريسي، مجلة الذاكرة الوطنية، العدد 7، سنة 2005، منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، ص 216.
[4] مجلة "الذاكرة الوطنية.."، مع بعض التصرُّف، مرجع سابق، ص 221.
[5] بوستة امحمد، "معركة الهري امتداد لمعركة خنيفرة"، مجلة المقاومة وجيش التحرير، العدد 53، دجنبر 1998، ص 27.
[6] ابن لحسن محمد، معركة لهري 13 نونبر 1914؛ صفحات من الجهاد الوطني، مرجع سابق.
[7] بوستة امحمد، "معركة الهري امتداد لمعركة خنيفرة، مرجع سابق، ص 30.
[8] شهبون طارق، تَصاعُد المقاومة المغربية 1912-1955، مجلة المقاومة وجيش التحرير، العدد 38، 1995، ص 108.