بين يدي التقديم

كم هو جميل أن ينفلت دارس الفلسفة فيخلع عنه جبّتها، ليطل على جنس السرد ولو خلسة، فيصنع من إطلالته مصدر إمتاع ومؤانسة قد لا تجدها في مباحثه الفلسفية – ليس لابتذالها أو تفاهتها – ولكن لأن للسرد هيبة ونفوذا وقدرة خارقة على اجتذاب الذائقة، بعيدا عن التجريد والصرامة والعقلانية كما هي في الدرس الفلسفي.

يذكُرُ جمهور القراء العرب حجم الدهشة لحظة انفلات الأستاذ عبد الله العروي فجأة ليقتحم عالم السرد، ويهدي للمكتبة العربية عمله الروائي الأول “الغربة “[1]، يذكر هذا الجمهور كيف تلقف النقاد هذا العمل بعد أن اكتشفوا أن العروي يعلن بـ (الغربة) عن مدخل جديد لمشروعه الفكري وحضوره الفلسفي، ثم ما لبثت أعماله تترى محمّلة بالمواقف والنظريات والرؤى، فكانت”اليتيم” و”الفريق” ثم “أوراق”…

وها هو الدكتور الطيب بوعزة، ينحو نفس المنحى، ينفلت فجأة من دهاليز الفلسفة، ليصنع إطلالة ماتعة، لكن دارسا لا مبدعا، قارئا لا كاتبا، ينفلت بدوره من ربقة الفلسفة لينعتق نحو فضاء أرحب، ليشم هواءه، ويتنسّمه ملء سعة رئتيْ هذا الفضاء،  ويتلمّس – على غير ما اعتاده – ” مقاربة الكينونة الإنسانية بأفضل ما يمكن أن تُقارب به”.

ولأن الطيب بوعزة توقع دهشة القارئ لهذا الانفلات، فإنه يقرّ في يقين – منذ مطلع هذا الكتاب –  أن الفعل السردي ما يزال ” ذا حضور ونفوذ”[2]، وإذا كان هذا الحضور سمة قد يشاركه فيها مجال معرفي آخر، إلا أن النفوذ الأخاذ يبقى سمة السرد الباقية، سمته الأبدية، سمته الأزلية التي بها يعلو، بها يسطو حتى إنه لا يذر أحدا خارج مملكته وحماه كان من كان.

ثم يواصل إقراره خاشعا متبتلا في محراب السرد، وهو يعدّد مداخل مقاربة الكينونة الإنسانية قائلا: ” هكذا تتعدد مداخل المقاربة الإنسانية بفضل السرد الروائي على نحو يعلو على المقاربة الفلسفية التجريدية. فإذا كان اللوغوس الفلسفي يحول هذه الكينونة إلى رموز ومفاهيم”…… فإن الرواية “تقارب الحياة بالحياة، فتعبّر عن الكينونة مع الحفاظ على حيويتها ونبضها”.[3]  بل إنه لم يتردد في الكشف عن سر مهني: ” كثيرا ما أنصح طلبة الفلسفة وعلم النفس والسوسيولوجيا بالإكثار من قراءة النصوص الروائية. مشيرا إلى أن تكوينهم الفلسفي، واغتناء رؤيتهم إلى الوجود لن يتحققا ما لم يكونوا موصولين باستمرار بالمتن السردي”[4]

تقديم الكتاب

صدر الكتاب في طبعته الأولى سنة 2016 عن عالم الأدب للترجمة والنشر – بيروت، لبنان، في 392 صفحة، وهو مِن بابيْن وأحد عشر فصلا، اختار للباب الأول عنوانا رئيسا (ما هي الرواية؟ ) ضمّنه خمسة فصول، الفصل الأول: كيف نكتب الرواية؟ – الثاني: كيف الرواية؟ – الثالث: الرواية بوصفها بنية وشكلا – الرابع: في تعليل ظهور الرواية في العصر الحديث – الخامس: رواية الرواية.

أما الباب الثاني: (ها هي الرواية قراءات .. في المتن السردي) فضمّنه  قراءات عميقة في المتن السردي لأعمال عالمية في ستة فصول: الأول: سرد الحب (4 أعمال) الثاني: سرد الذات .. سرد العقل (7 أعمال)، الثالث: سرد الحرب (3 أعمال)، الرابع: سرد الواقع.. سرد التوقع (7 أعمال)، الخامس: السرد والموت (6 أعمال)، السادس: سرد التحولات (4 أعمال).

وإذا كان الكتاب أحد الأعمال التي اهتمت بالإجابة عن ماهية الرواية، إلا أن ميزته تتجلى في كون الإجابة جاءت بمسحة الدرس الفلسفي، ومنهجية المباحث الفلسفية، وعمق الباحث في الفلسفة، إذ منذ الصفحة الأولى، يطالعك همُّ السؤال، وهوس طرح الإشكال، وعبق المزاوجة بين التنظير والتطبيق، حيث بيّن المؤلف صلة الرواية بالحياة، ووقف على مكونات خطابها، وكيفية كتابتها، وحاجة العصر الحديث إليها، ليقدم بعد ذلك فيضا من القراءات الماتعة في عدد من الروايات العالمية، برؤية تقوم على أمرين اثنيْن: الاختيار الهادف والمعلل، ثم العمق في التناول.

على سبيل الختم

كأنّ كتاب ” ماهية الر واية” جزآن اثنان في سفر واحد، يضم الأول تحليلا صافيا لنظرية الرواية، يقدم من خلاله باحث في الفلسفة وجهة نظره في ماهية الرواية، أما الجزء الثاني فيقدّم فيه قراءات نقدية لأعمال روائية عالمية، استفرغ فيها المؤلف جهده في توظيف ترسانة التحليل الفلسفي، وآليات التأمل الفلسفي، وعمق النظر الفلسفي، متجاوزا المتعة والتشويق المتناثرتين في سوق الرواية، بحثا عن تحديد رؤية للعالم وللإنسان.

الكتاب، محاولة جادة لاستقصاء ما ينطوي عليه المتن الروائي من قدرة على ” تأدية وظيفة إثراء رؤى الوجود” فضلا عن وظيفة الإمتاع التي تشترك فيها كل النصوص السردية.

المراجع
[1]  العروي عبد الله، الغربة، دار الثقافة – الدار البيضاء، دار النشر المغربية. ط 1 / 1971.
[2]  بوعزة الطيب، ماهية الرواية، عالم الأدب للترجمة والنشر ، بيروت، ط1، 2016، ص 9.
[3]  بوعزة الطيب، ماهية الرواية، مرجع سابق، ص 12.
[4]  بوعزة الطيب، ماهية الرواية، مرجع سابق ، ص 98.