فيلم الصوت الخفي المغرب-الجزائر

أجمع المتتبعون وأغلب النقاد على تميز فيلم ” الصوت الخفي ” (2014) لمخرجه كمال كمال لأنه اختار لنفسه نسقا متميزا انطلق فيه من استلهام الإبداع بتوظيف الرواية والسرد القصصي، ويعود الفيلم إلى أيام الحقبة الاستعمارية وما صاحبها من اضطهاد وسلب للحرية ومحاولة لتركيع شعب رفض الخنوع والخضوع، وحدد له سنوات الخمسينات من القرن الماضي، واستدعى له بلدين من الغرب الإسلامي؛ المغرب والجزائر، حيث انطلقت مجموعة من الصم البكم في مغامرة هروب نحو المغرب بعدما قتلت واحدة منهم مسؤولا فرنسيا رفيع المستوى، يقودهم “خريت” خبير بالمنعرجات الرابطة بين البلدين، وجزائري يضع نصب عينيه إنجاح الثورة الجزائرية بكل الوسائل.

وترجع بنا الأحداث باستخدام فلاش باك لأحد الناجين من عملية الهروب التي تمت عبر حائط موريس الحدودي في منطقة بني بوسعيد، ويشدك الفيلم/القصة لتسافر معه في حقبة الأسى والألم والمعاناة التي ذهب ضحيتها خيرة أبناء الوطن حيث عمد المستعمر الغاشم إلى زرع الألغام التي وضعها الاستعمار، وتشتغل آلة الموت الرهيبة ـ ويسقط الضحايا تباعا، الأول تمت التضحية به لأنه لم يعد قادراً على الاستمرار، الثاني وهو ألماني يطلق رصاصة على رأسه بعدما تسبب لغم في قطع رجله، الثالث ينفجر لغم في وجهه، الرابع يقتله واحد من المجموعة، الخامس ينتحر حزنا على موت بعض رفاقه الذين أصابتهم رصاصات قادمة من مروحية فرنسية.

واستعمل صاحب الفيلم الحكي والسرد وسيلة لشد المشاهد وإمتاعه، ولم يخل النسق من التعرض لقضايا البشاعة وانتهاك الحقوق حيث تتعرض موسيقية شابة لاعتداء بشع وأد جمالها وآلمها، وبوجه كسيح يحكي الجزائري القصة وتظهر على محياه معالم الزمن الصعب حيث امتلأ وجهه بالتقاسيم والتجاعيد، الكمان الذي يحطم ثم يعاد تركيب شظاياه من جديد، المشخصون داخل الأوبرا..قصص متعددة تساعد المتلقي على المزيد من الغوص في رائعة سينمائية قلما توجد بمثلها السينما المغربية.

مما زاد الفيلم رونقا وجمالا استخدام موسيقى تصويرية خبر صاحبها أسرارها، وركز فيه المخرج العاشق للموسيقى على كورال الأوبرا، لاسيما في اللحظات العصيبة لعملية الهروب، مما كان له الأثر البالغ  في نفسية المتتبعين والمشاهدين .

تحمل الممثلون صعوبة الأدوار وكانوا في المستوى وأدوا بمهنية عالية، محمد البسطاوي في دور موسى المغربي، محمد خيي في دور سبايسي الجزائري، آمال عيوش في دور جزائرية هاربة، وعدد من الشخصيات الصماء-البكماء التي من بين من أداها محمد الشوبي، رفيق بن بوكر، البشير واكين، جيهان كمال…

وأشار كمال كمال أن فيلمه ينطلق من ثلاث قصص متداخلة، الأولى الأوبرا، خط موريس، ثم سنة 2011 التي تتم من خلالها استعادة الأحداث، معتبرا أن قوة هذا الفيلم تكمن في التضحية التي قام بها الطاقم، فالجميع عانى من أجل إنجازه، ولذلك ظهر الفيلم بشكله المتميز.

الفيلم لا يحمل رسالة سياسية ولا يهتم بالصراع المصطنع بين المغرب والجزائر، فهو عمل إنساني، لقد كانت الكتابة السينمائية بالغة الإتقان، فضاءات تصوير فاتنة، إدارة ممثلين ناجحة، وتعددية لغات فنية تعايشت لتنتج نصا بصريا غنيا تتجاور وتتناغم فيه الرواية مع الموسيقى وتشكيلية الإطار.

وهذا الفيلم قالت عنه مخرجة لبنانية: “إذا كانت السينما المغربية بهذا القدر من الجمال، فإن السينما العربية بخير”

وقال عنه لحسن العسبي: “هل لي أن أتحدث عن التصوير العالي الجودة، عن الموسيقى السمفونية الرهيبة، عن المشاهد العامة للشريط في جبال الأطلس المتوسط، المجللة بالثلج، عن الدارالبيضاء الأخرى التي نعيد اكتشاف روعتها، عن بناية البوطوار القديم للمدينة الصناعية، عن المغرب كله في نهاية المطاف حين نعيد اكتشافه كبلاطو مبهر لإنتاج صناعة سينمائية محترفة؟.. هل لي أن أتحدث عن ذلك كله فقط، أم أن علي أن أتحدث عن قصة الفيلم، المستمدة من أحداث واقعية، زمن المقاومة الجزائرية والمغربية ضد الإستعمار، حين كانت كولمب بشار صنوة لفكيك، وحين كانت تلمسان يدا تمتد عروقها إلى وجدة، وحين كانت بركان والناظور سندا لظهر الوطنية والفداء في جبال الأوراس؟… هل لي أن أتحدث عن ذلك لأوفي الشريط حقه من الإنصاف والقراءة؟.. في مقالة مماثلة يستحيل ذلك. فقط أيها القارئ الكريم وأيتها القارئة الكريمة، حين ينزل “الصوت الخفي” إلى قاعات السينما، اذهبوا لتتمتعوا بمعنى أن يصنع مغربي الجمال الذي يجعلنا نعتز بتامغربيت عاليا. جديا يحق لنا الفرح بمنجز مماثل. شكرا كمال كمال”.

وأقول: نتوق لرؤية الجمال مجسدا فنيا سنصرخ  بأعلى صوتنا نريد سينما تسكننا ونسكنها تعبر عنا ونعبر إليها، تلامس فينا الأحاسيس الآلام كما الآمال، تبعدنا عن البديئ والمستهلك والمشين تحملنا إلى فضاء رحب ينمي فينا الذوق الجميل ويقطع مع الرداءة.