توطئة

دخَل المغرب منعطف القرن العشرين وهو في أوج التنافس الاستعماري حوله من قبل القوى الإمبريالية التقليدية التي تعاظم نفوذها به منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر، وزاد من حدة هذا التنافس؛ القرب الجغرافي من الضفة الشمالية للمتوسط، والمكانة الاستراتيجية التي يكتسيها بإطلالته على واجهتين بحريتين، واتصاله بالعمق الإفريقي الخاضع معظمُه للهيمنة الاستعمارية، وما يمثله كبوابة للتجارة العالمية وللعالم الجديد بفضل مضيق جبل طارق.

أمام هذا الحال تهافتت الدول الإمبريالية لنيل حظوتها من هذا القطر الذي تأخّر احتلاله نسبيا مقارنة مع الأقطار الإفريقية الأخرى نظرا لعراقة مؤسساته، ولإرثه التاريخي الكبير في المجال المتوسطي، ولكونه ذلك “المغرب المجهول” في المخيال الأوربي.

المغرب الـمحاصَر.. ضغوط وحروب واتفاقيات

وقد ساهمت النكسات العسكرية في كل من وقعة إيسلي (1844م) وحرب تطوان (1859م-1860م)، والضغوطات الدبلوماسية التي بلغت ذروتها بعد مؤتمر مدريد سنة 1880م، في خلق حالة من التنافس بين هذه القوى لتعزيز امتيازاتها ومكتسباتها بهذا القطر من جهة، والسعي للظفر بما هو أكثر من ذلك من جهة أخرى.

على هذا الأساس رامت فرنسا العمل على مشروع يَضمن نفوذها بالمغرب الأقصى كوسيلة لتأمين مستعمرتها الجزائرية، وكرست هذا المشروع بمقتضى تسوية بيكلار 1863م. وتوجّست إنجلترا من خسارة وضعها في جبل طارق إن استتب الأمر لقوة أخرى ما عداها، فحركت آلتها الدبلوماسية، وظفرت بمعاهدة 1856م. ولم تكن إسبانيا لتَقبل بخسارتها لمستعمراتها بالأمريكيتين؛ فَسَعت إلى حفظ ماء وجهها من بوابة المغرب، ولن يسعفنا الأمر للحديث عن كل القوى ورهاناتها، سواء تعلق الأمر بالمارد الألماني، أو الفاعل الإيطالي أو غيرها من الأطراف الأخرى التي تفاوتت من حيث تأثيراتها.

غير أنّ الرغبة تحذونا لإيضاح المناخ العام الذي ساد في المغرب الأقصى، والذي مهد لبروز أشكال جديدة من التدخل الاستعماري، ويتعلق الأمر بالصِّحافة والجرائد، أو ما اصطلح عليه ب:”الكوازيط”- وهو المصطلح الدارج للكلمة اللاتينية Gazette، ورد عند كل من الغساني (القرن السابع عشر) والطهطاوي والصفار وابن زيدان… – والتي مارست ضغوطات على الأجندات العامة، وكانت بمثابة لسان حال الأطراف المتنافسة، تناوئ خصومها، وتذود عن مصالحها.

جريدة السَعادة؛ اللِّسان الـمُعرِب عن تهافت الأجانب على المغرب

صحيح أنّ الصحافة المكتوبة بدأت تلعب أدواراً سياسية متزايدة منذ ثمانينيات القرن التاسع عشر، لكن رقعتها الجغرافية ظلت لردح من الزمن محصورة في طنجة، فيما بقيَ إشعاعها محدودا في المناطق الأخرى[1]. ويَرجع الأمر للأهمية التي كانت تكتسيها طنجة باعتبارها بوابةً مفتوحة على أوربا، جَعَلت منها العاصمة الدبلوماسية للبلاد، وكان طبيعيا _ والحال هذه _ أن تسعى المفوضيات الأجنبية بها إلى إيجاد أدوات إعلام تخدم مصالحها بكل حرية حتى وإن بلغ بها الأمر لانتقاد سياسة المخزن والحكومة المغربية دون أن تتمكّن هذه الأخيرة من اتخاذ إجراءات في حقها بحكم وضعيتها الدولية.

في هذا السياق التاريخي، أَصْدَرت المفوضية الفرنسية في طنجة سنة 1904 جريدة ناطقة بالعربية تُعَبّر عن لسان حالها، اختارت لها عن قصد اسم “السعادة”، وذلك في إطار التلويح بالفأل الحسن للمغاربة وبِعهد الإصلاح لبلادهم تحت نفوذ حكومة باريس،[2] في الوقت الذي كان فيه المغرب يئنّ من ضعف الاستقرار السياسي، وهشاشة الأحوال الاقتصادية، وانتشار الثورات والمجاعات والمشاكل الهيكلية.

كما أضْفَت المفوضية الفرنسية على جريدة السعادة مَسْحَة إسلامية باستجلاب محرّر لها من الجزائر في شخص إدريس الخبزاوي، ليمرر الخطاب الفرنسي على أعمدة السعادة بأسلوب لا يتنافى والمشاعر الدينية لعموم القراء المغاربة.

ومنذ سنة 1906 اتخَذَت السعادة توجُّها آخر عندما أسندت مهمة رئاسة تحريرها للشامي الماروني وديع كرم الذي تفنّن بأسلوب أدبي في تدشين خط تحريري للسعادة كان يروم إلى تبيان أحقية ومشروعية مطامح فرنسا بالمغرب، والدعوة إلى فتح أبواب هذا البلد لمباشرة الإصلاحات التي نصّت عليها قرارات مؤتمر الجزيرة الخضراء، ومواجهة “العصاة وزعماء الفتنة”، وعدم الاعتراف بشرعية بيعة السلطان المولى عبد الحفيظ، وتوجيه سِهام النقد اللاذع لدعاة الجهاد ضد الأطماع الفرنسية بالمغرب.[3]

المواقف المغربية من الجريدة الاستعمارية

وكان طبيعياً، والحالة هذه، أن تُسَجّلَ ردود فِعل مغربية، وهذه الردود يمكن الوقوف عليها في مستويين: المستوى الرسمي والمستوى غير الرسمي.

المستوى الرسمي:

يتّضح من خلال ما جاء في بعض مراسلات دار النيابة، حين اشتكى المخزن مما تكتبه الصحف الموالية لفرنسا، وبالموازاة مع هذه الاحتجاجات العديمة الجدوى، ارتأى المخزن العزيزي أن يَنزل إلى الميدان بنفس الأدوات التي يحاربهُ بها خصومه، أي الصحافة. فاقتنى _ بإيعاز من الألمان_ جريدة لسان المغرب“. أما المخزن الحفيظي؛ فبَعد أن استتبَّ له الأمر بفاس، أصدر جريدة الفجر“، الذي كان يحرّرها الشيخ نعمة الله الدحداح.

المستوى الشعبي/الوطني:

يتمثّل في ردود فعل المغاربة من خلال المنشورات التي وضَعها صفوة من العلماء المتحلّقين حول الشيخ محمد بن عبد الكبير الكتاني بفاس، وذلك لدحض البراهين التي تروّجها الصحافة الموالية لفرنسا، خاصة “السعادة”، والتي كانوا ينعتونها “بالشقاوة”[4]. ولعل أغرب ردود الفعل “غير رسمية” ضد السعادة تلك التي صَدَرت عن تجار مغاربة مقيمين بالشرق الأقصى (سنغافورة، جاوا..)، ذلك أنهم وجّهوا في شأنها رسالة إلى الصدر الأعظم محمد المُقري بتاريخ 3 أكتوبر 1910 من بين ما جاء فيها: “(…) هذه جريدة السعادة التي تظهر في طنجة، من يوم نشأتها إلى يومنا هذا، كلها غمز ولمز وتشهير بالمغاربة” ، ضِمنَ رسالة طويلة أوْرَدها جامع بيْضا في صحافة طنجة مرآة للصراع الدولي حول المغرب (1900-1912)”، مؤرّخة ب 28 رمضان المعظم 1328ه.

تَبَــنّي الإقامة العامة الفرنسية لجريدة السعادة

في سياق هيكلة الشؤون والمصالح الإدارية للاستعمار الفرنسي؛ اتخَذ الجنرال ليوطي الرباط عاصمة إدارية جديدة للمملكة ابتداء من سنة 1913م، واستقدَم معها جريدة السعادة، موفراً لها كافة أشكال الدعم المالي والموارد البشرية المؤهلة، لتتحول إلى أداة إعلامية رسمية تُصاغ خطاباتها بعناية وراء أسوار الإقامة العامة، حتى تكون شاهدة عن كثب على التحولات المزمَع الإقدام عليها، وتتلقّى في الوقت ذاته التعليمات الضرورية من الإقامة العامة لتلعب الدور المنوط بها على الوجه الأكمل باللغة العربية.

وإذا كان الخط التحريري لجريدة السعادة وهي ناطقة باسم المفوضية الفرنسية بطنجة قد اتَّسم بمعارضته الشديدة ونقده اللاذع للحكومة المغربية وللمخزن وقيّاده، والكشف عن مظالمهم ومفاسدهم بغية دغدغة عواطف الشّعب وإظهار نصرتها لهم؛ فإن هذا الخطاب سينتهي بصفة كلية مع فرض نظام الحماية سنة 1912، وستتحول إلى دعم النظام الجديد والدعاية للإصلاحات الجديدة في ظل الحماية الفرنسية، وتحسين صورة القياد والعمال، وذكْر محاسنهم وأفْضالهم على الرعية. وسنلاحظ اختفاء لهجة التصويب والنقد تجاههم وتجاه الحكومة الشريفة، كما أن بقاء أولئك القياد ساعدها كثيرا في فرض سيطرتها على القبائل، التي كانت ترفض بصفة قطعية حكم المستعمر الفرنسي.

من جهة أخرى ستَعمل الجريدة على شيطنة وتشويه صورة الزعامات الوطنية، أمثال ماء العينين وموحا أوحمّو الزياني ومحمد بن عبد الكريم الخطابي وغيرهم من المقاومين الذين اتخَذوا من الكفاح المسلّح سبيلا لتحرير البلد من قبضة المستعمر الفرنسي.

جريدة السعادة؛ أقسامها، مضمونها، كُتّابها

لم تكن جريدة السعادة منتظِمة الصدور والصفحات والنسخ، ففي بداية صدورها كانت تطبع منها حوالي 75 نسخة في أربع صفحات، ثم ارتفع عدد النسخ إلى 500، ثم إلى أكثر فيما بعد، وصدر منها حين كانت لسانَ حال المفوضية الفرنسية بطنجة 636 عدداً وذلك إلى حدود سنة 1913.

وحين انتقلت إلى الرباط استمرت بالصدور إلى حين استقلال المغرب، فكان آخر عدد صدر منها هو العدد رقم 9864 بتاريخ 27 ديسمبر 1956. أما من حيث المضمون فقد كانت جريدة السعادة، جريدة سياسية وأدبية وتجارية، وتحوّلت لجريدة إخبارية منذ خمسينيات القرن العشرين.

ضمّت جريدة السعادة عِدّة محررين إلى جانب عائلة كرم، وديع ويوسف، ومن أهمهم وأشهرهم الكاتب علي الطرابلسي الذي كان غزير الإنتاج، واشتهر بترجماته وتعليقه السياسي، ومحمد البيضاوي الشنقيطي الذي تقلّد مناصب من بينها قاضي بني عمير، وباشا تارودانت. وأحمد الهواري الذي كان عضوا في المحكمة العليا وله عدة مؤلّفات دارت حول الرحلة الحجازية، واللغة الفرنسية، وبالإضافة إلى هذه الأسماء؛ نجد عبد الكريم بوعلو، وهو كاتب شهير وناقد مسرحي، وعبد الحفيظ الفاسي، وعبد الواحد بن عبد الله، ومحمد صالح ميسة. وكان للجريدة عدد من المراسلين من داخل المغرب وخارجه، ومنهم: الحاج الطاهر وعبد القادر الوزاني والمهدي الصقلي من الدار البيضاء، محمد الغربي من سلا، محمد الكتاني من مكناس، محمد العبادي من الجديدة، عبد الله القباج السملالي من دار ولد زيدوح، عبد القادر الوزاني من باريس[5].

وتنوعّت أقسام الجريدة التي كانت أقساما دائمة أو شبه دائمة بحسب المناسبات والظروف، ومن هذه الأقسام: آفاقيات، محليات، متفرقات، مقتضَبات، تلغرافات، أخبار مختصَرة، أنباء العالم، من أبهاء القرويين، شؤون حياتنا، زاوية المرأة، آراء حرة، قصة العدد، روض الآداب، من هنا وهناك، الأحوال على وجه الإجمال، أخبار الإيالة، رسالة باريس، مسليات، منبر الصراحة، بريد الشرق، مراسلات، الأسبوع السياسي، أخبار البريد الخارجية، ميادين القتال، من ساحة الحرب، رياض الأطفال، حديقة الآداب، الصحة والعائلة، هنا راديو المغرب، شؤون اقتصادية، الصحة والرياضة، التربية البدنية[6].

خاتمة

ومع كلّ ما تَـمَّ الخوض فيه، فيما يتعلق بخدمة هذا الخط التحريري للمشروع الكولونيالي الفرنسي؛ إلا أنه لا يقلّل من القيمة العلمية لجريدة السّعادة كمَصدر لا غنى عنه في التأْريخ لفترة الحماية، لما تكتنزه أعدادها من رصيد غزير ومتنوع تتقاطع فيه المعلومات العسكرية بالسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية[7]، وبتسليطها الضوء على نبض الحياة اليومية للمغاربة.

 

المراجع
[1] بيضا (جامع)، "الصحافة كمصدر من مصادر العهد اليوسفي السعادة "نموذجاً"، ضمن أعمال ندوة "السلطان مولاي يوسف 1912-1927 الدولة اليوسفية"، مركز الدراسات والبحوث العلوية _ الريصاني، منشورات وزارة الثقافة، 2004، الصفحات بين 7-12، ص: 7.
[2] انظر: (الكتاني) عبد الحي بن عبد الكبير: "مفاكهة ذوي النبل والإجادة حضرة مدير جريدة السعادة"، دراسة وتحقيق محمد العلمي والي، الطبعة الأولى 2013، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، ص: 105.
[3] الريس (مصطفى): "مقاومة شيوخ الزوايا للوجود الاستعماري الفرنسي من خلال جريدة السعادة (1907-1920)"، منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، طبعة 2015، دار أبي رقراق للطباعة والنشر، ص: 32-33.
[4] بيضا (جامع):مساهمة بحثية بعنوان"صحافة طنجة: مرآة للصراع الدولي حول المغرب (1900-1912)"،منشورة ضمن كتاب ندوة "طنجة في التاريخ المعاصر 1800-1956"، منشورات كلية الآداب والعلوم الإنسانية بالرباط، دار النشر العربي الإفريقي، ص214.
[5] زيادي (أحمد): "جريدة السعادة ودورها في تطوير الخطاب الإعلامي العربي بالمغرب"، مجلة المناهل، عدد 87، 1 يناير 2010، 194-195.
[6] زيادي (أحمد): "جريدة السعادة ودورها في تطوير الخطاب الإعلامي العربي بالمغرب"، مرجع سابق، ص196.
[7] الريس (مصطفى): "الزاوية الكتانية من خلال الصحافة العربية الموالية للحماية الفرنسية"، منشورات الزمن، 2015، ص63.