مقدمة

استقل المغرب عن الاستعمارين الفرنسي والإسباني سنة 1956، بعد نضال سياسي وكفاح عسكري مشهود وتحالُف مَتين بين القوى الوطنية والشعب والعرش. وقَّعَت حكومة المفاوضات المكلَّفة من طرف السلطان محمد الخامس بقيادة مبارك البكّاي والحكومة الفرنسية الاتفاق المشتَرَكَ يوم 2 مارس 1956، والذي بمقتضاه حصل المغرب على استقلاله الذي فَقده بمعاهدة الحماية المشؤومة في أواخر مارس من العام 1912، وأُرجِئت مسألة الحدود وبعض الثغور إلى حين، ثم نال المغرب استقلاله عن إسبانيا يوم 7 أبريل 1956 بموجب بروتوكول إنهاء الحماية موقَّع مع حكومة الجنرال فرانسيسكو فرانكو.

الدفاع المجيد بالنار والحديد

ما كان للمغرب أنْ يَنعم باستقلاله وحرية أرضه وأفراده لولا ما تَظافر من جهود الـمُقاوَمات التي امتدَّت زَمنيا من 1914 إلى 1958، وجغرافياً من عمق الصحراء إلى طنجة والشَّرق، على أكتاف تضحيات وبطولات مجيدة، كانت في بعض أطوارها كَرٌّ وفَرٌّ بيننا والمستعمِر، وتارة ننتصر عليه، كما هي الحال مع أنوال ولهري وبوغافر والدّشيرة وجبل بادّو ومعارك آيت عبد الله وآيت عطّا وأحداث المشور وتحويل ماء وادي بوفكران وانتفاضات الدار البيضاء سنة 1944، ومع معارك جيش التحرير بالشمال والجنوب، وأنوية العمل الفدائي التي أسسها الشهيد محمد الزرقطوني[1] وانتشرت في ربوع المغرب تهدِّد الوجود الاستعماري وتحبط أهدافه، وسجّلت بمداد الفخر انتصارات متفرّقة “في ساحات المعارك والفداء”[2]، ثم مع المعارك السياسة والدبلوماسية التي ترافَع فيها الوطنيون الـمغاربة ببراعة ومهارة عن أحقية بلادهم في الحرية، وسطَّروا تاريخا “حقّقوه بدمائهم وتضحياتهم المريرة”[3]، كحدَث تقديم وثيقة الـمطالَبة بالاستقلال سنة 1944، وتأسيس جيش تحرير المغرب العربي بقيادة الأمير الـمجاهِد محمد بن عبد الكريم الخطابي من مُـقامه بالقاهرة، والزيارتان التاريخيتان للسلطان إلى طنجة وتطوان سنة 1947، وثورة الملك الشعب، ومذكّرات السلطان محمد الخامس والقوى الوطنية التي رُفِعَت وتُلِيت في منتديات أممية ودولية في باريس ومدريد وواشنطن.

لقد تكامَلت لغة السِّلاح مع لغة السياسة طيلة مسار نضال المغرب في السياق الراهن، وشكَّلتَا معاً دفاعاً مجيداً عن حقوق المغرب التاريخية في أرضه وسيادته وحرية شعبه وشَرعية سُلطانه، وصنعتا “ملحمة شَعْبٍ رَزَح تحت الاستعمار ما يَزيد عن أربعين سنة، لا قوة له ولا حولَ إلّا إيمانه وعَزيمته”[4].

الاستقلال.. اختلافات وتقديرات بناء الدولة الوطنية الحديثة

سالَت أودية بِقَدَرها مِن مداد أقلام المؤرخين والمثقَّفين والساسة الذين عايشوا المرحلة، والشبان الباحثين في تاريخ المغرب الراهن، والمعارضين من مختلف المواقع والاتجاهات.. تكتب وتشرح وتؤوِّل أطوار حصول المغرب على الاستقلال[5].

وقد اختلفت التقديرات الشخصية والجماعية حول طبيعة الاستقلال وشكله ومؤدّاه؛ تماما كما اختلفت الرؤى والتصورات بين قادة الحركة الوطنية المغربية وجيش التحرير المغربي والقوة الثالثة والقصر فيما بين 1955-1956، إنْ لم تكن قبلها بكثير، خاصة والمغاربة يتذكرون حدث انقسام (كتلة العمل الوطني)، ويتذكرون اختلاف الإرادات والمقاربات بين الزعيم محمد بلحسن الوزاني والأستاذ علال الفاسي والسياسي المثقَّف المهدي بن بركة[6]، وبين الحركة الاستقلالية والأحرار المستقلِّين وولي العهد (مولاي الحسن) من جهة أخرى.

رغم أن الظاهرَ الواسمَ لمرحلة النضال الوطني من أجل الاستقلال كان نزَّاعا إلى رهان الوحدة في إطار الاستقلال، والاستقلال الكامل في إطار السيادة التامة، وعودة السلطان مُقدِّمة لأيِّ تفاوض حول الاستقلال، والإجماع حول الاستقلال الشّامل؛ إلا أنَّ تأجيل المسألة الديمقراطية وطبيعة بناء الدولة الوطنية الحديثة، سيكون الميْسم البارز لسنوات ما بعد الاستقلال، والإشكال المركزي في معركة حسْم المشروعية التي ستُدخل البلاد في طور النزاعات والانقسامات بين العائلة الوطنية، بحيث انقسمت النُّخبة الوطنية إلى تيارين؛ رفع التيار الأول شعار (الدِّيمقراطية مِن الأعلى) أيْ “البدء بدمقرطة البلاد بانتخاب مجلس تأسيسي يُعهد إليه بوضع دستور للبلاد، وبعد ذلك تُجرى انتخابات تشريعية ينبثق عنها برلمان البلاد، ثم في مرحلة ثالثة تجرى الانتخابات المحلية، مِن بلدية وقروية، لتكوين المجالس (..)، وكان محمد بلحسن الوزاني مِن أنصار هذا التّيار والمنظِّرين له”. أمّا “التيار الثَّاني فقد رفع شعار (الدِّيمقراطية مِن أسفل)، بمعنى البَدء بانتخاب المجالس البلدية والقروية قَبْل أيِّ مرحلة أخرى”.[7] وتفاصيل هذه المرحلة موثَّقة ومبَيَّنة في كثير من المراجع والمذكرات السياسية[8] على اختلاف مشارف كُتّابِها، فلتُطالَع في مَظانها.

إن استقلال المغرب وعلى غرار باقي دول العالم العربي وشمال إفريقيا لحقبة ما بعد الاحتلال؛ سيُولَد حاملا لتناقضاته في ذاته، وستُعَبِّر عن تلك التناقضات طبيعة المجال السياسي المغربي الذي أضحى غداة الاستقلال في مرمى صراع حاد بين “التقليد” و”التحديث” ؛ أو بتعبير آخر برؤى تجرُّ إلى ضرورة المحافظة على التقاليد العتيقة للمخزن المغربي الموروثة عبر عقود، وفي المتن من ذلك؛ تقوية الموقع السياسي والزمني والروحي للملكية؛ ورؤى تجرُّ إلى واجب الوقت زمنئذ، الموجِب لضرورة إقامة مجال سياسي حديث، يؤسِّس لملكية دستورية توافقية مع القوى المعتَــبَــرَة في الأمة المغربية، ويُعزِّز من دور المؤسسات الدستورية والتمثيلية[9]، ويقوم على اقتسام السلطة وتدويل تدبيرها بين الأحزاب السياسية عبر انتخابات تشريعية حرة ونزيهة، ودستور ديمقراطي حائز على موافقة شعبية واسعة، ثم التقدُّم صوبَ تشكيل حكومة وطنية فاعلة، مسؤولة أمام البرلمان، تستهدف تحرير الاقتصاد الوطني، وتصفية مخلَّفات الاستعمار، وتضطلع بمهام الاستقلال، وتعمل على تأطير المجتمع الجديد[10].. هذا التناقض المركزي من أصْل تناقضات كثيرة أخرى، بقيت تعتمل متوارية تارة، وظاهرة تارة أخرى، إلى أنْ ترسّخت كعوائق بنيوية.

خاتمة

تحلّ علينا الذكرى 67 لهذا الحدث الوطني الهام وهي تَأمل في أنْ يتذكّر الجيل الحالي ملحمة النضال الوطني ضد الاستعمار بكل افتخار، ويَعلم أنه كان وراء توقيع وثيقة الاستقلال تاريخ مجيد من التضحيات والمقاومة والصمود.. من انتفاضة الشريف أمزيان إلى استسلام البطل الوطني محمد بن عبد الكريم الخطابي في 1926، ومن مرحلة الكفاح المسلح مع الهَيبة والزياني وعسُّو وأسكونتي إلى مرحلة النضال السياسي والمقاومة المدنية مع الحركة الوطنية في الشمال والجنوب، إلى تدويل القضية المغربية في أروقة الأمم المتحدة والجامعة العربية، مرورا بالعمليات البطولية مع رواد جيش التحرير المغربي عبر ربوع الوطن، وصولا إلى طور المفاوضات.. ؛ سِجِلٌّ حافل بأروع صور الاستماتة والاستبصار، والجهادية والفدائية..

أسماء ووجوه وأحزاب ووطنيون وديمقراطيون وعلماء ونساء مغربيات مقاوِمات ومتطوعون..؛ وراء ما نتمتّع به اليوم من نعمة الحرية والاستقلال والاستقرار؛ حَقيق علينا أنْ نتذكَّرهم ونترحَّم عليهم ونحتفي بصنيعهم وكفاحهم.

المراجع
[1] الإبريزي أحمد، محمد الزرقطوني؛ قِـيمٌ إنسانية صَنعت فِعل الشهادة، منشورات مؤسسة الزرقطوني للثقافة والأبحاث، الطبعة الأولى 2015.
[2] الصنهاجي عبد الرحمن عبد الله، مذكرات في تاريخ حركة المقاومة وجيش التحرير المغربي من 1947 إلى 1956، ص: 12، عن مجلة "الذاكرة الوطنية، العدد 8، طبعة 2005، منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير.
[3] الصنهاجي عبد الرحمن عبد الله، مذكرات في تاريخ حركة المقاومة وجيش التحرير المغربي من 1947 إلى 1956، مرجع سابق، ص: 13.
[4] إسماعيلي الساسي، ذاكرة مقاوِم؛ سَرد لأحداث تاريخية بالصور والوثائق من 1950 إلى 1965، تنسيق ومراجعة محمد زاد، منشورات المندوبية السامية لقدماء المقاومين وأعضاء جيش التحرير، الطبعة الأولى 2021، ص: 11.
[5] القبلي محمد (تنسيق وتقديم)، تاريخ المغرب؛ تحيين وتركيب، السحب الثاني 2012، منشورات عكاظ الرباط.
[6] بوتان موريس، الحسن الثاني، ديغول، بن بركة؛ ما أعرفه عنهم، ترجمة رشيد برهونس، مراجعة عثمان بناني، منشورات دفاتر وجهة نَظر، عدد 29، طبعة 2015.
[7] الدِّيمقراطية في المغرب العربي، أعمال ندوة دولية نُظِّمَت بفاس، أيام 9-12 شتنبر 1998، منشورات مؤسسة محمد بلحسن الوزاني، مطبعة النجاح الجديدة – المغرب، ص 58.
[8] الوزاني عز العرب، حدّثني والدي؛ المعركة من أجل الشورى والاستقلال، منشورات مؤسسة محمد حسن الوزاني، فاس، المغرب، النسخة العربية، الطبعة الأولى 1990 الموافق لــ 1410 هجرية/ الجابري محمد عابد، في غمار السياسة؛ فكراً وممارسة، ج 1، ج2، ج3، منشورات الشبكة العربية للأبحاث والنّشر، الطبعة الأولى 2010، بيروت – لبنان/ إبراهيم عبد الله، أوراق من ساحة النضال، منشورات وزارة الثقافة والاتصال، طبعة 2019.
[9] زكي أحمد، سالم لطافي أحمد، الحركة الوطنية الكتلة واليسار؛ وقائع للتاريخ، مطبعة النّجاح الجديدة، الطبعة الأولى 2013.
[10] Mehdi Ben Barka, Option révolutionnaire au Maroc, Ed. Maspero, Paris, 1966.