يعتبر الأستاذ المهدي بن بركة أحد رموز الجيل الثاني للحركة الوطنية المغربية، وأبرَزُ طلائع النخبة السياسية في مغرب أواخر الأربعينات والخمسينات، ظهر في عهد الحماية بمظهر الوطني الطامح إلى استرجاع الاستقلال في أقرب وقت ممكن، فيما برز في عهد الاستقلال ومنذ عودة الملك في نونبر 1955 بمظهَر الوطني الطامح إلى بناء مغربٍ جديد يتخطَّى الآثار السلبية التي ورثها عن زَمن الاستعمار، ويتخطى سلبيات مغرب ما قبل الاستعمار التي كانت سببا وراء عقد الحماية[1]، وينطلق في بناء المجتمع الجديد والدولة الوطنية الحديثة.

النَّشأة والبِدايات الأولى 

وُلد المهدي بن بركة في مدينة الرباط في أوج معارك حرب الريف عام 1920، لأسرة بسيطة تنحدر من الصحراء، من أبٍ يمارس التجارة، وأمّ ربَّة بيت. حفِظ القرآن الكريم في الكُتّاب، ولم يلتحق بالمدرسة إلا في سنّ التاسعة. بعد التِحاقه بصفوف الدراسة أبدى نبوغاً استثنائيا أهَّله للتميُّز على أقرانه، حتى قيلَ أنَّه كانَ إذا تغيَّب المدرّس؛ فإن المهدي كان يُلقي الدرس مكانه. عمل مُحاسِباً في سوق الجملة بعمر 15 سنة، كما اشتَغَل في ترتيب الضرائب الفلاحية في سِنِيِّ عمره اللاحقة.

كان بشهادة أساتذته وأصدقائه تلميذا متفوقا في الرياضيات والتاريخ والعلوم واللغة الفرنسية، كما أنه بدأ حياته السياسية في إطار كتلة العمل الوطني، وهو في سن الخامسة عشر، فكان من المواظبين على زيارة ضريح سيدي (العربي بن السايح)، ونشيطاً في الفرقة المسرحية التابعة لقدماء المدرسة اليوسفية بالرباط، وفي هذه الفرقة مَثَّل المهدي أدوارا في مسرحيتيْ “لقيط الصحراء” و”غفران الأمير”.

التَحق بثانوية مولاي يوسف، وفيها حصَل على شَهادَتَيْ “الدراسات الإسلامية”، و”الباكالوريا” سنة 1938[2]،  فأرسله الجنرال (نوكيس) إلى باريس في عطلة صيفية ضمن وفد تلمذي. تَزَعَّمَ الحركة الطلابية في ثانوية مولاي يوسف، ونشِطَ في عِدَّة مجالات، وخاض وقفات ومسيرات تنديدية بالسياسة الاستعمارية رُفقة مجموعة من التلاميذ، وكان مشرفا على خلية “العمل المغربي” وهي أوّل منظّمة تحرِّض على النِّضال ضدّ المستعمر، وبتأطير من أبرز روّاد الحركة الوطنية في الرباط وسلاً آنئذ.

انتقل بعد حصوله على الباكالوريا الثانية 1939 في الرياضيات للأقسام التحضيرية، ومنها إلى الجزائر، حيث حالت الحرب العالمية الأولى دون توجّهه لفرنسا لدراسة الإجازة في الرياضيات. وفي الجزائر العاصِمة انخرَطَ في مهام نضالية[3] ومسؤوليات نقابية طلابية طيلة فترة تواجده، أبرزُها؛ انتخابه رئيساً لاتحاد طلاب شمال أفريقيا، ومنها اختمرت في ذهنه فكرة “التضامن المغاربي”، التي لازمته طيلة مساره القصير.

وبعد حصوله على شهادة (الليسانس)؛ عادَ للرباط سنة 1942، ملتحقاً بثانوية غورو أستاذاً، فمُدرِّساً للرياضيات بالمعهد الملكي سنة 1943 حيث كان من تلامذته في ذلك الحين (الأمير الحسن).

تزوّج المهدي مِن بنت أحد الأعيان الصغار في الرباط، (غيثة بنونة)، وأنجب منها أربعة أبناء (البشير، فوز، والتوّأم سَعد ومنصور).

النشاط السِّياسي الوطني

بعد العودة إلى أرض الوطن من الجزائر مسكوناً بهاجِسِ الثورة ضدّ الوضع القائم، والدفع بحركة المقاومَة إلى آفاقٍ أوسع وأنجع في مواجهة الاستعمار، وبعد توقيعه على وثيقة المطالبة بالاستقلال وهو ابن 24 سنة؛ سيذوق (المهدي) تجربة الاعتقالات والمتابعات، إذ سُرعان ما ألْقَت عليه سُلطات الحماية القَبض إِثْر مظاهرات يناير 1944، واستودَعتْه السجن إلى مَتم 1945. ونظراً لديناميته التنظيمية والعملية في صُفوف حزب الاستقلال؛ سيُعَيَّن مديراً عاماً للجنة التنفيذية للحزب، ومُشرِفاً على إصدار جريدة (العَلَم)، وخَطِّها التحريري والسياسي.

ستبْرز الأدوار الطلائعية للرجل إلى جانب صَفوة نُخبة العمل السياسي في المغرب في فترة الخمسينات على أكثر من مُستوى؛ إذ سيُقدِّمُ مُذكِّرة وطنية إلى هيئة الأمم المتّحِدة في مقرِّها بباريس، وسيصير العدو الأول لفرنسا الاستعمارية، نظراً لنشاطه السياسي وقُربه من القصر وشبكة علاقاته الواسعة مع خلايا المقاومة المسلَّحة، واتّصالاته مع عددٍ من الأحرار والمثقَّفين ورجال المال والأعمال الفرنسيين الـمسانِدين لاستقلال المغرب، وإشرافه الكبير على تنظيم رحلة السلطان محمد الخامس لطنجة سنة 1947، ومِن غرفة فندق “المنزه” بعاصمة البوغاز حَرَّر البيان الأول باللغة الفرنسية حول زيارة الملك للمنطقة الدولية؛ أدّى ثَمَنَها الاعتقال والنفي والإقامة الجبرية في أغبالو نو أكردوس القاحلة ما بين 1951 – 1954.

عقِبَ ذلك؛ عَلا نَجمُه كمُحاور رئيس في معركة استرداد الاستقلال، داخليا وخارجيا. إذ شارَك في الوفد الذي عَقَد جلسات استماع (إكس – ليبان) مع الفرنسيين في عام 1955، وهي الجلسات التي عاد المهدي بن بركة لنقد ما دار فيها وخلاصاتها في مقال بعنوان “نقد ذاتي”، وكان مما جاء فيه: “.. إننا انصعنا للعبة المستعمر، إذ أحللنا محلّ الهدف الأساسي للنضال الذي بدأت معالمه تتضح يوما عن يوم في أذهان المناضلين؛ هدفا آخر سهلا في المدى القريب، ولكنه خادع في المدى البعيد (..)، وهذه الإجراءات المـتّـخذة عن حسن نية ولكن دون استناد إلى إستراتيجية شمولية ستؤدّي إلى نتائج سلبية وإلى إفساد الحركة الوطنية. ليس عيبا التوصل إلى توافق؛ فكل شيء رهين بميزان القوى والهدف القريب أو البعيد المنشود، ولكن الأهمّ إنجازُ ذلكَ في واضحة النهار، وتفسير الوضعية برُمّتها للمناضلين. والأهم أنْ لا نُعيدَ نفس خطأ إكس – ليبان، وألّاَ نبرّر كُلية التوافق، ونحتفِلَ به كما لو أنه النصر المبين، على قواعد وأهداف انتهازية”[4] . وقد توجت تلك الجلسات بإنهاء الاستعمار الفرنسي المباشر للمغرب، وإعادة الملك محمد الخامس من منفاه في مارس 1956. كما ساهم المهدي بن بركة بدور هامٍّ في التحضير لمؤتمر حزب الاستقلال في دجنبر 1955، وفي 16 نونبر 1955، تَوَلَّى تسيير مصلحة النِّظام داخل حزب الاستقلال التي أطَّرَت عملية استقبال عودة السلطان.

وبدخول المغرب فَجر الحرية والاستقلال؛ سيتعزّز الحضور القوي للمهدي بن بركة وطنيا وعربيا ودوليا. فقد ترأّس المجلس الوطني الاستشاري في 18 نونبر 1956،  ومن موقعه هذا؛ انتقد سياسة التعريب الـمُرتَجَلة وطالب بانتخاب جمعية تأسيسية، واعتماد إصلاح فلاحي، ورحيل القوات الأجنبية والتحديث الاقتصادي، ودفع باتّجاه تبنّي المجلس قرارا بخصوص انعقاد “مؤتمر باندونغ” لدول عدم الانحياز، بَعدما أدرك أهميته باعتباره اللقاء الأوّل بين ممثلي الدول البروليتارية، ورسالة إلى عالم الأغنياء والأقوياء، مضمونها أنّ عهد احتكار المبادرة التاريخية قد ولّى إلى غير رجعة، وأنّ العالم عازم على أنْ يَأخذ الكلمة[5]، ومصادقة المجلس على قرار تعيين الأمير (الحسن) وليا لعهد المملكة.

ستَظهر الاختيارات الوطنية والسياسية للمهدي بن بركة خلال مرحلة الخمسينات وبداية الستينات واضحة في ضرورة وجود أداة حزبية فعّالة وديمقراطية، النضال ضد الاستعمار هنا وفي باقي البلدان الـمُحتَلَّة، الانحياز للشعب وقواه الحية الممثّلة في النقابيين الذين يُدافعون عن الشعب المغربي بعماله وفلاّحيه وطلبته، والمقاوِمين الذين يَسعون إلى إلحاق الهزيمة بسلطات الحماية وبقاياها. جنباً إلى جَنب؛ مع رغبته في العمل من أجل بلاده. والذين يعرفون المهدي “يحكون عن ذكائه الـمنفعِل باللحظة، وحِسّه العملي النّفعي، وسُرعته في اختيار القرار عندما يجد نفسه أمام العديد من الحلول؛ فديناميته تدفعه إلى كلّ ما يراه المُستَـعجَل والأهمّ والأنسب له وللبد أيضا”[6].

مسؤوليات التحرُّر الإفريقي والمغاربي.. الإشعاع الدولي للمهدي

بين 1956 – 1959 تَـجسَّد دَور المهدي باعتباره “دينامو المغرب الجديد” بتعبير (جان لاكوتور)، ثورياً، واقعيا، وعقلانيا ومناضلاً ناهجاً طريق القانون والشرعية والوضوح، واضعاً ثِقته في محمد الخامس كي يقود البلاد نحو ملكة برلمانية دستورية كما كان ينشُدها المهدي. طيلة هذه السنوات تحرَّك المهدي على نطاق واسع بصفته رئيسا للمجلس الوطني الاستشاري، إلا أنَّ جولاته إلى الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا لم تُبعِده عن الاهتمام بقضايا البلاد الداخلية والانشغال بواجب تقديم العون للأشقّاء الجزائريين في معركته ضد الاستعمار الفرنسي، كما تجلّى ذلك في مشاركته بمداخلة في ندوة مؤتمر طنجة الدولي سنة 1958، ممثّلا عن حزب الاستقلال. فَضلاً عن أدواره الأخرى في ملفات: التعليم، الوحدة الترابية، طريق الوحدة، التطورات الحزبية داخل بيت الحركة الاستقلالية..؛ الأمر الذي خلَق له أعداءً وخصوماً في الداخل والخارج، سَعت للحيلولة دون تقلُّده لمناصب حكومية في الحكومات الثلاث عقب الاستقلال، وهدفَت لمنعه “من القيام بأيّ دور رسمي بعد نهاية مهامه في ربيع 1959 كرئيس للمجلس الوطني الاستشاري لإقصائه نهائيا عن مراكز القرار.. وبعد أقل من سنة؛ ستتواصل المضايقات التي جعَلته يضطرّ لمغادرة البلاد في يناير 1960..”[7]. أما على الصعيد الداخلي – الحزبي؛ فسيترأس المهدي التجمعات الخطابية والأشغال التحضيرية للجامعات المستقِلّة لحزب الاستقلال، والتي ستُفضي إلى الإعلان عن تأسيس حزب الاتحاد الوطني للقوات الشعبية يوم 25 يناير 1959، وانتُخِب المهدي عضوا في اللّجنة الإدارية للحزب الجديد.

فيما ستَعرف مسيرة المهدي ما بين بداية الستينات وتاريخ اختطافه واختفائه، مناهضتهُ لدستور الحسن الثاني، ودعوته لمقاطعة الانتخابات التشريعية، ثمَّ العُدول عن القرار؛ إلى المشاركة فيها وانتخابه نائبا عن حي يعقوب المنصور في الرباط.

إضافةً إلى لقاءاته المتعدِّدة مع شخصيات وقادة العالم الثالث والقوى القومية والتقدمية في العالم، التي أعطت للرجل مكانة دولية مُعتَبَرة وإشعاعاً جعل منه المهدي الإفريقي، والمهدي العربي، والمهدي العالمي. وكذا موقفه المندِّد بالعنف الرهيب في حق انتفاضة 23 مارس وما تلا ذلك من إعلان الملك حالة الاستثناء في 1965. وموقِفه الرافض لحرب الإخوة الأشقّاء في أكتوبر 1963، وإعلانه عنه عبر إذاعة “صوت العرب”، حيثُ أنَّ المستقبل في رأيه كان يتمثّل في وجود فضاء مغاربي وحدوي وليس في وجود حرب وحُدود، الأمر الذي وجَده الحسن الثاني مُبرّرا كافيا لاستصدار قرار الحكم عليه بالإعدام غيابيا. ناهيك عن مواقفه من الحرب الأمريكية – الفيتنامية في 1965، الداعية إلى ضرورة وقْف التغلغل الإمبريالي الأمريكي، وحقّ المقاومة والشّعب الفيتنامي في الحرية والاستقلال؛ الأمر الذي أضحى مثار تخوّفات من لدن الأمريكيين إزاء المهدي.

انتُخِب المهدي في هاته الفترة رئيساً للجنة دعم حركات التحرر، كما شارك في المؤتمر الرابع “لمنظمة تضامن شعوب إفريقيا وآسيا” شهر ماي 1965، حيث انتُخِبَ رئيسا للجنة التحضيرية للمؤتمر الخامس المزمَع تنظيمه في العاصمة الكوبية “هافانا” في يناير 1966. ثمَّ استقرارُه لفترةٍ في العاصمة الصينية بيكين، ومشاركته في “المؤتمر الدولي المناهض للقنبلة الذرية” في المدينة اليابانية ناكازاكي..؛ وشهورا بعد ذلك تَنَقَّل بين جينيف وباريس والقاهرة وهافانا حيث التقى بــ (فيدل كاسترو)، فَجاكارتا، فالعودة للقاهرة مرة أخرى، منها إلى جنيف وباريس وفرانكفورت، حيثُ كانَ اللقاء بمبعوث الحسن الثاني الأمير (مولاي علي) في يوم 25 أبريل 1965.

وقد أوْدَع أهمَّ أفكارِه السياسية والوطنية والإيديولوجية في تقرير مشهور عَنْوَنه بــ”الاختيار الثوري بالمغرب”، فضلاً عن عدد لا يُستهان به من المقالات والتّصريحات الصحفية والمداخلات والكلمات الخَطابية والندوات التي ساهم فيها داخل المغرب وخارجه.

المراجع
[1]  مجلة أمل، للثقافة والتاريخ والمجتمع، العدد 6، ص: 45.
[2]  موريس بوتان، الحسن الثاني، المهدي بن بركة، ديغول، ما أعرفه عنهم، منشورات الزمن، ص 19.
[3]  موريس بوتان، الحسن الثاني، ديغول، بن بركة؛ ما أعرفه عنهم، مرجع سابق، ص20.
[4]  Mehdi Ben Barkan, Option révolutionnaire au Maroc, Ed. Maspero, Paris, 1966.
[5]  جان لاكوتور، في لومند، 19 أبريل 1957.
[6]  بوتان موريس، الحسن الثاني، ديغول، بن بركة؛ ما أعرفهم عنهم، ترجمة: رشيد برهنوس، مراجعة: عثمان بنّاني، دفاتر وجهة نظر، العدد 29، الطبعة الأولى 2014، ص: 21.
[7]  جبرو عبد اللطيف، نقاش مع جون واتر بوري حول كتابه عن أمير المؤمنين والنخبة السياسية المغربية، منشورات سلسلة أحاديث ونقاشات مغرب القرن العشرين، مطبعة فضالة، الطبعة الأولى 2005.