مقدمة

خناثة بنت الشيخ بكار المغافري، إحدى النساء المغربيات اللواتي بصمن تاريخ البلد ببصمات خالدة، سواء على المستوى العلمي أو السياسي، فقد كانت عالمة متمكنة من أصناف علمية متعددة كالحديث والقراءات السبع والتصوف، كما كانت من العالمات اللائي أسهمن في الحياة السياسية للبلد فكانت أول امرأة تتولى منصب الوزارة في المغرب، خاصة وأنها كانت زوجا للسلطان العلوي المولى إسماعيل، وأما للسلطان مولاي عبد الله وجدة السلطان سيدي محمد بن عبد الله. كما كانت حياة خناتة بنت بكار مليئة بأعمال الخير والإحسان واعمار البلد ومساعدة الفئات المحتاجة. وقد كان زواجها من السلطان العلوي القوي المولى إسماعيل حدثا رمزيا كرس لحقيقة تاريخية وهي وحدة أراضي المغرب من أقصى الشمال إلى تخوم السودان الغربي، وكيف لا وقد تزوجها وهو في زيارة للإقليم الصحراوي المغربي سنة 1089ه/1678م.

النسب والنشأة

نشأت خناثة في بيت علم وأدب، فهي بنت الشيخ بكار بن عبد الله المغافري، فحصلت قدرا مهما من العلوم في بيت أبيها فنشأت محبة للعلم والمعرفة، وبعد انتقالها إلى بيت الزوجية إلى قصر المولى إسماعيل، وجدت في خزانة زوجها ما يشفي غليلها من المصادر والمراجع، فعكفت لسنوات طويلة على المطالعة والدراسة، فأهلها ذلك أن توصف بالفقيهة والأديبة. كما قرأت القرآن على الشيخ أبي عبد الله محمد المكي الدكالي، وهو من حفاظ القرآن الكريم المشهورين، كانت تكتب الآيات الكريمة في لوح تبعث إليه ليسلكه لها، إلى أن استظهرت القرآن الكريم كله.[1]

وصفها صاحب “الإتحاف” عبد الرحمن ابن زيدان بقوله: “فقيهة عالمة أدبية دينة من أصرح العرب نسبا وأرجلهم حسبا وأرقهم مجدا وفخرا، وأعزهم جانبا، وأرفعهم قدرا من صميم قبائل المغافرة، وهم من ظهر حسان من عرب اليمن”[2]. ووصفها أحمد الناصري بكونها: “ذات جمال وعفة وأدب”. أما الوزير الشرقي الإسحاقي الذي صحبها في رحلتها الحجية المشهورة فقال عنها: “ما تعلم واحدة من الحرائر التي دخلت التي دخلت دار الخلافة من أزواج مولانا إسماعيل تشبه هذه السيدة ولا تدانيها همة وصيانة ورزانة وحصانة عقل ومتانة دين وكان لها كلام ورأي وتدبير مولانا أمير المومنين ومشاورة في بعض أمور الرعية وكانت له وزيرة صدق وبطانة خير…”. ووصفها الرحالة الإنجليزي ونداس دجون عندما كان بصدد الحديث عن المولى إسماعيل، فقال: “ونجد بجانبه سيدة فاضلة زوجة  الأميرة خناثة التي يضمر لها كامل الإحترام ويسترشد بأرائها في كثير من الأحيان”.[3]

خناتة بنت بكار.. الوزيرة والمستشارة

أما على المستوى السياسي فقد كان لخناتة بنت بكار قدرات سياسية كبيرة وحنكة واضحة وأفق سياسي ليس له مثيل، الأمر الذي أهلها لتكون مستشارة لزوجها ولولدها فيما بعد، فقد كانت مطلعة بشكل دقيق على تفاصيل الحياة السيايسة للبلد، وعلى دقائق العلاقات الخارجية للمغرب مع الدول الأخرى. وحول ذلك يقول الوزير الشرقي الإسحاقي في رحلته: “وكان لها كلام ورأي وتدبير مع مولانا أمير المؤمنين رحمه الله ومشاورة في بعض أمور الرعية، وكانت له وزيرة صدق وبطانة خير تأمره بالخير وتحرضه عليه وتتوسط في حوائج الناس ويقصد بابها أهل الحياء والحشمة وذو الحاجات…”.[4]

وقد ظهرت حنكتها أساسا بعد وفاة زوجها عام 1727م/1139ه حيث شهد البلد اضطرابات عدة وثورات عديدة، ومؤمرات عبيد البخاري، وصراع مرير بين أمراء البيت العلوي، خاصة بين أبناء المولى إسماعيل. وقد امتدت تجربتها وانخراطها في شؤون الحكم لأكثر من ستة وستين سنة، قضت خمسين منها إلى جانب زوجها وستة عشر سنة إلى جانب ابنها. وقد كانت هذه الفترة الطويلة مليئة بلحظات المشورة والتدخل لإصلاح ذات البين بين الفرقاء المتصارعين، أو إبداء النصح والتنبيه على أمر هام أو مراسلة توقير ودعم. بل كانت لها أيضا مراسلات دبلوماسية كانت ترمي لتوطيد العلاقات بين المغرب وبعض الدول الأوربية، وكذا لتحرير الأسرى[5]. وتبقى أهم لحظة تاريخية برزت فيها شخصيتها القوية والقيادية بعد وفاة زوجها القوي حيث هب إعصار سياسي كبير على البلد فظلت صامدة تكاتب العلماء وتعقد التحالفات بين القبائل المختلفة لمناصرة ولدها عبد الله. وقد تمكن هذا الأخير بدعم من أمه خناتة من أن يعيد الاستقرار إلى البلد بعدما مزقته الصراعات السياسية. [6]

رحلتها الحجية.. الحدث التاريخي البارز

لقد كانت رحلة حجها سنة 1143ه/1731م صحبة حفيدها الأمير محمد بن عبد الله (فيما بعد السلطان محمد بن عبد الله) حدثا بارزا على جميع الأصعدة، وقد كانت الرحلة في عهد ولدها السلطان عبد الله ابن إسماعيل. وقد أبرزت رحلتها الحجية تلك صفاتها المميزة كامرأة تقية وعالمة ومحسنة ومحبة للإنفاق في كل محطة من محطات رحلتها الطويلة. كما كان موكبها انعكاسا لمدى القوة والعظمة التي بلغها المغرب في عصر زوجها المولى إسماعيل، حيث كان خروجها للحج في أبهة من أبهات الملوك[7]. فقد كان موكبها مميزا وضم عددا من رجالات المخزن الإسماعيلي وابنه عبد الله منهم: القاضي أبو القاسم العميري وشيخ الركب عبد الخالق عديل والوزير الشرقي الإسحاقي، وقد لفت الركب إليه الأنظار في كل المحطات والأقاليم والبلدان التي اجتازها، فخلف صدى طيبا في أوساط الشرفاء والعلماء والحكام وشيوخ العشائر.[8] وقد كانت محطة الوقوف بطرابلس (ليبيا الحالية) محطة مميزة سواء على مستوى الإستقبال الذي حظيت به خناتة وحفيدها محمد، أو من الصدى والإبهار الذي خلفه موكبها بطابعه الخاص وبالأزياء المميزة لأفراد المخزن الإسماعيلي وابنه عبد الله.[9]

ومن الأعمال الجليلة التي استحسنها الناس وفرة أعمال الإنفاق والخير التي قامت بها خناتة بنت بكار فكان عطاؤها عطاء من لا يخشى الفقر، وشمل كل الفئات. ففي محطتها بطرابلس قابلت حسن استقبالها بأضعاف مضاعفة من الإنفاق وأعمال الخير والتبرع للفقراء وغير الفقراء. وقد فعلت نفس الأمر مع أهل ينبع بالجزيرة العربية لما قدموا للتهنئة والتحية، “فأكرمت وفادتهم وأحسنت إليهم كعادتها المألوفة وبالأخص مع الأشراف آل البيت المصطفى، وأهدت لهم كساوى من أرفع طرز، وأدت لهم مائتي مثال ذهبا مطبوعة كانت توجه لهم أيام زوجها الأعظم مولانا إسماعيل، ومائة مثقال ذهبا منحة من عندها شطرها للشرفاء والشطر الآخر للشريفات”.[10] كما اشترت عقارات أوقفتها في سبيل الله، ومنها دار ببا العمرة، أحد ابواب الحرام، أوقفتها على الطلبة خاصة.[11]

وقد مدحها –من جملة من مدحها- الشيخ محمد بن علي بن فضل الحسيني الطبري إمام المقام الإبراهيمي بقصيدة استهلها بقوله[12]:

غنّى على عودِ السُّعود هَزارِي ***وشدَا على الأوتار بالأوطار

ويزيد بقوله:

فاحَتْ به أرْجاءُ مكة رغبة *** ومحبة من سائر الأَخيار

وهي الحقيقة بالجلالة في الورى *** فجلالَةُ الأَضياف ليس بعار

معاناة الاضطهاد والسجن

وبسبب انتصارها لإبنها ووقوفها إلى جانبه في المطالبة بعرش والده، فإن ذلك جلب عليها غضب وتضييق ربيبها السلطان أبو الحسن علي الأعرج بن إسماعيل الذي استولى على الحكم وأزاح ابنها سنة 1147ه. فوجد فيها كبش فداء فاقتحم عليها دارها واستولى على ما فيها من متاع بأمر من الباشا سالم الدكالي وزج بها في السجن مع حفيدها محمد بن عبد الله. ورغم إطلاق سراح حفيدها فإنها بقيت في السجن مدة من الزمن. وذلك قبل أن تستعيد حريتها بعد عودة ابنها عام 1149ه إلى الحكم، بعدما قضى قرابة ثلاث سنوات عند أخواله بواد نون. وقبل أن تفرح بحريتها قام عبيد البخاري بخلع ولدها مرة أخرى، فاضطرت للخروج من مكناسة يوم الخميس 30 ربيع الأول 1154ه قاصدة فاس فجمعت تحالفا قويا ضم أقاربها من الأوداية والمغافرة وأنصار ولدها من أهل فاس والقبائل المؤيدة لهن فتمكن ولده من تحقيق النصر على المتمردين واسترد عرشه.[13]

وفاتها

بعد سنين مديدة من الحضور العلمي والإجتماعي والسياسي الحافل، وبعد محطات صعبة من المعاناة والمحنة التي واجهتها، سلمت روحها إلى بارئها سنة 1159ه/1746م ودفنت بمقبرة الأشراف بفاس الجديد. ومن الآثار التي خلفتها: رسالة موجهة إلى سكان وجدة، تنصحهم وتطمئنهم بشأن المخاوف التي كانت تراودهم من قبل أتراك الجزائر، ونجد أيضا شرح الإصابة ف معرفة الصحابة لابن حجر العسقلاني.[14]

المراجع
[1] الأخضر محمد، الحياة الأدبية في المغرب على عهد الدولة العلوية (1075-1311/1664-1894)، درا الرشاد الحديثة، الدار البيضاء، ط1، 1977، ص 245.
[2] ابن زيدان عبد الرحمن، إتحاف أعلام الناس بجمال أخبار حاضرة مكناس، ج3، تحقيق علي عمر، مكتبة الثقافة الدينية، ط1، 2008، القاهرة، ص 25.
[3] آمنة اللوه، أميرات مغربيات حافظن على العرش المغربي، مجلة دعوة الحق، ع 04، السنة العاشرة، فبراير- مارس 1967، ص 147-151.
[4] ابن زيدان عبد الرحمن، إتحاف أعلام الناس بجمال أخبار حاضرة مكناس، مرجع سابق، ص 26.
[5]  آمنة اللوه، أميرات مغربيات حافظن على العرش المغربي، مجلة دعوة الحق، ع 96، ص 147-151.
[6] ماكَامان محمد، معلمة المغرب، ج11، منشورات الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر ومطابع سلا، 2000، ص 3826.
[7] ابن زيدان عبد الرحمن، إتحاف أعلام الناس بجمال أخبار حاضرة مكناس، مرجع سابق، ص 26.
[8]  ماكَامان محمد، معلمة المغرب، مرجع سابق، ص 3825-3826.
[9] ابن زيدان عبد الرحمن، إتحاف أعلام الناس بجمال أخبار حاضرة مكناس، مرجع سابق، ص 29-30.
[10] ابن زيدان عبد الرحمن، إتحاف أعلام الناس بجمال أخبار حاضرة مكناس، مرجع سابق، ص 30-32.
[11] الأخضر محمد، الحياة الأدبية في المغرب على عهد الدولة العلوية (1075-1311/1664-1894)، مرجع سابق، ص 244.
[12] كنون عبد الله، النبوغ المغربي في الأدب العربي، ج1، ط2، 1960، ص 281.
[13] ماكَامان محمد، معلمة المغرب، مرجع سابق، ص 3826-3827.
[14] الأخضر محمد، الحياة الأدبية في المغرب على عهد الدولة العلوية (1075-1311/1664-1894)، مرجع سابق، ص 245.