مقدمة

يعتبر شيخ الإسلام محمد بلعربي العلوي مفكرا ومجاهدا وعالما ومصلحا مجددا وأديبا، وشخصية وطنية فريدة تركت بصمتها في التاريخ السياسي المغربي المعاصر. وترعرع في بيئة مثالية متشبعة بروح الوطنية والعلم والأخلاق الفاضلة، حيث كانت نشأته في هذه الظروف معينا له على بناء أسس الحركة الوطنية المغربية على درب النضال الهادف من أجل التحرير الشامل للإنسان والأرض من التخلف والتبعية والاستعمار.

حياته بين مدغرة وفاس

ولد محمد بلعربي العلوي في 26 شتنبر 1884 بالقصر الجديد بمدغرة، إحدى واحات “تافيلالت” بجنوب المغرب التي منحت للشعب المغربي والأمة العربية والإسلامية أعلاما في مختلف الميادين العلمية والسياسية والثقافية والفكرية. وتلقى تعليمه الأولي بين أحضان أسرته حيث كان لوالده الدور الكبير في تربيته وتنشئته المبكرة، كما كان لابن عمه الشريف مولاي علي الطيب والفقيه المرحوم الطالب الجيلالي ووالدته الشريفة السيدة الهاشمية أيضا دور كبير في حفظه المبكر للقرآن الكريم.

ودخل محمد بلعربي العلوي الكتاب “الجامع” وهو  في سن الخامسة من عمره ليحفظ القرآن ويتعلم القراءة والكتابة كما اعتاد كل أبناء مدينته، حيث يدخل الطفل إلى الكتاب في الخامسة من عمره يحفظ القرآن ويتعلم الكتابة والقراءة، ثم بين سن العاشرة والرابعة عشر يبدأ في مرحلة حفظ الأجرومية والألفية بالنسبة لعلوم اللغة والنحو، والرسالة ومختصر خليل بالنسبة لعلوم الفقه، وبعد هاتين المرحلتين الأساسيتين ينتقل الطالب إلى أحد المساجد الكبرى المعروفة في المدينة ثم إلى القرويين مباشرة –حسب الظروف الاجتماعية للطالب-[1].

تنقل بلعربي العلوي في صباه بين كتاتيب ومدارس مدغرة وفاس تبعا لظروف الأسرة الاجتماعية إلى أن بلغ سن السابعة عشر من عمره، حيث استقر به المقام بمدينة فاس سنة 1898، وانخرط هناك في جو طلب العلم بجامع القرويين، ثم صاحبه والده واستقرا بالمدرسة المصباحية الشهيرة التي تقع قبالة الباب الغربي من جامع القرويين.[2].

تكوينه العلمي والثقافي

تلقى الشيخ محمد بلعربي العلوي علمه وتكوينه الشرعي والفكري والثقافي على يد العديد من العلماء والمثقفين، بدءا بوالده سيدي العربي الذي كان نائبا لقاضي فاس والذي كان له الدور الكبير في جعله يرتبط بالكتاب والقلم والمعرفة وجعلهم يرافقونه طيلة حياته أينما حل وارتحل، مما جعله يبلغ أعلى درجات التعليم في وقته. وقرأ شيخ الإسلام على يد العديد من العلماء كسيدي بن عبد السلام بن محمد بناني، وسيدي محمد بن قاسم القادري، وسيدي أحمد بن الجيلالي الأمغاري، وعمه سيدي محمد بن محمد بن محمد العلوي[3].

ولازم أثناء فترة دراسته وتدريسه بالقرويين أئمة ذلك العصر، حيث كانوا معجبين به وبفصاحته وقدرته على الحفظ والاستظهار، وقيل فيه: “إنه يأتي إلى الدرس وقد استظهر كل ما يتعلق به استظهارا عجيبا، كما يستظهر الفاتحة، مع عدم تكلف في التعبير، وذلك في جميع الفنون، حتى كان مضرب المثل بين أقرانه”. حيث كان طالبا مجدا يطالع كل ما يصله من أوراق ومجلات وكتب.

وكان محمد بلعربي العلوي في بداياته متأثرا بالطريقة التجانية، على اعتبارها هي الطريقة التي كانت منتشرة بشكل كبير في منطقة تافيلالت. وعرف في أوله أنه كان مدافعا عن الطرقية وأهلها بشكل شرس، إلى أن مده أحد الكتبيين بكتاب معنون ب “الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان” لابن تيمية، فتغيرت نطرته للدين وفهمه وكيفية تنزيله، حيث وجد من خلال هذا الكتاب الدين الذي يحكم العقل والعلم، الدين الذي يحرر الإنسان من كل أنواع التحكم والاستعمار والعبودية ويخضعه لله وحده.

وكان لأستاذه أبي شعيب الدكالي الذي تأثر بالعديد من رموز الإصلاح الذين برزوا في ذلك الوقت كجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ورشيد رضا الأثر الكبير في تغيير قناعاته وتجديد فهمه للدين والسلفية، حيث اطلع عبره على العديد من المجلات التي كانت تأتي من المشرق ك”المنار” و”الشهاب” و”العروة الوثقى” وغيرها، حيث كانت هي المجلات الأكثر انتشارا في العالم الإسلامي آنذاك، وكان يديرها دعاة الإصلاح، كاللبناني شكيب أرسلان وجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده. كما اتصل به بلعربي العلوي وأخذ عنه العديد من الكتب التي أنارت فكره، كصحيح الإمام البخاري للقسطلاني والموطأ وجامع الترمذي ومقامات الحريري والنخبة لابن حجر وغيرها، فأضحى يناظر ويناقش من هم لا زالوا على النهج التقليدي على رأيه.

واطلع أيضا على الجريدة التي كان يصدرها العالم الأزهري الشيخ علي يوسف بعنوان “المؤيد”، حيث منها تعلم كيفية الكفاح ضد المتعاونين الدينيين الذين يخضعون الإسلام والمسلمين مقابل دنانير ودراهم وهدايا يمنحها المحتلون بسخاء. ومنها تعلم أيضا كيفية تلقين الناس المبادئ الحقيقة لأخذ موقف واضح وحازم من الاستعمار الفرنسي. كما كان قريبا من المدرسة العصرية بفضل اطلاعاته الكثيرة على رموز العديد من الثورات في العالم، حيث كان معجبا بالجزائري الأمير عبد القادر بن محيي الدين، وبأحمد عرابي باشا المصري[4].

وبدأ تفكير الشيخ محمد بلعربي العلوي يتغير تدريجيا في اتجاه القطع مع كل الممارسات التعبدية والسلوكية التي كان يقوم بها سالفا وهو وسط الطريقة التجانية. حيث استلهم مبادئ التفكير النقدي مما تعلمه من أستاذه أبي شعيب الدكالي، لينتقل من منطق التقليد والجمود إلى الفكر الإصلاحي المقاوم. لهذا أثر بشكل كبير في شباب الحركة الوطنية من خلال ما كان يبثه فيهم من قيم الكرامة والحرية.

حياته المهنية والعملية

حصل محمد بلعربي العلوي سنة 1912 من جامعة القرويين على شهادة العالمية – كما كان متداولا آنذاك في الاصطلاح العلمي-، وهي السنة ذاتها التي تعرض فيها المغرب للإخضاع من قبل الاستعمار الفرنسي بموجب توقيع وثيقة الحماية.  وكانت أول وظيفة تم تكليفه بها كانت “عدلا بأحباس فاس الجديد”،وذلك في نفس عام تخرجه، ثم عين بعد ذلك رئيسا للاستئناف الشرعي سنة 1928، ووزيرا للعدل سنة 1938.

  • التدريس:

بدأ شيخ الإسلام حياته العملية بالتدريس بجامعة القرويين سنة 1912، حيث كان يدرك جيدا أنه من الواجب اتخاذ القرويين مكانا لإقناع الناس بأن وثيقة “الحماية” التي فرضها الاستعمار الفرنسي على المغرب لا يمكنها إلغاء تاريخ المغرب، وأن الاستعمار لا حق له في منع المغاربة من حقهم في المطالبة بتغيير المنكر[5]. وبهذا انخرط بلعربي العلوي في محاربة الاستعمار الفرنسي مستغلا موقعه للتدريس في جامعة القرويين.

لقد كان التدريس بالنسبة إلى محمد بلعربي العلوي أمرا أساسيا طيلة حياته، حيث كان لا يفارق منبر التدريس حتى وهو مكلفابمسؤوليات كبيرة في الدولة. حيث كان يعتبره وسيلة للتربية الخلقية والسياسية، أي تربية الناس على الأخلاق الحميدة وتربيتهم أيضا على قيم التحرر والمقاومة. كما درس في جامعة القرويين، وعين رئيسا لمجلسها الأعلى، كما أنه درس بالثانوية الإدريسية بفاس، والمدرسة الحرة بالمغرب التي ساهم بشكل كبير في إنشائها.

وبعد انتقاله الى الرباط درس في مساجدها ومساجد سلا والدر البيضاء أيضا، كما كان إبان نفيه يعقد حلقات للنقاش والتدارس في أي مكان يتم تحويله إليه. إضافة إلى هذا فتح مجال آخر للتدريس لشيخ الإسلام في مجالس الوعظ والحديث التي كانت تقام بالقصر الملكي بالرباط، و التي كان يحضرها إلى جانب الملك الهيئة الوزارية وكبار الشخصيات آنذاك، وكانت الإقامة الفرنسية تراقب هذه الدروس عن كتب وتوليها عناية خاصة، لكن محمد بلعربي العلوي لم يكن يقيم وزنا لهذه الأمور كلها، وكان يستغل فرصة تواجده هناك ليبسط الدين على حقيقته كما يفهمه بالانطلاق من عقيدته وقناعاته وشجاعته النادرة.

وكعالم ينتمي للاتجاه السلفي، فإن طريقته في تدريس أمور الدين كانت هي العودة لأصوله الأولى وتبسيط فهمها، حيث كان لا يستحضر كتب الفقه والعقيدة المعقدة، بل كان يعتمد على الكتب البسيطة في التحليل حتى يفهم طلبته أو يتجاوز الأمر بنفسه ليفسر مضامين آيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية الشريفة. حيث كان بهذه الطريقة يدفع الطلبة الى استغلال أوقاتهم دون الغرق في تناول النصوص المستعصية وشروحاتها، بل يذهبون مباشرة لفهم النصوص والموضوعات ذاتها.

وكان تدريسه أيضا يسير في اتجاه تحبيب اللغة العربية وكل ما يتعلق بها لطلبته وتلامذته، ومن النصوص التي كان يفضلها: ديوان الحماسة لأبي تمام، لما يبثه في نفوس قارئه من الشعور بالعزة والكرامة والرفعة، إلى جانب ما فيه من الأدب الرفيع. لهذا كانت دروسه تلقى إقبالا واسعا في أوساط الشباب، سواء من الطلبة أو الصناع التقليديين أو التجار مما لم يحظ بمثله إلا دروس تلميذه في السلفية علال الفاسي[6]. كما كان يدعو طلبته إلى تعلم اللغات الأجنبية أيضا، خصوصا اللغة الفرنسية منذ سنة 1926[7].

إن جهود السلفي المناضل محمد بلعربي العلوي التعليمية والتربوية لم تكن مقتصرة على طلبة العلم والشباب الذين يهتمون بالأمور الدينية والشرعية، بل كان يحرص على أن يبلغ دروسه للجميع. ولذلك كانت له علاقة بالعديد من شباب الحركة الوطنية المغربية والمقاومة المسلحة، كما كانت له علاقة أيضا فيما بعد بالعديد من مناضلي الأحزاب السياسية الوطنية الذين كان يزورهم في مقراتهم ليحاضر فيها بما يتناسب واستحقاقاتهم الوطنية التحررية. فتخرج على يده العديد من رموز النضال الوطني المغربي والعديد من العلماء والمثقفين حيث أثر فيهم بدروسه وما كان يلقيه، ولعل شهاداتهم اكبر دليلا على ذلك. نذكر منها: قول الأستاذ علال الفاسي: “قرأت على الفقيه محمد بلعربي العلوي المختصر بشرح الدردير، والتحفة بشرح الشيخ التاودي بن سودة، وجمع الجوامع بشرح المحلي، والكامل في الأدب للمبرد، ومقامات الحريري، وعيون الأخبار لابن قتيبة”.

  • العدلية والقضاء والوزارة:

كانت أول وظيفة كلف بها محمد بلعربي العلوي بعد الأستاذية، هي تعيينه عدلا بأحباس فاس الجديد في أواخر سنة 1912. ثم بعدها بثلاث سنوات أسند إليه منصب قاضي فاس الجديد[8]، حيث كانت فاس آنذاك مقسمة بين ثلاث قضاة: قاضي الرصيف، وقاضي السماط، وقاضي فاس الجديد والأحواز. حيث عرف بنزاهته واستقامته في مزاولته لهذه المهنة، ولعل المكانة التي كان يحظى بها في نفوس الناس خير ذليل على ذلك.

ورغم نزاهته هذه التي يشهد بها الكل، لم يسلم بلعربي العلوي من الدسائس التي كانت تحاك له للإيقاع به أو تشويه صورته وحتى إبعاده عن هذا المنصب. حيث كان أعداؤه يفترون عليه بسب السلطان والتقليل من شأنه، باستحضار قولة قالها لأحد الملاكين الكبار الذي حكم الشيخ لرباعه المظلوم ضده، حيث أخبره الملاك أنه سيشكوه للسلطان، فقال له الشيخ: “طبل وغيط وزمر”، فوشى به فعلا، فأمر السلطان مولاي يوسف أن يعزل ويؤتى به مهانا، فتدخل المقيم العام ليشهد بنزاهته ورفعة أخلاقه وزهده وأن ليس من المصلحة عزله أبدا[9].

كما كان يزاول مهامه في المحكمة ويدرس في القرويين وينتدب للتدريس بالثانوية الإدريسية في آن واحد، كما كان دوره كبيرا في تأسيس أول مدرس حرة في المغرب وهي المدرسة الناصرية بفاس. وامتدت حقبة ممارسته للتدريس والقضاء قرابة العشرين عاما[10].

وبعد سنوات من اشتغاله بنزاهة و أمانة في سلك القضاء، قامت السلطات الاستعمارية آنذاك بإعفائه من منصبه كقاضي شرعي لمدينة فاس، وكان عمره آنذاك خمسون سنة. لكن كان رد فعل السلطان محمد بن يوسف في قمة الوطنية حينما استدعاه إلى العاصمة ليسند إليه رئاسة مجلس الاستئناف الشرعي، ثم سيصبح على قمة وزارة العدلية ليكون أقرب الناس إلى الملك، ويلعب دور الوساطة بينه وبين الوطنيين. لكنه استقال من رئاسة المجلس سنة 1944، احتجاجا على تزايد تدخل القوى الاستعمارية ورفضها الاستجابة لمطالب الشعب المغربي، وهو ما جعل الحماية تضغط عليه للتراجع لكنه رفض. وغداة الاستقلال عينه الملك محمد الخامس وزيرا للتاج، حيث ظل يتقلد هذه المسؤولية إلى حدود سنة 1959[11].

جهوده الوطنية والقومية

كان لشيخ الإسلام الدور الأساسي في التمهيد للحركة الوطنية المغربية، وكان الباعث الديني عنده يتحكم في كل أعماله وتحركاته، فقد بعث الوطنية بين الناس من خلال دروسه التي كان يستغلها ليعبئ الناس ضد الاستعمار والوقوف ضده. والدليل على ذلك هو أن النواة الأولى للنضال الوطني انبثقت من تلامذته الذين درسوا على أيديه بالقرويين والثانوية العصرية الإدريسية والمدرسة الناصرية. وقد وثق هذه الحقيقة العديد من تلامذته الذين أصبحوا فيما بعد رموزا للنضال الوطني، كالأستاذ عبد الرحيم بوعبيد والمهدي بن بركة، وعلال الفاسي وغيرهم.

وعاش الشيخ العديد من الأحداث التي جسدت فعليا وطنية الرجل وغيرته على بلده وأمته، ونذكر منها:

أولا: ثورة الريف:

قامت ثورة الريف في عشرينيات القرن الماضي ضد الاستعمار الفرنسي والإسباني بقيادة المجاهد محمد بن عبد الكريم الخطابي الذي قام بدور كبير في لم شمل كل قبائل الريف وجبالة وغمارة تحت راية الكفاح والجهاد. وكانت أسمى أمنيات محمد بلعربي العلوي وهو قاضي ومدرس بفاس آنذاك أن يلتحق بصفوف المجاهدين ليشاركهم ساحات القتال لاسترجاع شرف الوطن والأمة. ولكن هذه الأمنية لم تتحقق له وحز الأمر في نفسه كثيرا، لكنه عوض ذلك بالمعركة الإصلاحية التي كان يخوضها ضد كل عملاء الاستعمار من إداريين وساسة ومشايخ يستغلون جهل الناس لبث نفس الاستسلام في نفوسهم[12]. كما كانت حلقات دروسه عملا مؤثرا لدعم ونصرة ثورة الريف، حيث كان يقول للحاضرين: “إن موقف المشاهدة والفرجة كفر؛ فأحرى دور الانهزاميين والعملاء وكل من يساند الإدارة الاستعمارية”.

واتضح موقف شيخ الإسلام الداعم لثورة محمد بن عبد الكريم الخطابي بشكل جلي حين قطع الصلة مع كل الطرق خصوصا الطريقة التجانية، بل أكثر من ذلك، فهو من شن حربا كلامية ضدهم لما تأكد أنهم يتسلمون هدايا من المستعمرين الفرنسيين والإسبان، حيث كان يفضح بلعربي العلوي هؤلاء الطرقيين أمام طلبته ويدين عملهم، باعتباره عملا يحافظ على تقاليد بالية تكبح انطلاقة الأمة الإسلامية. كما كان يتجول في شوارع فاس وأسواقها يخاطب الناس علنا: “ماهي مساهمتك في دعم ثورة الريف؟”[13]وأيضا موقفه الذي أبدى فيه إعجابه بأسد الريف في اللحظات التي كانت سلطات “المخزن” تسدي إعانات هامة للجيوش الفرنسية، خرج معلنا أن محمد بن عبد الكريم الخطابي هو محرر الأمة الإسلامية من السيطرة الأوروبية.

ونذكر هنا على أن شيخ الاسلام بعد سنين طويلة كان قد تلقى رسالة من الأمير محمد بن عبدالكريم الخطابي سنة 1960، أعرب فيها هذا الأخير عن دعمه له في ما يقوم به من محاربة للظلم والاستبداد والاستعمار، فالمغرب في حاجة إلى مرشد مثلكم يلهب العواطف الكامنة في أبناء الأمة المغربية[14].

إن هذا كله يعبر عن الاقتناع العميق الذي ولدته له السلفية بضرورة النضال والتضحية من أجل كرامة الشعب المغربي، ولعل ما يزكي هذا الأمر أيضا، عندما قرر الالتحاق بجيش بطل الأطلس موحا وحمو الزياني[15].

ثانيا: الموقف من الظهير البربري:

يذكر أنه كان الشيخ محمد بلعربي العلوي كان يبكي لحظة إلقاء لدروسه عند صدور  الظهير البربري، حيث كان يقول لطلبته أن الاستعمار أعلن الحرب بهذا الظهير. واستطاع بذلك أن يوقظ شعلة الوطنية ويدفع بطلابه إلى تكوين الخلايا الأولى للعمل النضالي الوطني لمواجهة الإدارة الفرنسية ضدا على هذا الظهير. كما كان لموقفه الرافض لإيقاف الدروس التي كان يلقيها علال الفاسي بالقرويين بعد اندلاع المظاهرات والانتفاضات في كل شوارع المغرب، أثرا كبيرا في نفوس الوطنيين ورجال المقاومة المسلحة.

ثالثا: دعم المطالبة بالاستقلال:

كان لموقف شيخ الإسلام الداعم للمطالبة بالاستقلال أثر كبير في صفوف الوطنيين المغاربة والشعب المغربي قاطبة، فإبان تقديم وثيقة المطالبة بالاستقلال في 11 يناير 1944، وقف محمد بلعربي العلوي مدافعا عن فكرة الاستقلال وضرورة توحيد جهود كل الوطنيين والمقاومين في هذا الاتجاه.

فبعد أن توالت عرائض المطالبة بالاستقلال بشكل كبير على القصر الملكي سنة 1944، قرر الملك محمد الخامس أن يصطف إلى صوت الشعب المغربي، على عكس الإدارة الفرنسية التي لم تقم بأي ردة فعل تجاه هذا الأمر. فقام الملك بجمع المجلس الوزاري ليناقش الأمر ويتحمل مسؤوليته أمام الشعب المغربي، وطلب من محمد بلعربي العلوي ألا يتحدث لأنه يعرف موقفه. فتحدث كل الوزراء وعبروا عن مساندتهم لمطالب الشعب المغربي، واتفقوا أن يقابلوا المقيم العام ليتفاوضوا معه بخصوص هذا الأمر.

وتمت المقابلة بين الوفد الوزاري والمقيم العام، فما كان للوزراء بأكملهم إلا أن يصمتوا ويخرسوا جميعهم، إلا محمد بلعربي العلوي الذي تصدي للمسألة وأراد أن يشرح للمقيم العام الأمر، لكن هذا الأخير قرر ألا يسمع وألا يفهم ما هو المطلوب، وقال: “إنه بمقتضى عقد الحماية، فإن فرنسا وحدها هي التي لها الصلاحية لإجراء الإصلاحات اللازمة في الوقت الذي تراه لازما”. لكن شيخ الإسلام لم يطق سماع كلام كهذا الذي يتحدى به المقيم العام الشعب المغربي بأكمله، فرد عليه بلعربي العلوي قائلا: “مهما يكن الحال، فتأكد أننا لسنا خرافا، وحتى لو كنا كذلك، فإن الخراف نفسها لا تستسلم عن طواعية لمصيرها على يد الجزار، بل إنها تقاوم إلى أن تغلب أمرها” فعاد الوفد الوزاري لتقابل الملك مرة أخرى، لكن بوجه غير الذي كان سابقا، وهو ما دفع بلعربي العلوي تقديم استقالته من منصبه كوزير للعدل احتجاجا على تخاذل الوزراء وعدم اصطفافهم إلى جانب مطالب الشعب المغربي[16]..

رابعا: أحداث النفي:

مرت مدة قليلة جدا على الموقف الذي صرح به شيخ الإسلام بخصوص المطالبة بالاستقلال، وتوصل باستدعاء من إدارة الشؤون السياسية، ولما ذهب وجد الجنرال جيوم في انتظاره مع نائبه الأول بونيفاس، حيث أخبروه أنه قد تقرر نفيه، وأنهم يتركون له حرية الاختيار، فاختار قرية “القصابي” المتواجدة في الأطلس المتوسط، حيث رافقه ابنه مصطفى سنة 1944. وكان الشيخ في منفاه يجمع حوله الناس يتحدث إليهم حول رؤيته السلفية تجاه المجتمع والسياسة والأخلاق وما إلى ذلك. ولم تمر إلا ثلاثة أشهر تقريبا حتى جاء الأمر مرة أخرى بنقل الشيخ لمسقط رأسه “مدغرة” رفقة ابنه مصطفى. وكان يقوم بنفس ما اعتاد عليه سابقا من توعية الناس وتعبئتهم ضد المستعمر، وحين يتم التضييق عليه يدعوهم للاجتماع بعد الصلوات ليتحدث معهم فيما يشاء. لكن بعد سنتين؛ أذن له بالعودة إلى الرباط، ليلتقي أبناءه حيث وجدهم في ظروف صعبة جدا كما كان يحذره العديد من الناس إبان تقديم استقالته، واستقر بالرباط إلى أن أصبحت ظروفه المادية في تدهور، وهو ما دفعه إلى بيع بيته بالرباط والعودة إلى فاس ليشتغل ببعض الزراعة وتربية الأبقار ليعيل أسرته[17].

ولما عاد إلى فاس استأنف دروسه بالقرويين من جديد سنة 1946، حيث تهافت عليه الناس أكثر من أي وقت مضى، وقال لهم قولته المشهورة: “أنا طالب، فراشي لبدتي، وغطائي برنسي، ووسادتي بلغتي”[18]. وهو ما جعل الإدارة الفرنسية تصبر مرة أخرى إزاءه، حيث أصدرت أوامرها بضرورة توقيف دروسه، ودعته إلى أن يوقف خلط مواضيع الدين بتحريض الناس على النضال والكفاح ضد المستعمر، وهو ما جعله يذهب لمنطقة إيموزار لقربها من فاس ليبقى على تواصل مع أسرته، لكن رغم ذلك استمر في إلقاء دروسه وهو ما جعل الحماية تعيده لفاس وتفرض عليه الإقامة الإجبارية بتطويق بيته بالأمن الفرنسي.

إضافة لكل هذا فقد عاش الشيخ أحداث وامتحانات أخرى في حياته انتصر فيها لمصلحة الوطن والشعب على مصلحته، كلحظة نفي الملك المحمد الخامس التي كان فيها شيخ الإسلام أسدا، حيث كان وفيا لوطنه وملكه. كما أنه رفض مفاوضات إكس ليبان ورفض أي استقلال للمغرب بدون رجوع الملك.

خامسا: موقفه من القضية الفلسطينية:

إن انشغال شيخ الإسلام بالدفاع عن وطنه ومصالح الشعب المغربي، لم تشغله عن الاهتمام بقضايا المسلمين في باقي الأقطار الإسلامية، حيث كان يهتم لكل شبر من أرض المسلمين، خصوصا فلسطين. حيث ساند بلعربي العلوي القضية الفلسطينية، حيث كان يراسل قادة النضال الفلسطيني آنذاك كأمين الحسيني ليطلعهم على دعمه الصادق واللامشروط للقضية الفلسطينية. كما حاول الالتحاق بالثورة الفلسطينية التي اندلعت سنة 1947 إلا أنه منع من ذلك، وحرض الشباب على الالتحاق بالثورة الأخرى سنة 1948[19]. كما كان بلعربي العلوي قد قام بإخبار حزب الاستقلال ليخبر بدوره هو الآخر الجامعة العربية أنه يضع نفسه تحت تصرفها للقتال في فلسطين[20]. الأمر الذي يبين الانشغال الكبير لدى شيخ الإسلام بقضايا الأمة ومساندته لقضية فلسطين، التي كان يعتبرها قضية كل مسلم وكل إنسان.

وتوفي رحمه الله بفاس في 04 يونيو 1964، مخلفا أحد عشر من الأبناء والبنات.

المراجع
[1] طارق القباج: حياة شيخ الإسلام محمد بلعربي العلوي(الرباط، دار النشر طوب بريس، يونيو 2014، ط1) ص 41.
[2] عبد القادر الصحراوي: شيخ الإسلام محمد بلعربي العلوي (الدار البيضاء، دار النشر المغربية، 1965، ب ط) ص 14-15.
[3] حياة شيخ الإسلام محمد بلعربي العلوي، مرجع سابق، ص 49.
[4] المرجع السابق نفسه، ص 51.
[5] عبد اللطيف جبرو: تاريخ الوطنية المغربية (ب م، ب ن، ب ت، ب ط) ص73.
[6] حياة شيخ الإسلام محمد بلعربي العلوي، مرجع سابق، ص 81.
[7] معلمة المغرب، مرجع سابق، ص 6164.
[8] محمد المختار السوسي: مشيخة الإليغيين(الرباط، مطبعة المعارف الجديدة، 2010، ط1) ص 189.
[9] حياة شيخ الإسلام محمد بلعربي العلوي، مرجع سابق،ص 114-115.
[10] شيخ الإسلام محمد بلعربي العلوي، مرجع سابق، ص 32-34.
[11] ضمن مؤلف جماعي: "معلمة المغرب" (سلا، الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر، 1989، ط 1) ص 6163.
[12]ضمن كتاب جماعي: "السلفية في المغرب العربي" (الرباط، منشورات جمعية المحيط الثقافية والجمعية المغربية للتضامن الإسلامي، 1989، ط1) ص 18-19.
[13] تاريخ الوطنية المغربية، مرجع سابق، ص 78.
[14] معلمة المغرب، مرجع سابق، ص 6167.
[15] "السلفية في المغرب العربي"، مرجع سابق، ص 219.
[16] حياة شيخ الإسلام: محمد بلعربي العلوي، مرجع سابق، ص 204 و205.
[17] المصدر السابق نفسه،ص207-210،
[18] شيخ الإسلام محمد بلعربي العلوي، مرجع سابق، ص 156-157.
[19] عبد الرزاق السنوسي: مسارات مائة شخصية فاعلة في تاريخ المغرب من القرن 19 إلى 21(الدار البيضاء، مطبعة ليمورية، 2010، ط1) ص 16.
[20] علال الفاسي، "أعلام من المشرق والمغرب"(جريدة البصائر الجزائرية، العدد 30، 1948).