توطئة

علماء كُثُر في تاريخ المغرب الأقصى قُدّر لأعمالهم ومؤلّفاتهم أنْ تعيش عمرا مديدا، وأن تُتدَاوَل في المجامع العلمية والمدارس والكتاتيب، ولكن قَلَّما طَبَقَت شُهرةُ عالمٍ مغربيٍ الآفاق وانتشرت مصنفاته وعلمه مشرقا ومغربا، ودام حضورها إلى يوم الناس هذا. فهذا الصنف من العلماء وأعمالهم الخالدة يعَدّونَ على رؤوس الأصابع، ومع ذلك فإسهاماتهم ما تَزال ذات راهنية وتأثير واسع في العالم الإسلامي والغربي، من خلال الترجمات التي أنجزت عنها. ومِن صفوة العلماء الذين حَضُوا بالعناية والانكباب الدائم على إرثهم، وتداوُل كُتُبهم إلى زمننا وإلى أن يشاء الله؛ العلّامة النّحوي النّحرير؛ محمد بن داود الصنهاجي، المشهور على ألسنةِ العلماء والعامة بــ”ابن آجرّوم“.

“الأجرومية” النقلة النوعية في مسار شيخِ العربية

مِن أرض الحجاز مهبط الوحي؛ سيتفرّغ ابن آجروم لكتابة أهمّ أعماله العلمية التي ستُخَلِّد اسمه وسترتبط به لقرون عديدة، تلك هي “المقدمة الآجرومية في مبادئ علم العربية”[1]، المقدمة الأكثر شيوعا وذيوعا بعد مقدمة ألفية مالك.

لا نعلم السّر الكامن وراء احتفاء المغاربة والمشارقة بالآجرومية، غير أننا عندما نطّلع على السياق الذي كُتِبت فيه، ونعرف ما كان عليه صاحبها من صلاح واستقامة وتفقّه في الدين ومتانة في العلم ومكارم الأخلاق؛ تنقشع غيوم السؤال عن أسرار استمرار حضور المقدمة إلى عهدنا هذا. ناهيك عن أنّ الشيخ ابن آجروم كان قد شرع في تحريرها برحاب الكعبة المشرّفة، فنالت بَركة الزمان والمكان.

أتى ابن آجرّوم في المقدمة الشهيرة بمنهج سليم، وطريقة مُبسّطة، واختصرها بشكلٍ سَهُل معه قراءتها وحفظها، وأحسَن ترتيب أبواب النّحو فيها، وتَـجَـنَّب التشويش على الطلبة والقُرّاء بالإتيان بغريب الإعراب ومشاكِله، ومنها تحصيلُه المفيد فيها لعلامات الإعراب. وجاءت المقدمة الآجرومية في 30 بابا وفصْلاً صغيراً مهَّد فيه لــ”أنواع الـكلام”. وإنّ المختصِّين في اللغة والنحو ليجِدُون في ورَقات المقدمة ما يُغنيهم، ويُفيد طَلبتهم، ويوافق دقيقَ اختصاصهم في علم النحو.

لقد كانت هاته المقدمة المباركة النافعة سببا في شهرة ابن آجروم، لا سيما بعد عودته للمغرب، شُهرةً فاق بها سيبويه، ومُصَنَّفَه المعروف في علم العربية والنحو. وكانت سببا في إقبال الطلبة على تحصيل العلم على يد الشيخ ابن آجروم[2]، فحَجُّوا إليه من كلّ فجٍّ عميق، فكان مـمن تتلمذ على يديه مباشرةً ابنه محمد الصنهاجي الذي صار عالما ونحويا بارعا كأبيه، ومحمد بن شعيب الجزنائي، والفقيه عبد الله الوانْغيلي، والقاضي محمد بن عبد المهيمن الحضرمي، والأديب محمد بن حزب الله الخزرجي، واللغوي المتفنّن محمد مَنديل..، ومن علماء الأندلس الذين تلقّوا العِلم على يد ابن آجروم السيد عمر الغساني.

أما من لم يَـتتلمَذ على يديه مباشرة، واستفاد من مقدمته العظيمة في اللغة العربية إلى يوم الناس هذا؛ فخلْق كثير وتلامذة لا يُـحصَون عَدًّا.

ولما كان مَدار النّحو كله على الإعراب؛ فقد سَعى ابن آجروم – بذكاء – إلى وضْع مقدِّمته فجَمع فيها وأوْعى، ضاما إليها ما تَفَرَّق في المدرستين البَصْرية والكوفية في النحو، فأتت مقدِّمته جامِعةً بينهما، فوجَد فيها أهل المشرق بُغيتهم، حتى عَدَّها العلّامة الأديب عبد الله كنّون مِن “التآليف المدرسية النّاجحة، التي رُوعِيَ فيها نفسية الطّفل، وأصول التربية الحديثة، بالتدرّج مِن المحسوس إلى المعقول، ومِن البسيط إلى المركَّب، ولذلك نراها كثيراً ما تُستَعمَل حتى في المدارس العصرية (..) كما وَضَع لها الـمدرِّسون العصريون تمارين وجداول صَرْفية وأُمثُولات؛ مما يدلُّ على شِدّة عِنايتهم بها، ومَزيدِ حِرصهم عليها”[3].

نص صامد لزمن خالد

لقد كَتب الله لهذه المقدِّمة الخلود، فهي تُـتْلى وتُحفَظ عن ظَهر قلْب، في عقول الناشئة والمدرِّسين والفقهاء منذ قرون، واعتنى بها خَلق كثير من الفقهاء واللغويين، وشَرَحها عدد كبير من الشرُّاح منذ كُتِبت واشتُهِرَت، ذَكر من بينهم الأستاذ عبد الله كنون؛ المحقِّق أبو عبد الله الشريف الفاسي، الذي شرحها شرحا مبسَّطا، مُركّزا على الألفاظ ثم المعاني. والشيخ علي بركة، عالِم تطوان، الذي تفضَّل بشرحها في سِفْر ضخم، فنفع الله بها أجيالاً وأجيالاً. والفقيه الراعي الأندلسي؛ والعلاّمة السوداني، والعلّامة المكّودي، والشيخ الأزهري، الذي اعتُمِد شرحه في بعض المدارس الحرة والكتاتيب القرآنية بالمغرب. والشيخ حسن الكَفراوي الذي اعتنى بجانب الإعراب من المقدمة الآجرومية، وقدّم خِدمة جليلة للطلبة. أما الصوفي الكبير الشيخ أحمد بن عجيبة رحمه الله فتفرّد بالشرح الإشارِي العرفاني البليغ للمقدمة.

أما الحواشي والشروح الصّغرى فقد تجاوزت _ إلى حدود سبعينات القرن العشرين _ تسعةَ عشْرة حاشية، فصَدق فيها قول الشاعر شرف الدين العمْريطي:

فــانــتَفَعَت أجِلَّـــةٌ بِـعِـلْـمِـها  * مَعْ ما تَراهُ مِن صِغَر حَجْمِها

ومن مَظاهر عناية الغَربيين بالمقدِّمة؛ إقدام اللغويين الإيطاليين على ترجمتها للغة الإيطالية سنة 1592م، ثم إلى اللاتينية سنة 1610م، ثم طُبِعت مع شرح باللغة الإنجليزية سنة 1832م، وفي نسخة فرنسية سنة 1846م، ونَقلها إلى اللغة المجرية المستشرق كانْيوريسكي سنة 1930م.

وما تزال تُعتمد في المدارس ومعاهد التعليم الديني في شتى الأصقاع.. كما تم رفْعها على منصات إلكترونية شهيرة، كمكتبة نور، ومكتبة المصطفى. ومن مظاهِر إقبال الناس عليها؛ تزايُد أرقام تحميلِ المقدّمة في نُسختها الإلكترونية. ولا غَرو؛ فقد كانت منذ القرن الثالث عشر الميلادي أوّلَ ما يُدرَّس في العالم الإسلامي في ميدان اللغة العربية، وكان مَن يُتقن الآجرومية، يتسنّم مكانا عاليا بين النّحويين المتمكنين.

المراجع
[1] آجروم محمد بن داود، متن الآجرومية في النحو، دار الصميعي للنشر والتوزيع، المملكة العربية السعودية، الطبعة الأولى 1998.
[2] المكناسي أحمد بن القاضي، جِـذوة الاقتـباس في ذِكــر مَـن حَـلَّ من الأعلام مدينةَ فاس، دار المنصور للطباعة والوراقة، الرباط، الطبعة الأولى 1973، ص 221 وص 233.
[3]كنون عبد الله، ذكريات مشاهير رجال المغرب في العلم والأدب والسياسة، الجزء الثاني، مركز التراث الثقافي الغربي، دار ابن حزم للنشر، الطبعة الأولى 2010، ص 482.