مقدمة

تاريخ المغرب الفكري والعلمي حافل بعلامات متميِّزة، رجالاً ونساءً، جسَّدوا العبقرية المغربية في أبهى تجلَّياته لقرون عديدة، وإن كان يتعذّر علينا الحديث عن طور أو عهد أو عصر علمي؛ وإنما هي مراحِل صحوة أنوارية ثمّ تتعثّر، متأثِّرة بإشكالية الانقطاع وعدم التراكم. وهذه الإشكالية ما خلا منها بلد وما كان العرب والمغاربة بِدْعا من الأمم الأخرى، التي استقرَّت فيها مظاهر الحضارة طوْراً ثم انتكست أطواراً، ثم عادت إليه وهكذا دواليك. إلا أنَّ أهمَّ ما ميَّز حضارة المغرب كثرةُ ما نَبغ فيها من العظماء، والسلاطين الذي كانوا بدورهم علماء، والحضارة كما وصف ابن خلدون “سرّ الله في حصول العلم والصنائع”[1].

عصور النبوغ المغربي بين الصُّعود والهبوط

لقد كان للحواضر الكبرى ولمدّ التأثير المشرقي (القيروان، القرويين، القاهرة، دمشق، بغداد) دور بارز في إثراء الحضارة المغربية برافد قوي من العلوم في شتى المجالات، نَهضت منها؛ الرياضات والطب والفلك والكيمياء، لا سيما فيما بين القرنين التاسع والثالث عشر الميلادي، وامتدّت تأثيراتها أيضا إلى أواسط القرن الثامن عشر، حيث لن نُعدَم وجود نبغاء مغاربة في ميادين الفلك والحساب وغيرها، كمحمد بن سليمان الروداني مؤلِّف “بَهجة الطّلاب في العمل بالأسطرلاب”، و“تُحفة أولي الألباب في العمل بالأسطرلاب”، و“رسالة في رسْم الإسطرلاب بالهندسة في الهـيئة”، ومنظومة شِعرية في علم الفلك عنونَها بــ“قلائد اللّآلي في عمل الأيام والليالي”، وكتاب “تبصرة الإخوان في الهيئة”[2].

واعتنت السلطة كثيراً بالعلماء وبالمجالات العلمية التي كانت للمشرق وللغرب الإسلامي الريادة فيها، وأساساً الجبر والهندسة وعلم الهيئة (الفلك)، وعملت على تقريب العلماء وتبويئهم المكانة اللائقة بهم.

طَوْرَي المرابطين والموحِّدين (1056 – 1269)

بقدر ما كانت الدولتان المرابطية والموحدية بارعتان في الرفع من شأن الفقه والحديث وعلوم الشريعة واللغة _ مع اعتبار استعمال الأمازيغية لعقودٍ طويلة _ والشِّعر، وكان لسلاطينها الحضور الـمؤثِّر في مجرى النقاشات العلمية والفقهية التي شهدتها أرض المغرب الأقصى؛ بقدر ما كانت عنايتهما موصولة بمجالات علمية وفنون تخصيصية، سمحت ببروز روّاد كبار يُرجَع إليهم اليوم على مستوى النظريات والتأسيسات التي أسَّسوها لمنطق العلوم.

فنذكر ممن علا نجمه وسطع اسمه في العَصرين المرابطي والموحّدي؛ العلّامة المتقِن لعلم الفلك يحيى بن محمد بن أبي الشيكر المغربي، وعالم في الرياضيات والفلك ومخترع الساعات الشمسية  الحسن بن علي المراكشي، وعالم الرياضيات ابن الياسمين الفاسي، فضلا عن ابن طُفيل وعائلة ابن زُهر التي نبَغت في الطِّب. وقد ساهم مُقام بعضهم في المغرب وولادة بعضهم الآخر في المغرب في انتقال مركز الثِّقل العلمي مِن الأندلس إلى المغرب مع سلطة الدولتين المرابطية والموحدية.

لكن مع ذهاب قوة الموحّدين[3] واضمحلال سلطتهم؛ حلَّ التراجع مكان ازدهار العلوم خلال القرن 7 الهجري 13 الميلادي، وتراجعت العلاقات العلمية بين المشرق والغرب الإسلامي إثر اجتياح المغول لعاصمة الخلافة العباسية بغداد سنة 1258، فكان لهذه الأحداث وقع مؤثِّر على تخلُّف الذهنية الاجتماعية عن مسايرة الواقع العلمي، وتخلُّف طرائق تدريس العلوم، وانصراف المغاربة عن الإقبال على المعارف العقلية. بل أثَّر ذلك عميقاً على اختلال العمران، الذي بدوره يؤدّي إلى تقلُّص انتشار العلوم “..فخرُبَت الأمصار والمصانع، ودَرَسَت السُّبُل والمعالم، وكأنّما نادى لِسان الكون في العالم بالخمول والانقِباض. وإذا تَبَدَّلت الأحوال جُملةً فكأنّما تَبَدَّلَ الـخَلْقُ من أصْلِه، وكأنّه خَلْق جديد، ونشأة مُستأنَفَة، وعالَم مُحدَث“.[4]

فترات الانقطاع تتخلَّلتها لحظاتُ طَفرات علمية ما تزال مصدر فخرنا إلى اليوم، تجسَّدت في ظهور كفاءات علمية متميّزة كــ: ابن البَنّاء الأزدي المراكشي صاحِب مُصنّفات: ”الجبر والمقابلة“، ”القوانين“، ”رسالة في العمَل بالعدد الرّومي“، ”منهاج الطالب في تعديل الكواكِب“، ”الـيَسَّارة في تقويم الكواكِب السيارة“، ”رسالةٌ في المساحة“، و”رفع الحجاب عن تلخيص أعمال الحساب“، ”قانون معرفة الأوقات بالحساب“[5]. فـــ”رياضيٌّ كابن البَـنّاء المراكشي لم يَكن يَكتب للتاريخ، ولا كان يقوم بالبحث الرياضي لمجرّد البحث، بل على العكس من ذلك، فإنّه أرادَ تسخيرَ الرياضيات لكي تستجيب لحاجات مُعاصريه ومُتطلّبات الشروط التاريخية التي كان يَعمَل في ظِلِّها..ّ[6]

ظهَر كذلك العالِم عبد الرحمن بن محمد الجديري المديوني الفاسي المختص في علم التوقيت والحساب، وساهمت أعماله إلى جانب آخرين في استحداث وتطوير أدوات وأعمال علمية في القرنين 14 و15، من قبيل:  (الـمَزاول الشمسية، الأسطرلابات، الساعات، الـمَطاحِن..).

المراجع
[1] ابن خلدون عبد الرحمن: ”كتاب العِبر، وديوان الـمُبتَدأ والخبر، في أيام العرب والعجَم والبربر، ومَن عاصَرهم من ذوي السلطان الأكبر“، المكتبة العصرية، لبنان، تحقيق درويش الجويدي، طبعة 2011. ص: 630.
[2] معلمة المغرب، مجموعة مؤلِّفين، الجمعية المغربية للتأليف والترجمة والنشر، مطابع سلا، الطبعة الأولى 1989، الصفحة 4466.
[3] جبرون امحمد، تاريخ المغرب من الفتح الإسلامي إلى الاستعمار 68م – 1912، سلسلة تاريخ المغرب للأطفال واليافعين، الجزء 4، "الدولة الموحدية 1120م – 1269م"، سليكي أخوين، طنجة، الطبعة الأولى فبراير 2020.
[4] ابن خلدون عبد الرحمن، كتاب العِبر، وديوان الـمُبتَدأ والخبر، في أيام العرب والعجَم والبربر، ومَن عاصَرهم من ذوي السلطان الأكبر، مرجع سابق.
[5] مجلة زمان النسخة العربية، عدد مايو 2020.
[6] أبلاغ محمد، "تاريخ الرياضيات في الغرب الإسلامي بين الدين والفلسفة"، مجلة (الواضحة)، منشورات دار الحديث الحسنية للدراسات الإسلامية العليا بالرباط.